بعد مضي أكثر من تسعة أشهر على إجراء انتخابات في أكتوبر تشرين الأول في العراق، لا يبدو أن الكتل السياسية قادرة على اختيار رئيس للبلاد ورئيس للوزراء، ليسجل العراق مدة قياسية تبلغ 290 يوما دون رئيس أو حكومة. وجاء هذا الفشل على وقع قيام التيار الصدري باستعراضات للقوة لإيقاف طموحات الإطار التنسيقي أكبر تحالف شيعي بعد انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان وتقديم نوابه استقالاتهم.
فقد اقتحم مئات المتظاهرين المؤيدين للتيار الصدري الأربعاء مبنى البرلمان في المنطقة الخضراء المحصنة في وسط بغداد والتي تضمّ مؤسسات حكومية وسفارات أجنبية، للتنديد بمرشح خصوم الصدر لرئاسة الوزراء، في استعراض جديد للقوة وسط أزمة سياسية معقّدة يعيشها العراق منذ تسعة أشهر.
وبعد نحو ساعتين من دخولهم، دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في تغريدة مناصريه إلى الانسحاب، قائلاً “ثورة إصلاح ورفض للضيم والفساد، وصلت رسالتكم أيها الأحبة، فقد أرعبتم الفاسدين… عودوا إلى منازلكم سالمين”.
وإثر هذه الدعوة بدأ المتظاهرون على الفور الانسحاب تدريجياً من مبنى البرلمان، كما أفاد مراسل فرانس برس.
لم يتمكّن العراق من الخروج من الأزمة السياسية بعد مرور تسعة أشهر على الانتخابات البرلمانية المبكرة في تشرين الأول/أكتوبر 2021، حيث لم تفضِ المحاولات والمفاوضات للتوافق وتسمية رئيس للوزراء بين الأطراف الشيعية المهيمنة على المشهد السياسي في البلاد منذ العام 2003، إلى نتيجة.
وتمكّن المتظاهرون، المحتجون على تسمية الإطار التنسيقي الشيعي، خصم التيار الصدري، لمحمد السوداني كمرشحه لرئاسة الوزراء، من دخول المنطقة الخضراء وأطلقت القوات الأمنية عليهم الغاز المسيل للدموع لمنعهم من التقدّم نحو البرلمان، كما أفاد مصدر مسؤول في وزارة الداخلية وكالة فرانس برس.
ومع ذلك، نجح المتظاهرون في دخول مبنى البرلمان، واقتحموا قاعته الرئيسية وهم يرفعون الأعلام العراقية ويطلقون الهتافات، فيما حمل بعضهم صور مقتدى الصدر، كما أفاد مراسل فرانس برس من المكان.
وقال المتظاهر بشار من داخل البرلمان لفرانس برس “دخلنا رفضاً للعملية السياسية كلها، لا نريد حكومة توافقية، نريد شخصاً مستقلاً يخدم الشعب. وحسب التوجيهات نغادر أو نبقى”.
وإثر اقتحام المنطقة الخضراء، شدد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في بيان أن على المتظاهرين “الالتزام بسلميتهم… وبتعليمات القوات الأمنية المسؤولة عن حمايتهم حسب الضوابط والقوانين”، ودعاهم إلى “الانسحاب الفوري من المنطقة الخضراء”. ودعا في بيان ثانٍ “المتظاهرين إلى الانسحاب الفوري من مبنى مجلس النواب”.
وتوجّه مسؤولون في التيار الصدري، بينهم حاكم الزاملي الذي كان نائب رئيس مجلس النواب قبل استقالته من البرلمان إلى المكان، وطلبوا من المتظاهرين الانسحاب، وفق المسؤول في وزارة الداخلية.
ضد الفاسدين
شاهد مراسل فرانس برس الذي دخل المنطقة الخضراء مع المتظاهرين، أحد المحتجين وقد أصيب إصابة طفيفة في قدمه جراء قنابل الغاز المسيل للدموع.
انطلقت التظاهرة بعد الظهر من ساحة التحرير في وسط العاصمة، حيث رفع المتظاهرون الأعلام العراقية وصوراً للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، معبرين عن رفضهم ترشيح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء، ثمّ توجهوا عبر جسر الجمهورية إلى بوابات المنطقة الخضراء.
وقال المتظاهر علي الشمري البالغ من العمر 40 عاماً لفرانس برس “خرجنا للمطالبة بتغيير الطبقة السياسية الفاسدة”، مضيفاً “أنا أرفض ترشيح محمد السوداني لأنه فاسد ويتبع كتلة دولة القانون”. تابع “نرفض السوداني وأي شخص يأتي به الإطار التنسيقي”.
وقال كذلك المتظاهر محمد علي الذي يعمل عاملاً يومياً ويبلغ من العمر 41 عاماً إنه يتظاهر “ضد الفاسدين الموجودين في الحكم”، مضيفاً “أنا ضد ترشيح السوداني لأنه فاسد وتابع للمالكي. كلهم فاسدون، الإطار التنسيقي فاسد”.
وتابع “الشخص الوحيد الموجود الذي يطالب بحقوق الشعب اليوم هو مقتدى الصدر”.
سمّى الإطار الذي يضم كتلاً شيعية أبرزها دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وكتلة الفتح الممثلة لفصائل الحشد الشعبي الموالي لإيران، النائب الحالي والوزير والمحافظ السابق محمد شياع السوداني، المنبثق من الطبقة السياسية التقليدية، مرشحاً له.
وتعليقاً على أحداث الأربعاء، أصدر الإطار بياناً قال فيه إنه “منذ يوم أمس هناك تحركات ودعوات مشبوهة تحث على الفوضى وإثارة الفتنة وضرب السلم الأهلي”.
واعتبر أن “ما جرى اليوم من أحداث متسارعة والسماح للمتظاهرين بدخول المنطقة الحكومية الخاصة واقتحام مجلس النواب…وعدم قيام القوات المعنية بواجبها يثير الشبهات بشكل كبير”.
كان السوداني (52 عاماً) سابقاً في حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، أبرز الخصوم السياسيين للصدر، قبل أن يستقيل منهما حين طرح اسمه مرشحاً لرئاسة الوزراء في العام 2019. لكن المتظاهرين رفضوا ترشيحه حينها.
وغالبا ما يكون المسار السياسي معقدا وطويلا في العراق، بسبب الانقسامات الحادة والأزمات المتعددة وتأثير مجموعات مسلحة نافذة. ومن شأن أحداث الأربعاء أن تزيد من عرقلة المشهد السياسي ومضي خصوم الصدر السياسيين في عقد جلسة برلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، ومن ثمّ تسمية رئيس الحكومة، كما يقتضي الدستور.
ودائماً ما يذكّر الصدر، اللاعب الأساسي في المشهد السياسي العراقي، خصومه بأنه لا يزال يحظى بقاعدة شعبية واسعة، ومؤثر على المشهد السياسي رغم أن تياره لم يعد ممثلاً في البرلمان. فقد استقال نواب التيار الصدري الـ73 في حزيران/يونيو الماضي من البرلمان، بعدما كانوا يشغلون ككتلة، أكبر عدد من المقاعد فيه.
وتمكن الصدر من جمع مئات الآلاف منتصف تموز/يوليو في صلاة جمعة موحّدة.
لماذا لا رئيس حكومة حتى الآن؟
يعود منصب رئيس الوزراء في العراق تقليدياً إلى شخصية شيعية يجري اختيارها بالتوافق بين القوى السياسية الشيعية المهيمنة على المشهد السياسي.
لكن مقتدى الصدر، صاحب التأثير الكبير على المشهد السياسي في العراق، أراد تغيير هذه القاعدة بعد فوز تياره بـ73 مقعدا في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر التشريعية. وحاز بذلك أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، وأراد أن يكون تياره هو من يسمي رئيس حكومة “أغلبية” إلى جانب حلفائه.
وبعد أشهر من المفاوضات، ترك الصدر لخصومه في الإطار التنسيقي، تحالف قوى شيعية، مهمة تشكيل الحكومة بعدما قام بخطوة مفاجئة بسحب نوابه من البرلمان.
ويضمّ الإطار خصوصاً كتلة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وكتلة الفتح الممثلة للحشد الشعبي، وهي فصائل شيعية مسلحة موالية لإيران باتت منضوية في الدولة.
تطلّب الأمر أشهراً طويلةً من الأخذ والرد، لكن الإطار التنسيقي أعلن الاثنين محمد شياع السوداني مرشحه لرئاسة الوزراء، وهو وزير ومحافظ سابق، يبلغ 52 عاماً، ومنبثق من الطبقة السياسية التقليدية. ويعتبره الصدريون كذلك مقرباً من نوري المالكي.
في ظلّ هذا السياق السياسي، اقتحم مئات من مناصري التيار الصدري البرلمان الواقع في المنطقة الخضراء المحصنة في وسط العاصمة وتضمّ مقار حكومية وسفارات الأربعاء، احتجاجاً على ترشيح السوداني.
ويرى المحلل السياسي العراقي علي البيدر أن الصدر في هذه الخطوة يقول لخصومه أن “لا حكومة ولا خطوات دستورية واستحقاقات انتخابية ما لم يوافق الصدر عليها”.
ويضيف أن الصدر أوصل رسالةً “أنه حاضر بقوة وأنه جزء فاعل عبر الجماهير في المشهد السياسي العراقي وعلى الجميع احترام مواقفه وآرائه”، مضيفاً أنه أظهر أيضاً “القناعة المطلقة بأنه لا يمكن تمرير أي شيء من دون مباركة الصدر”.
هل يحصل تصعيد؟
يرى الأستاذ في جامعة بغداد إحسان الشمري أن “الرسالة الأهم مما حصل هي أن الخارطة السياسية المقبلة، مهما كانت، لن تمضي طالما كان التيار الصدري خارج البرلمان العراقي”.
بدوره، يشرح الباحث ريناد منصور من مركز أبحاث Chatham House أن الصدر يأمل “استخدام قوة الشارع لإسقاط محاولات خصومه في تشكيل الحكومة”، موضحاً “نحن أمام أطول مسارٍ لعملية تشكيل حكومة” شهدته البلاد.
لم يكن اقتحام البرلمان الخطوة الأولى التي يتجه إليها الصدر لاستعراض قوة تياره.
ففي منتصف تموز/يوليو الماضي، تجمّع مئات الآلاف من أنصاره في صلاة جمعة موحّدة في بغداد تلبية لدعوته، في انعكاس لمدى اتساع القاعدة الشعبية التي يتمتّع بها.
بالنسبة لخيار رئيس الحكومة، يستبعد المحلل السياسي علي البيدر أن يغير الإطار التنسيقي اسم مرشحه. ويشرح أن “الإطار التنسيقي قد ينكسر سياسياً إذا قدّم بديلاً إرضاءً للصدر”.
ويزيد ذلك وفق البيدر من خطر وقوع “حرب أهلية” مع امتلاك كل من الطرفين مجموعات مسلّحة.
ويضيف “ليس هناك أي توجّه لتقديم تنازلات عند أي طرف من الأطراف، يعني ذلك أن الوضع سيتجه نحو مزيد من التصعيد”.
ويشير ريناد منصور في الوقت نفسه إلى أن “الانقسامات والخصومات عديدة” داخل الإطار التنسيقي.
ويضيف “البعض منهم قلقون من العمل من دون الصدر وتشكيل حكومة من دونه”، خشيةً أن تتحول تظاهرات ومفاجآت تياره “إلى أمر اعتيادي عند تشكيل أي حكومة مقبلة”.
هل تجري انتخابات جديدة؟
في هذا السياق المتوتّر، تزداد الأصوات المتحدّثة عن احتمال الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة تعيد خلط الأوراق، وتأتي بـ329 نائباً جديداً.
وقد يكون ذلك حلاً يسهل قبوله من التيار الصدري الذي لم يعد ممثلاً داخل البرلمان. لكن الأمر دونه تعقيدات عديدة.
يرى ريناد منصور أن “الصدريين يأملون أنهم بتقديم أنفسهم كقوة معارضة وليس كحزب في الحكومة، يستطيعون جذب مزيد من الأصوات”.
أما البديل، فسيكون “برلماناً غائباً” تحت ضغط التيار الصدري، كما يشرح إحسان الشمري.
ويضيف أن “جزءاً من استراتيجية الصدر هو تطويق البرلمان وقد يكون هناك اعتصام داخله اذا ما أصر الإطار على مرشحه” أو “عصيان مدني”.
وحذّر من أن اقتحام البرلمان ليس سوى “خطوة أولى”، مضيفاً أن “الرسالة كانت واضحة أن الصدر وأتباعه مستعدون أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك”.
مرشح الإطار التنسيقي
وكان الإطار التنسيقي ابرز تحالف شيعي في البرلمان العراقي، قد أعلن الاثنين ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة وزراء العراق، وسمّى الإطار الذي يضم كتلاً شيعية أبرزها دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وكتلة الفتح الممثلة لفصائل الحشد الشعبي الموالي لإيران، النائب الحالي والوزير والمحافظ السابق محمد شياع السوداني، المنبثق من الطبقة السياسية التقليدية، مرشحاً له.
وعقد الإطار الاثنين “اجتماعاً لاختيار مرشحه لرئاسة الوزراء”، وفق بيان صادر عنه، و”بأجواء إيجابية اتفق قادة الإطار التنسيقي وبالاجماع على ترشيح السيد محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء”.
ويفترض الآن بعد إعلان الإطار التنسيقي عقد جلسة برلمان بدايةً لانتخاب رئيس للجمهورية، لاستكمال الاستحقاقات الدستورية، من أجل المضي رسمياً بترشيح السوداني لرئاسة الحكومة.
لكن حتى الآن، لا يوجد توافق بعد على اسم رئيس الجمهورية بين الحزبين الكرديين الكبيرين.
وغالبا ما يكون المسار السياسي معقدا وطويلا في العراق، بسبب الانقسامات الحادة والأزمات المتعددة وتأثير مجموعات مسلحة نافذة.
وكان السوداني (52 عاماً) سابقاً في حزب الدعوة تنظيم العراق، وائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، قبل الاستقالة منهما حين طرح اسمه مرشحاً لرئاسة الوزراء في العام 2019. لكن اسمه رفض من قبل المتظاهرين حينها.
فاز السوداني بعضوية مجلس النواب العراقي ثلاث مرات آخرها في 2021، وشغل مناصب وزارية، حيث كان وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية بين 2014 و2018، ووزيراً لحقوق الإنسان بين 2010 و2014، بحسب سيرة ذاتية صادرة عن مكتبه. وتولّى كذلك منصب محافظ ميسان، الواقعة في جنوب العراق.
تسريبات صوتية
وقد ارتفع منسوب التوتر في العراق بين الطرفين الشيعيين البارزين، زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على خلفية تسجيلات صوتية مسربة منسوبة للأخير، ليزداد تعقيد المشهد السياسي المتأزم منذ الانتخابات التشريعية المبكرة.
نفى المالكي الذي يعدّ من أبرز السياسيين الشيعة في العراق، أن تكون تلك التسجيلات تعود إليه، واعتبر أنها “مفبركة”. وقال حزب المالكي في بيان “إننا لن ننجر إلى فتنة عمياء بين أبناء الوطن الواحد”.
ونشر صحافي عراقي على حسابه في تويتر خمسة تسجيلات مسرّبة منسوبة للمالكي يهاجم فيها المتحدّث الذي قُدِّم على أنه المالكي قوى شيعية لا سيما التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، الذي تجمعه معه علاقات متوترة منذ سنوات.
ويتحدّث صاحب الصوت في التسجيل عن احتمال حصول اقتتال داخلي بين القوى الشيعية، واصفاً الصدر بأنه “يريد دمّ” و”أموال”. ويهاجم كذلك الحشد الشعبي حلفاء المالكي في الإطار التنسيقي قائلاً إن “أمرها بيد إيران”.
ردّ زعيم التيار الصدري على تلك التسريبات مطالباً المالكي “بإعلان الاعتكاف واعتزال العمل السياسي”. ودعا إلى “إطفاء الفتنة من خلال استنكار مشترك من قبل قيادات الكتل المتحالفة معه من جهة ومن قبل كبار عشيرته من جهة أخرى”.
وأضاف متحدثاً عن المالكي أن “لا يحقّ له بعد هذه الأفكار الهدامة أن يقود العراق”.
وبانسحاب نواب الكتلة الصدرية، بات للإطار التنسيقي العدد الأكبر من المقاعد في البرلمان العراقي، لكن حتى الآن لم يتمكّن الإطار أيضاً من الاتفاق على اسم مرشحه لرئاسة الحكومة.
وتجمّع المئات من مناصري التيار الصدري في مدن في جنوب البلاد للاحتجاج على التسجيلات، خصوصاً في الناصرية والعمارة والكوت، كما أفاد مراسلو فرانس برس.
وفي الناصرية، رفع المتظاهرون صوراً لمقتدى الصدر ووالده بحسب مراسل فرانس برس.
وتجمّع العشرات أيضاً في مدينة الصدر في شرق بغداد وهو حي سُمّي تيمناً بمحمد الصدر والد مقتدى، لكنهم تفرقوا سريعاً بحسب مصدر أمني.
وكان صالح محمد العراقي أحد المقربين من الصدر قد دعا في تغريدة إلى التهدئة قائلاً “لا داعي للمظاهرات بخصوص التسريبات”.
دون حكومة لفترة قياسية
ودخل العراق يوم الأربعاء في أطول فترة جمود بعد انتخابات إذ حال التناحر الداخلي، داخل التكتلات الشيعية والكردية بالأساس، دون تشكيل حكومة مما يعطل إصلاحات مطلوبة في حين تجاهد البلاد للانتعاش بعد صراعات استمرت لعقود.
وبعد مضي أكثر من تسعة أشهر على إجراء انتخابات في أكتوبر تشرين الأول لا يبدو أن المشرعين المكلفين باختيار رئيس للبلاد ورئيس للوزراء قد اقتربوا من الاتفاق على شيء، ليسجل العراق مدة قياسية تبلغ 290 يوما دون رئيس أو حكومة.
كانت أطول مدة سابقة في عام 2010 عندما مر 289 يوما دون حكومة إلى أن تولى رئيس الوزراء نوري المالكي فترة ثانية في المنصب.
وتواصل حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي المنتهية ولايتها تصريف الأعمال. وإذا لم تتفق الأحزاب على حكومة جديدة قد تستمر حكومة الكاظمي كحكومة انتقالية لحين إجراء انتخابات جديدة.
وهذا الشلل السياسي ترك العراق دون موازنة عامة لعام 2022، فتوقف الإنفاق على مشروعات للبنية الأساسية مطلوبة بشدة وتعطلت الإصلاحات الاقتصادية.
ويقول العراقيون إن هذا الوضع يفاقم نقص الخدمات والوظائف حتى مع تحقيق بغداد عائدات نفطية قياسية بسبب ارتفاع أسعار الخام ورغم أنها لم تشهد صراعات كبرى منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية قبل خمس سنوات.
قال محمد محمد، وهو موظف متقاعد بالقطاع العام عمره 68 عاما ويقطن مدينة الناصرية الجنوبية “لا توجد حكومة فلا توجد موازنة، والشوارع مليئة بالحفر، والكهرباء والماء نادران، والرعاية الصحية والتعليم متداعيان”.
نفس الظروف التي حكى عنها محمد أثارت احتجاجات في بغداد وجنوب العراق في 2019.
حينها طالب المتظاهرون برحيل الأحزاب التي كانت في السلطة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 وأطاح بحكم صدام حسين واتهموها بالفساد الذي حال دون تقدم العراق. وقتلت قوات الأمن ورجال فصائل مسلحة مئات المتظاهرين وتوقفت الاحتجاجات تدريجيا في 2020.
وتولى الكاظمي المسؤولية كمرشح توافقي إثر الاحتجاجات ووعد بمعاقبة قتلة المتظاهرين وبانتخابات مبكرة أجراها في العاشر من أكتوبر تشرين الأول.
وفقد أغلب من خرجوا في مظاهرات في السابق الأمل في التغيير.
وقال علي الخيالي، وهو ناشط مناهض للحكومة شارك في المظاهرات “ستتشكل الحكومة، أيا كانت، من أفراد وأحزاب شاركت في قتل أصدقائنا”.
أحزاب متناحرة
عادة ما يستغرق تشكيل حكومة في العراق شهورا ويستلزم كسب تأييد جميع الأحزاب السياسية الرئيسية.
ومنذ الإطاحة بصدام، تحتفظ الأحزاب الشيعية التي تمثل الأغلبية السكانية في العراق بمنصب رئيس الوزراء ويتولى الأكراد رئاسة البلاد والسنة رئاسة البرلمان.
وأطال تزايد الانقسامات بين هذه الكتل أمد عملية تشكيل الحكومة بشكل استثنائي هذه المرة.
وفي المعسكر الشيعي، سحب الصدر، الفائز بأكبر عدد من الأصوات في انتخابات أكتوبر تشرين الأول، نوابه البالغ عددهم 74 نائبا من البرلمان الشهر الماضي بعدما فشل في تشكيل حكومة تستبعد منافسيه الشيعة وأغلبهم مدعوم من إيران ولديه أجنحة مسلحة تسليحا كثيفا.
وبهذا الانسحاب ترك الصدر عشرات من هذه المقاعد لمنافسيه، لكنه أشار إلى أنه لن يقف صامتا هو وفصيله وقاعدته الشعبية التي تضم الملايين إن هم حاولوا تشكيل حكومة لا يوافق عليها.
وهدم بضع مئات من أنصار الصدر حاجزا خرسانيا ودخلوا المنطقة الخضراء التي تضم مباني حكومية يوم الأربعاء، قبل أن يقتحموا البرلمان.
وحال الصدر فعليا هذا الشهر دون ترشيح منافسه اللدود المالكي متهما رئيس الوزراء الأسبق بالفساد في تغريدة على تويتر.
وطرح منافسو الصدر مرشحا آخر هو محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء لكن الصدر قد يعارض ترشحه كذلك لأنه من حلفاء المالكي.
وقال عضو في حزب الصدر السياسي طلب عدم الكشف عن هويته لأنه غير مصرح له بإعطاء تصريحات للإعلام “السوداني مجرد ظل للمالكي”.
من ناحية أخرى، تحول الخلافات بين الأحزاب الكردية الرئيسية التي تدير منطقة كردستان في شمال العراق دون اختيار رئيس للبلاد، وهو منصب يتيح لصاحبه فور موافقة البرلمان عليه أن يعين رئيسا للوزراء.
ويتولى الاتحاد الوطني الكردستاني الرئاسة منذ 2003.
أما منافسه الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي حصل على العدد الأكبر من أصوات الأكراد بفارق كبير، فيتمسك بمرشحه للرئاسة. ولا يبدو أن أي طرف على استعداد للتزحزح عن موقفه.
قال شيروان الدوبرداني النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني “لم نتمكن من الاتفاق بعد، منصب الرئيس يجب ألا يظل في قبضة حزب واحد أبد الدهر”.
استعراض آخر للقوة
وفي وقت سابق احتشد مئات الآلاف من أنصار رجل الدين العراقي مقتدى الصدر في شوارع بغداد تلبية لدعوته إلى إقامة صلاة الجمعة في استعراض للقوة أمام خصومه السياسيين.
وتعهد الصدر، الزعيم الشيعي الذي احتل حزبه المركز الأول في الانتخابات العامة التي جرت في أكتوبر تشرين الأول، بحل الجماعات المسلحة العراقية القوية الموالية لإيران ومحاسبة السياسيين العراقيين الفاسدين.
وقال رياض الحسيني (42 عاما)، وهو حرفي من مدينة الحلة في الجنوب سافر إلى بغداد وقضى ليلته في الشارع أمام المنصة حيث كان يأمل في أن يظهر الصدر “يمكن أن نكون ملايين اليوم… إذا دعا الصدر إلى الإطاحة بالأحزاب الفاسدة التي تتولى السلطة فسيرحلون في غضون ساعة”.
وحضر أنصار الزعيم الشيعي من مختلف المناطق في جنوب ووسط العراق صلاة الجمعة في ظل درجات حرارة مرتفعة بمدينة الصدر، إحدى مناطق بغداد حيث يعيش الملايين من أتباع رجل الدين.
ولم يحضر الصدر الصلاة رغم ما تردد عن أنه سيلقي خطبة حماسية.
وفي المقابل، كرر أحد النواب دعوات الصدر للحكومة المقبلة لحل الجماعات المسلحة الموالية لإيران ومعاقبة السياسيين الفاسدين على إهدارهم ثروة العراق النفطية الهائلة. ويرى مسؤولون عراقيون ومحللون مستقلون أن الدعوات موجهة إلى خصمه اللدود رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.
وقال النائب محمود الجياشي “لا يمكن تشكيل حكومة عراقية قوية مع وجود سلاح منفلت وميليشيات منفلتة، لذا عليهم أجمع التحلي بالشجاعة وإعلان حل جميع الفصائل… إن أولى خطوات التوبة هي محاسبة فاسديهم علنا وبلا تردد”.
وتقع مهمة تشكيل الحكومة الآن على عاتق خصوم الصدر المتحالفين مع إيران والأحزاب السنية والكردية في البلاد.
الاحتفاظ بقدم في السلطة
قبل سحب نواب حزبه، دفع الصدر من أجل تشكيل ائتلاف مع حلفاء من السنة والأكراد لتشكيل ما سماه حكومة أغلبية وطنية، وهو تعبير غير مباشر يرمز إلى حكومة خالية من الأحزاب المدعومة من إيران.
ويلقي كثير من العراقيين باللوم على تلك الجماعات في سوء إدارة البلاد منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 والذي أطاح بصدام حسين ودفع الأغلبية الشيعية في العراق إلى تولي السلطة.
وينأى الصدر بنفسه عن تفاصيل السياسة اليومية ولا يترشح لشغل منصب، لكنه احتفظ دائما بقدم له في السلطة.
ولا يزال أنصاره من السياسيين يسيطرون على المئات من الوظائف القوية في الحكومة، بما في ذلك المناصب الوزارية والحكومية.
وأصيب بعض من أولئك الذين أمضوا ساعات في الحر يوم الجمعة لرؤية الصدر بخيبة أمل لعدم حضوره واشتكى العديد من الشبان الذين رفضوا الكشف عن أسمائهم. وقال آخرون إنهم يؤمنون بأن الصدر لديه استراتيجية.
وقالت صفاء البغدادي (42 عاما) وهي معلمة دين تعمل في مدينة النجف بجنوب العراق “الصدر كان هنا يشاهدنا. الولاء مرتبط بالاستجابة لدعوته”.
ويتمتّع الصدر بمكانة سياسية وازنة على المشهد السياسي العراقي منذ سقوط نظام صدام حسين في العام 2003 إثر الغزو الأميركي.
وقال الصدر “إننا أمام مفترق طريق صعب ووعر إبان تشكيل الحكومة من قبل بعض من لا نحسن الظن بهم والذين جربناهم سابقاً ولم يفلحوا”، في إشارة إلى خصومه السياسيين من الإطار التنسيقي الشيعي.
ودعا الصدر خصومه، “إذا ما أرادوا تشكيل الحكومة” الالتزام بعشر نقاط، أبرزها متعلّقة بالحشد الشعبي، وهو تحالف فصائل شيعية مسلّحة أغلبها موالية لإيران.
وقال “إنهم يعدون الشعب بأن تكون حكومتهم المقبلة ليست كسابقاتها فأٌقول إن أول خطوات التوبة هو محاسبة فاسديهم علناً”.
واعتبر الصدر أنه “لا يمكن تشكيل حكومة عراقية قوية مع وجود سلاح منفلت وميلشيات منفلتة لذا عليهم أجمع التحلي بالشجاعة وإعلان حل جميع الفصائل”.
ورأى أنه ينبغي “حفاظا على سمعة الحشد”، أن تتم “إعادة تنظيمه وترتيبه وتصفية جسده من العناصر غير المنضبطة والاعتناء بالمجاهدين منهم والاهتمام بأحوالهم”.
ودعا إلى “إبعاد الحشد عن التدخلات الخارجية وعدم جزه بحروب طائفية أو خارجية وإبعاد الحشد عن السياسة والتجارة حبا وحفاظا على سمعة الجهاد والمجاهدين”.
وأقيمت الصلاة في شارع الفلاح في مدينة الصدر، الحيّ الذي سمّي تيمناً بمحمد الصدر والد مقتدى الذي اغتيل في العام 1999 على يد نظام صدّام حسين. وفضلاً عن كونها جاءت لتوجيه رسائل سياسية، تأتي هذه الصلاة إحياء لذكرى صلوات كان يقيمها كلّ جمعة محمد الصدر في التسعينات تحدياً لنظام حزب البعث.
ونظّم الحدث الجمعة وسط اجراءات أمنية مشدّدة، إذ أقيمت أكثر من نقطة للتفتيش والتحقق من الأوراق الثبوتية من قبل عناصر في التيار الصدري.
وجاء سجّاد (28 عاماً) من مدينة الصدر للمشاركة في هذه الصلاة. وقال فيما جلس على سجادة صلاة “أنا هنا حباً وطاعةً لمقتدى الصدر. نريد أن نثبت للعالم أن مقتدى الصدر لديه جمهور ولديه أشخاصاً يطيعونه”.
من حوله، تجمّع الحضور تحت شمس حارقة استعداداً لبدء الصلاة. وحمل المشاركون صوراً لمقتدى الصدر ووالده محمد الصدر، كما رفعوا الأعلام العراقية، فيما ردّد بعض منهم شعارات تأييد للصدر قائلين “نعم نعم للسيد القائد”.
وحضر المشاركون وفي أيديهم سجادات الصلاة، بينما لفّ البعض أجسادهم بكفن أبيض تمثّلا بما قام به محمد الصدر، ويحمل رمزية الاستعداد للتضحية من أجل قضيتهم. وضعت منصة وسط شارع واسع، فيما أدّى رجال دين الصلاة بمحيطها وخلفهم عدد من المصلين.
.
رابط المصدر: