يطرح التصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني الراهن في قطاع غزة إثر هجوم حركة “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي، ضرورة التفكير في مقاربة جديدة للتعامل مع مستقبل القطاع، ضمن إطار أشمل يتعلق بحل القضية الفلسطينية على أسس السلام العادل والشامل ومقررات الشرعية الدولية. فإذا كان وقف إطلاق النار هو الأولوية التي تشغل التحركات الدبلوماسية الراهنة، لأغراض مساعدة المدنيين ووقف نزيف دمائهم، والخشية من سيناريو الانفلات الإقليمي للحرب؛ فإن سؤال “اليوم التالي” المتعلق بمصير قطاع غزة يؤرق الدوائر السياسية والفكرية في العالم، لأن الإجابة عليه ستُحدد ما إذا كان الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني سينفجر ثانية على غرار مرات سابقة، أم ستكون المواجهة الراهنة فرصة لوضع أسس جديدة يمكن عبرها ضمان سلام مستدام؟
وسارعت العديد من مراكز الفكر الغربية والشخصيات المهتمة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى تقديم مقاربات وتصورات مختلفة لـ”اليوم التالي” بعد توقف إطلاق النار في غزة، مفترضة أن “فراغًا محتومًا” سينشأ في قطاع غزة يقتضي التعامل معه إذا حققت إسرائيل هدفها المعلن في القضاء على حركة “حماس”، وهو ما قد يخلق أوضاعًا جديدة، ويُنهي ما كان قائمًا في القطاع قبل السابع من أكتوبر.
وبغضّ النظر عما إذا كانت تلك الفرضية واقعية، أم لا تزال قيد الديناميات العسكرية المشتعلة حاليًا في قطاع غزة، بخلاف أنها تعكس انحيازًا غربيًا جليًا للرؤية الإسرائيلية؛ فإن المقاربات الغربية المطروحة حول مستقبل القطاع تستدعي فحصًا لمدى واقعيتها وقابليتها للتنفيذ في الواقع الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، يطرح مجموعة من الخبراء والمتخصصين في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية مقاربة تفكير مغايرة؛ تستند إلى رؤية أشمل للحقوق الفلسطينية العادلة في مرحلة ما بعد الحرب، وعلى أساس أن حل “معضلة غزة” هو مسئولية فلسطينية أولًا وأخيرًا.
تصوّرات غربية “منحازة”
تنوعت التصورات الفكرية الغربية حول مستقبل غزة، وملامح الأوضاع المتوقعة فيما بعد العملية العسكرية التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتأسست تلك التصورات -في مجملها- على ثلاثة افتراضات؛ الأول، أن إسرائيل ستنجح في تحقيق هدفها في القضاء على حماس. الثاني، إعفاء إسرائيل من المسئولية عن القطاع بعد وقف إطلاق النار. الثالث، أن ثمة إدارة لمرحلة انتقالية لملء الفراغ في غزة بعد الحرب قبل تولِّي السلطة الفلسطينية فيما بعد مسئولية القطاع.
وتباينت تلك التصورات في الأفكار المطروحة بشأن الإدارة المقترحة خلال العملية الانتقالية، ومن أبرزها:
- تولِّي شخصيات تكنوقراط –غير سياسية- إدارة قطاع غزة.
- تولِّي الأمم المتحدة إدارة قطاع غزة مع تواجد قوات أممية.
- تولِّي قوات متعددة الجنسيات مسئولية الحفاظ على الأمن في غزة.
- تولِّي مجموعة من الدول العربية مهمة الحفاظ على الأمن في غزة.
إلا أن تقييم تلك التصورات الغربية يكشف عن إشكاليات ومعضلات عديدة من أبرزها:
أولًا: تتجاهل معظم التصورات المطروحة مسألة ضرورة وقف إطلاق النار، أو وضع سيناريوهات حول المدى الزمني الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك، خاصة أن هذه هي الخطوة الضرورية التي من دونها لا يمكن لتلك التصورات أن تكون قابلة للتنفيذ.
ثانيًا: تشير تصورات اليوم التالي لغزة إلى انحياز واضح، ينسجم مع الانحياز السياسي الرسمي الغربي للجانب الإسرائيلي. فمعظم تلك التصورات تصب -حال تحقيقها- في اتجاه إعفاء إسرائيل من مسئوليتها كقوة احتلال، وتسعى لتحميل أطراف أخرى دولية وإقليمية تبعات كثيرة ومركبة لتخفيف العبء على إسرائيل.
ثالثًا: تعالج التصورات المطروحة للأوضاع المستقبلية في غزة، فقط في ضوء ما يحدث منذ السابع من أكتوبر، وهو ما يمثل تماهيًا مع الرؤية الإسرائيلية التي تسعى لفصل غزة عن مجمل القضية، أو مستقبل الدولة الفلسطينية. ومن ثم تقزم تلك التصورات القضية الفلسطينية وتحصرها في الحديث عن غزة، دون معالجة القضية من المنظور الأشمل المتعلق بالتسوية السياسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في ضوء مقررات الشرعية الدولية.
رابعًا: تنشغل التصورات المطروحة بالأساس بالقضاء على حماس بأي شكل من الأشكال، وتعتبر أن العملية البرية الإسرائيلية قادرة على تحقيق هذا الهدف، وهو ما لا تعكسه تطورات الأوضاع الميدانية حاليًا في غزة بعد شهر كامل من العمل العسكري، في ضوء ارتفاع التكلفة الإنسانية والبشرية كنتيجة للعملية العسكرية الإسرائيلية، فضلًا عن إغفال احتمالية اتساع النطاق الجغرافي للصراع خارج حدود مسرح العمليات بقطاع غزة، بل وخارج حدود دولة إسرائيل.
خامسًا: تتماهى تلك السيناريوهات مع الموقف الإسرائيلي الذي يسوق فكرة أن ما يحدث في القطاع هو للقضاء على حماس وليس على الفلسطينيين، من خلال تبني سياسة العقاب والإنهاك الجماعي، ومنع المساعدات الإنسانية عن عموم السكان المدنيين في القطاع.
سادسًا: تتجاهل هذه التصورات حالة التأجيج العام للرأي العام الفلسطيني والعربي، خاصة بعد سقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة على مدار شهر في ظل قصف إسرائيلي عنيف وغير مسبوق، الأمر الذي يخلق بيئة فلسطينية وعربية غاضبة ورافضة لأي تصورات غربية لـ“اليوم التالي” لغزة.
على أساس تلك الإشكاليات والمعضلات، يمكن القول إن التصورات الغربية لليوم التالي في قطاع غزة، تستهدف بالأساس إخراج إسرائيل منتصرة تمامًا في تلك الحرب. إذ تعكس أغلبها رغبة إسرائيلية في التخلي عن مسئولياتها كسلطة احتلال، كما تسعى لتحميل أطراف أخرى هذه المسئولية، وتبقى هي بعيدة -بشكل أو بآخر- عن التعامل المباشر مع تشابكات الأوضاع في غزة، بما يضمن لها تحقيق مكاسب دون تكاليف.
على الجانب الآخر، فإن تحليل مضمون أغلب تلك التصورات الغربية يشير إلى أن تركيزها على مسار التسوية السلمية محدود للغاية، مما يجعلها مجرد “حل مؤقت” لإرضاء الجانب الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يمثل العقبة الرئيسية في قابلية تلك التصورات للتحقق على أرض الواقع، لكونها تنتهج معادلة صفرية (ربح إسرائيلي/ خسارة فلسطينية)، وبالتالي لا تقدم أي مكاسب حقيقية للطرف الفلسطيني، سواء أكان للمجتمع في غزة الذي دفع ثمنًا باهظًا وغير مسبوق للحرب، أو حتى حفز السلطة الوطنية الفلسطينية على القبول بلعب دور أكبر في اليوم التالي في غزة.
رؤية مصرية شاملة
لم تستطع معظم التصورات الغربية المطروحة لليوم التالي في قطاع غزة، تجاوز الدور المصري وأهميته القصوى باعتباره “العامل المرجح” لأي من هذه السيناريوهات المستقبلية، التي يمكن أن تنتهي إليها الأوضاع في القطاع. ومع ذلك، فإن تلك التصورات لم تتنبه بالقدر الكافي لمحددات ذلك الدور، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة الحالية في غزة، ولكن بتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل عام.
إذ تستهدف مصر حلًا عادلًا وشاملًا يضمن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال إقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ولعلّ عدم الانتباه لمحددات الموقف المصري الثابت والمعلن من القضية الفلسطينية، يعد من أهم أسباب عدم قابلية السيناريوهات الغربية المطروحة لمستقبل غزة للتحقق على أرض الواقع.
وترتكز الرؤية المصرية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على الاعتقاد الجازم في أنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية سوى من خلال الدولتين، وأن تصورات البعض بشأن جدوى الحل أو الحسم العسكري لهذا الصراع هي خارج إطار الواقع، ولا يمكن القبول بها. وأن السياسة الإسرائيلية القائمة على إغلاق الأفق السياسي أمام الفلسطينيين ستكون عواقبها وخيمة، ومن ثم فلا بديل عن إحياء المسار السياسي.
ويظلّ إحياء المسار السياسي بندًا رئيسًا على أجندة الدولة المصرية، حتى في ظلّ اشتعال المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولم تكن المواجهة الحالية استثناء من ذلك التوجه. فمنذ اليوم الأول للمواجهات ومع محاولات التحذير والعمل على وقف أو خفض التصعيد، طرحت مصر ضرورة الانتباه للمسار السياسي. في هذا الإطار، جاءت دعوتها واستضافتها للمؤتمر الدولي بالقاهرة في الـ21 أكتوبر 2023 الذي خصصته للمسار السياسي، فكان عنوان المؤتمر “مؤتمر القاهرة للسلام”، للتأكيد على ضرورة المقاربة الشاملة للتصعيد الجاري.
ومع انسداد الأفق السياسي نتيجة للانحياز الغربي غير المسبوق للجانب الإسرائيلي، تبنت القاهرة المسار الإنساني، وسعت لحشد المجتمع الدولي لتبني ذلك المسار، وهو ما نتج عنه الاتفاق الذي سمح بفتح معبر رفح من جانبه الفلسطيني لإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة للفلسطينيين داخل القطاع.
في الوقت نفسه، واجهت مصر المخططات الإسرائيلية لتوظيف هجوم السابع من أكتوبر، إذ أدركت أن الهدف الإسرائيلي من التصعيد هو وضع مخطط “التهجير القسري” للفلسطينيين باتجاه سيناء لتصدير الأزمة لمصر موضع التنفيذ، من خلال أكبر عملية عسكرية من القصف الموسع على القطاع لتحوله إلى “قنبلة بشرية” قابلة للانفجار باتجاه مصر. إزاء ذلك المخطط، أعلنت مصر بشكل واضح أن التهجير القسري للفلسطينيين مرفوض، وأن محاولات تصفية القضية الفلسطينية مرفوضة، وأن تصدير الأزمة لمصر هو خط أحمر غير قابل للنقاش.
على أساس ذلك، فإن التصور المصري لليوم التالي للتصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني الراهن يقوم بالأساس على ضرورة وقف إطلاق النار، وأن الحديث لا يجب أن يقتصر على اليوم التالي في قطاع غزة، بل يجب أن يشمل القضية الفلسطينية، باعتبار أن الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وحدة سياسية واحدة تشكل معًا الدولة الفلسطينية، وأن مصر بذلت الكثير من الجهود من أجل إبقاء عملية السلام أو التسوية السياسية للصراع على قيد الحياة، رغم العقبات التي شهدتها من إسرائيل أولًا، ثم من جانب بعض الفصائل الفلسطينية.
في إطار تلك الجهود، عملت مصر على دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، وسعت منذ اليوم الأول لسيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة في يونيو 2007 لإنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية، إدراكًا منها أولًا لخطورة ذلك الانقسام على الموقف الفلسطيني. بيد أن مسيرة عقد ونصف من الجهود المصرية قد تعثرت بسبب عدم التزام الفصائل بالاتفاقات الموقعة في القاهرة، وثانيًا لخطورة استغلال ذلك الانقسام من جانب إسرائيل كمبرر لعدم الاستمرار في عملية التسوية السياسية، على اعتبار أنه “لا يوجد شريك فلسطيني”. ولعل عدم الاستمرار في التسوية السياسية شكّل البيئة التي فجرت المواجهات الإسرائيلية–الفلسطينية المتعاقبة في قطاع غزة، وأنهكت بنيته التحتية، وجعلت حياة الفلسطينيين صعبة في ظل حصار سلطة الاحتلال.
معبر رفح بعد الحرب
في ظل هذا الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، بدت مصر اللاعب المحوري في تقديم العون للقطاع عبر معبر رفح، وهو الشريان الوحيد الذي يربط القطاع بالعالم. والتزمت مصر بأن يبقى المعبر مفتوحًا أمام الفلسطينيين رغم أن اتفاقية المعابر الموقّعة في عام 2005 تنصّ على أن المعبر يعمل بوجود أطراف ثلاثة على الجانب الفلسطيني: أولهم السلطة الوطنية الفلسطينية، وثانيهم إسرائيل، وثالثهم الاتحاد الأوروبي.
ومع سيطرة حماس على قطاع غزة، انسحب موظفو السلطة الفلسطينية، ومعهم مسئولو الاتحاد الأوروبي، بما يعني طبقًا للاتفاقية أن يغلق المعبر، وهو الأمر الذي عملت مصر خلال سنوات عدة على تجنبه. ومع اشتعال المواجهة الإسرائيلية-الفلسطينية الجارية لم يعد المعبر مقتصرًا على خروج الأفراد، بل باتت الحاجة ملحة لاستخدامه في إدخال شاحنات المساعدات، وهو الأمر الذي نجحت فيه مصر أيضًا رغم كل العقبات التي وضعتها إسرائيل.
مع هذه الأهمية لمعبر رفح، فإنه يحتاج هو الآخر لطرح سيناريوهات بشأن اليوم التالي لوضعيته، ولكن في إطار مقاربة شاملة للقضية الفلسطينية. فالتصورات الغربية التي تحاول إعفاء إسرائيل من مسئوليتها تجاه الفلسطينيين، تعني بشكل أو بآخر إنهاء اتفاق المعابر 2005، وأن إسرائيل لن تبقى على صلة بعمل الملف، وأن المعبر سيصبح فلسطينيًا مصريًا خالصًا، بكل ما يعنيه ذلك من سيادة كاملة للفلسطينيين على الجزء الفلسطيني من المعبر، أيًا كان السيناريو المتوقع لليوم التالي في القطاع.
سيناريو الحل الفلسطيني
في ظل ملابسات التصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني الراهن، والتصورات والسيناريوهات الغربية المنحازة لمستقبل قطاع غزة بعد الحرب، فإن طرح تصور أقرب للواقع وللحقوق الفلسطينية في حل قضيتهم بشكل شامل وعادل ينبني بالأساس على سيناريو “الحل الفلسطيني” الذي لا يعرض القطاع لتدخلات من أطراف إقليمية ودولية. هذا الحل المقترح له جسر أو مدخل وحيد هو عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة غزة، في محاولة لاستعادة “الوضع الطبيعي” لما قبل عام 2007، وهو المسار الآمن الوحيد المتاح لعلاج المسببات الحقيقية للانفجار الراهن في غزة وحل القضية الفلسطينية بشكل واقعي.
يقضي هذا السيناريو المطروح بأن تكون السلطة الفلسطينية موجودة وتدير قطاع غزة سياسيًا ومجتمعيًا، بينما تصبح حماس والجهاد فصيلين فلسطينيين مثلهما مثل كل الفصائل الفلسطينية، يجمع بينهم الاتفاق على الحق الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية، وإن اختلفا سياسيًا في وسائل تحقيق ذلك. وهنا يكون العمل لاحقًا على انضمام حماس والجهاد لمنظمة التحرير الفلسطينية كفيلًا بإسباغ الشرعية على جميع مكونات الشعب الفلسطيني. إلا أن هذا السيناريو يحتاج إلى متطلبات أساسية، من أبرزها:
1- تهيئة الحاضنة الشعبية للسلطة الوطنية الفلسطينية في غزة، كي لا يؤدي عودتها إلى نزاع فلسطيني-فلسطيني لا يمكن التحكم في عواقبه. بعبارة أخرى، فإن اليوم التالي في غزة كلما كان فلسطينيًا خالصًا وتتولاه كيانات أو شخصيات لا توجد خلافات شعبية أو فصائلية بشأنها، كانت فرصه أكبر في النجاح.
2- ضرورة أن تُطرح عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة في إطار مقاربة شاملة للقضية الفلسطينية، برعاية أو ضمانات أو التزامات عربية ودولية تستهدف بالأساس إعادة مسار العملية السياسية في إطار حل الدولتين، بما من شأنه فتح الأفق السياسي ونافذة الأمل أمام الشعب الفلسطيني.
3- توفير الدعم الاقتصادي والمؤسسي للسلطة الفلسطينية للتعامل مع الوضع الصعب الذي تسبب فيه القصف الإسرائيلي بتدميره للبنية التحتية والمساكن والمنشآت الاقتصادية والصحية وغيرها في القطاع، وسيساعد هذا الدعم في منح السلطة الوطنية شرعية شعبية جديدة للتواجد في القطاع، وتغيير خريطة التوازنات الفصائلية، وإعادة القرار الفلسطيني ليصبح فلسطينيًا وطنيًا متوافقًا عليه.
ويساعد هذا السيناريو المتصور لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، على عدم استدامة الانفصال الفلسطيني-الفلسطيني، وإبعاد القضية الفلسطينية عن التجاذبات الإقليمية والدولية، وضبط إدارة العلاقة مع إسرائيل، بما لا يجعلها قابلة للانفجار ونشوب مواجهات تؤدي إلى تدمير حياة السكان في القطاع. وأخيرًا، يمكن أن يمهد لإطلاق مسار التسوية والسلام في الشرق الأوسط.
على الجانب الآخر، يجنب هذا السيناريو الفلسطينيين العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن التصورات التي تتعلق بتواجد إقليمي أو دولي أو أممي لإدارة قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، خاصة أن التفكير الغربي في هذا التواجد بذريعة المساعدة أو تهيئة الأجواء لعودة السلطة الفلسطينية، وتمكينها من إدارة القطاع، وإن كان يحمل بعض الوجاهة النظرية؛ إلا أنه يحمل بذور القضاء على الفكرة تمامًا، فلا السلطة الوطنية الفلسطينية ستقبل بأن تلتصق بها فكرة العودة المدعومة غربيًا إلى القطاع في مواجهة فصائل فلسطينية، ولا الفلسطينيون أنفسهم في القطاع أو الضفة الغربية سيرحبون بذلك.
كما أن التجربة الغربية لإعادة بعض الأطراف إلى مواقع السلطة بهذا الشكل كافية، على نحو ما حدث في العراق قبل نحو عشرين عامًا، لرفض تلك التجربة شعبيًا. علاوة على ذلك، فإن طرح السيناريوهات الغربية فكرة الفترة الانتقالية كمدخل لتواجد دولي، تبقى هي الأخرى فكرة نظرية غير مرحب بها. خاصة في ضوء الخبرة السلبية أيضًا في المنطقة لتلك الفكرة، حيث لا توجد أية ضمانات تتعلق بضمان انتهاء المرحلة الانتقالية في موعدها المقرر، واستعادة الوضع الطبيعي الذي يخدم القضية الفلسطينية ومسار التسوية. بل إن احتمالات أو على الأقل التخوف من تحول المرحلة الانتقالية إلى وضع مستدام يصعب تعديله أو تغييره، تظل قائمة، وتمثل مبررًا كافيًا لرفض الفكرة من أساسها.
يظلّ أنّه مثلما تكشف اللحظة الراهنة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في قطاع غزة عن تصورات وسيناريوهات غربية منحازة لإعفاء إسرائيل من مسئوليتها عما جرى في قطاع غزة، ومحاولة تصدير الأزمة إلى أطراف إقليمية ودولية أخرى، دون الاهتمام بالحل الشامل للقضية الفلسطينية؛ فإن هذه اللحظة أيضًا قد تكون جديرة بالتفكير في طرح “أولوية الحل الفلسطيني” إلى الواجهة عبر سيناريو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد الحرب، بإسناد عربي من الدول السابق انخراطها في تفاصيل وأعباء تلك القضية، كطريق وحيد يعبر عن الحقوق والاحتياجات الفلسطينية الواقعية، ويجنب غزة ويلات العنف مرة أخرى، ويمهد لحل الدولتين وفقًا لمقررات الشرعية الدولية.
المصدر :https://ecss.com.eg/37987/