استغلال الأزمات.. الحضور الإيراني في المشهد السوداني وآفاقه المستقبلية

  • لم تتردد إيران في استغلال الحرب السودانية لاستعادة علاقتها الدبلوماسية بالسودان، ومن ثم تعزيز حضورها داخل هذه الدولة التي تشكل أهميةً استراتيجية كونها واحدة من الدول المشاطئة في البحر الأحمر.
  • رغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وحديث وزيري خارجيتهما عن انطلاق التعاون بينهما في شتى المجالات، فإن التعاون الفعلي بينهما لم يتجاوز المجالين الأمني والعسكري الذي ارتبط بتطور الحرب السودانية الدائرة.
  • يظل التطور التدريجي للحضور الإيراني داخل المشهد السوداني هو أكثر السيناريوهات ترجيحاً، لاسيما في ظل غياب الأفق السياسي لإنهاء الحرب السودانية، وإدراك إيران لما يمثله السودان من أهمية استراتيجية لها، وبخاصة مع اتساع نطاق مواجهتها لإسرائيل والولايات المتحدة.

 

 

بعد ما يزيد عن ثماني سنوات من إعلان السودان قطع علاقته الدبلوماسية بطهران؛ بدعوى تدخلها في شؤون دول الإقليم على أساس طائفي، وتسهيلها الاعتداءات على قنصلية المملكة العربية السعودية وسفارتها بطهران، أعلن كلٌّ من السودان وإيران في أكتوبر 2023 عن عودة علاقتهما الدبلوماسية وتبادل السفراء من جديد، وذلك بعد أشهر من التنسيق والتعاون الثنائي ارتبطا بالحرب الدائرة في السودان بين قوات الدعم السريع والجيش الذي بات يعتمد على الدعم الاستخباراتي والمساعدات العسكرية الإيرانية.

 

ترصد هذه الورقة ملامح وحدود الوجود الإيراني في المشهد السوداني، والمحددات التي أتاحت هذا الحضور، وتستكشف سيناريوهاته المتوقعة.

 

ملامح وحدود الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني

 

لم يكن إعلان وزارة الخارجية السودانية في أكتوبر 2023 عن عودة العلاقات مع طهران، إلا نقطة أساس انطلق منها الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني، وبطبيعة الحال كان حضوراً عسكرياً ارتبط بحاجة الجيش السوداني إلى تطوير قدراته العسكرية على النحو الذي يضمن له استعادة المناطق التي كان قد فقدها خلال أعمال القتال التي بدأت بينه وبين قوات الدعم السريع في أبريل 2023، تمهيداً لحسم الصراع عسكرياً. فقد بدأ الجانبان وبشكل فوري بحث أوجه القصور لدى الجيش السوداني، وما يمكن أن تقدمه طهران له في هذا السياق، وبخاصة أن التصنيع الحربي الذي كان يمدّ الجيش السوداني باحتياجاته من العتاد والسلاح والذخائر توقف مع انطلاق الحرب.

 

سرعان ما بدأت طهران في تزويد الجيش السوداني باحتياجاته من دعم استخباراتي ومعدات وأسلحة، فقد رصدت أقمار صناعية غربية ــــ بحسب وكالة بلومبرغ ــــ خلال شهر يناير 2024 (أي بعد شهرين من الإعلان عن عودة العلاقات بين البلدين) في قاعدة وادي سيدنا شمالي أم درمان طائرات مسيرة من دون طيار إيرانية الصنع من طراز “مهاجر 6” المؤهلة لمهام الاستطلاع وحمل المتفجرات الموجهة. وأتت هذه المساعدات العسكرية ثمارها في خلال شهر فبراير، الذي شكّل نقطة تحوّل في سير الحرب السودانية، بدأت باستعادة الجيش ثقله ووزنه النسبي ليتمكن من فك الحصار المفروض من قبل قوات الدعم السريع على سلاح المهندسين؛ ومن ثم الالتحام بقواته المتمركزة في الجنوب الأوسط لمدينة أم درمان، وكذا السيطرة على بعض المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، من بينها أحياء بمدن العاصمة الثلاث، وهو الوضع الذي استمر لأشهر قليلة قبل أن تنحسر قدرات الجيش مجدداً على خلفية انحسار دعم الجانب الإيراني جراء انشغاله بحادث تحطم المروحية في مايو 2024، والذي أسفر عن مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، ما أدى إلى تدهور واضح في الموقف العسكري الميداني للجيش السوداني الذي فقد سيطرته على عدد من الولايات والمدن والمناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل الفاشر عاصمة ولاية شمال دار فور؛ والفولة عاصمة ولاية غرب كردفان بالإضافة إلى “بابنوسة” بالولاية ذاتها؛ وأغلب مدن ومناطق ولاية سنار مثل سنجة وجبل موية والدندر وغيرهم.

 

وأمام انحسار قدراته العسكرية وتطور القدرات العسكرية لقوات الدعم السريع لجأ الجيش السوداني مجدداً إلى حثّ إيران على رفع مستوى الدعم الاستخباري والعسكري إلى المستويات التي كان عليها قبل “حادث المروحية”، وذلك خلال الزيارة التي قام بها وفد سوداني رفيع المستوى برئاسة وزير الخارجية المكلف حسين عوض إلى طهران مطلع الأسبوع الأخير من شهر مايو، حيث قدم الجانب السوداني تقييماً دقيقاً للموقف العسكري في السودان انطوى على مخاوف الجيش من تمدُّد نفوذ الدعم السريع وسيطرته على أغلب الولايات السودانية، وذلك قبل أن يُعلن الجانبان السوداني والإيراني رغبتهما في استعجال عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتهما، وهو الإعلان الذي سبق استجابة “طهران” للمطالب السودانية بشأن حجم مساعداتها العسكرية للجيش السوداني، وسرعان ما ظهرت ملامحه في عدة مؤشرات، ربما أهمها:

 

  • الدفع بعدد من الطائرات المسيرة دون طيار للمشاركة في عمليات استطلاع واسعة استهدفت تحقيق مجموعة من الأهداف التي تمثلت بالأساس في تحديد محاور تلقي الدعم والإسناد الذي تقدمه بعض الأطراف لقوات الدعم السريع عبر الحدود، فضلاً عن تحديد مناطق ارتكاز ومسارات تحرّك هذه القوات وحجمها، تمهيداً لاستهدافها سواء عبر القوات الجوية بمشاركة المسيرات الإيرانية في بعض الأحيان أو عبر القوات البرية.

 

  • تقديم كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر التي تحتاج إليها قوات الجيش لتنفيذ العمليات النوعية اللازمة لاستعادة سيطرتها على المدن والمناطق التي فقدتها خلال الأشهر السابقة على ذلك، وفق ما ذكرت صحيفة “إيران أوبزيرفر” الإيرانية والتي ربطت ذلك صراحة بزيارة وزير الخارجية السوداني لإيران خلال شهر مايو.

 

  • المساهمة في رفع الكفاءة القتالية للجيش من خلال إعداد العناصر البشرية اللازمة لتطوير المعارك، حيث قامت في هذا السياق بعدد من الأنشطة كالإشراف على إنشاء المعسكرات داخل أوغندا، والتي خُصصت لتجنيد اللاجئين والنازحين تمهيداً لإدماجهم في صفوف الجيش السوداني، وشملت المهام التي نفذها الخبراء الإيرانيون تدريب العناصر المنتقاة على استخدام النظم المتعلقة بتوجيه المسيرات الإيرانية التي يتم تزويد السوداني بها.

 

أخيراً، وبرغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وحديث وزير خارجية السودان المكلف حسين عوض والقائم بأعمال وزير خارجية إيران “علي باقري” ــــ خلال اللقاء الذي جمع بينهما بـ “طهران” في مايو الماضي ــــ عن انطلاق التعاون في شتى المجالات، فإن التعاون بين البلدين حتى الآن لم يتجاوز حدود التعاون في المجال الأمني والعسكري الذي ارتبط بتطورات الحرب السودانية الدائرة.

 

محددات الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني ومحفزاته 

 

ارتبط حضور إيران داخل المشهد السوداني خلال الأشهر الماضية بعدد من المحددات التي تخص كل منهما على حدة، ومحفزات ساهمت بشكل كبير في إنجاز ذلك الحضور.

 

بالنظر إلى تحركات إيران في محيط السياسة الخارجية، وتصريحات مسؤوليها في هذا الشأن، يُلاحظ أن حرص إيران على الحضور داخل المشهد السوداني يرتبط بمحددين رئيسين:

 

الأول، حرص طهران على العودة إلى ما قبل يناير 2016، حينما أعلنت مجموعة من الدول العربية من بينها السودان عن قطع العلاقات معها بمجرد إعلان المملكة العربية السعودية قطعها العلاقات بإيران، الأمر الذي ساهم في فرض ما يمكن اعتباره حصاراً إقليمياً على إيران التي قد تكون وجدت في حضورها داخل المشهد السوداني ــــ عبر دعم الجيش في حربه مع قوات الدعم السريع ــــ مدخلاً مناسباً لاستعادة جانب مما فقدته جراء الأزمة مع الرياض، كما أن استعادة العلاقات مع السودان يُحقق ما هو أبعد من ذلك، في ضوء ما يشكله تقديم الدعم العسكري للجيش السوداني من نقطة اتفاق مع دول تسعى طهران لتطبيع أو ترقية العلاقات الثنائية معها كمصر وتركيا.

 

الثاني، سعي إيران نحو تعزيز نفوذها داخل محيط البحر الأحمر، وبخاصة بعدما أصبحت جبهة البحر الأحمر تمثل أهمية بالغة بالنسبة لها، سواء لانضمامها إلى “عمق الدفاع الاستراتيجي” الإيراني الذي يصل إلى 5 آلاف كيلومتر من حدود الدولة؛ وفق تصريحات اللواء يحيى رحيم صفوي مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، أو لانضمامها إلى قائمة المناطق التي يدور فيها صراع الوكالة بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة، وفي هذا السياق تتزايد أهمية الانخراط في المشهد السوداني عبر بوابة دعم الجيش السوداني كون الأخير يسيطر على الولايات المطلة على البحر الأحمر.

 

وفي المقابل، يمكن فهم استدعاء الجيش السوداني لإيران للانخراط داخل المشهد السوداني في ضوء عدد من المحددات والدوافع:

 

الأول، الحاجة إلى الدعم الاستخباراتي والمساعدات العسكرية اللازمة لتطوير قدراته لتصبح قادرة على الحد من تقدم قوات الدعم السريع تمهيداً لحسم المعركة عسكرياً، وفي هذا الإطار لا يمكن إغفال توافق أنظمة تشغيل أغلب الأسلحة والمعدات المُستخدمة من قبل الجيشين السوداني والإيراني، والذي يُشكل عامل جذب بالنسبة لقيادة الجيش السوداني.

 

الثاني، السعي لتوظيف استدعاء إيران داخل المشهد السوداني كورقة ضغط على الأطراف الإقليمية والدولية المعادية لإيران، بهدف دفعهم إلى الضغط على قوات الدعم السريع للقبول بوقف إطلاق النار وفق الشروط المقدمة من الجيش، وهو ما لم يتحقق إلى الآن؛ حتى إن الجيش اضطر عبر وزير خارجيته في فبراير الماضي، خلال لقائه مع السفراء المعتمدين والمقيمين في بورتسودان، لتأكيد “أن علاقات السودان مع إيران ليست موجهة ضد أي دولة أو مجموعة دول ولا ضد نظام إقليمي أو دولي قائم في المنطقة”.

وفي الأخير، لا يمكن إغفال أهمية بعض المحفزات التي شجعت الجيش السوداني للتقارب مع إيران، وعلى رأسها الاتفاق السعودي-الإيراني الذي جرى بوساطة صينية في مارس 2023؛ وكذا قنوات الاتصال المفتوحة بين طهران والقاهرة ــــ التي يُنظر لها كأقرب الحلفاء للجيش السوداني ــــ بشأن تطبيع العلاقات بين البلدين، حيث رفعت هذه الأمور الحرج عن الجانب السوداني، يضاف إلى ذلك أهداف فرعية لقادة الجيش السوداني تتمثل في السعي لتخفيف “عبء الدَّين” الذي تُطالب به إيران، ويصل إلى نحو نصف مليار دولار تكونت جراء تراكم فوائد مبالغ مالية هي قيمة صفقات نفط آجلة استوردتها الخرطوم خلال عهد الرئيس جعفر نميري (1969 – 1985) ، وكذا الحصول على تسهيلات من جانب طهران لاستيراد النفط والبتروكيماويات بصفة المقايضة مقابل صادرات سودانية زراعية وحيوانية.

 

فرص تمدُّد الحضور الإيراني داخل السودان

 

تكشف تداعيات الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بشكل واضح عن تراجع مناعة المشهد السوداني في مواجهة أي محاولات للتغلغل أو الاختراق بواسطة أطراف خارجية، وبخاصة أن هذه التداعيات قد طالت كافة أوجه الحياة داخل السودان، ما تسبب من جهة في أزمة إنسانية مزمنة بزغت ملامحها في تصاعد عدد النازحين السودانيين حتى مطلع يونيو الماضي إلى نحو 12 مليون نازح للداخل والخارج، ما يُنذر بكارثة إنسانية جراء تدهور عدد من القطاعات الخدمية والأنشطة الاقتصادية والحياتية، وتسارع أزمة الأمن الغذائي التي دفعت إلى التحذير من مجاعة قادمة، وهو أمر مُرجح في ظل ما يعانيه السودان من هشاشة وضعف هيكلي ناتج عن الوضع الاقتصادي المتدهور؛ فبخلاف الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه السوداني الذي بلغ 491%، فَقَد السودان نحو 40% من الناتج القومي، كما تقلصت إيراداته العامة بنحو 80%، وتفاقمت معدلات البطالة لتصل إلى 47.2%؛ بعدما فقد نحو ثلاثة ملايين شخص وظائفهم خلال الأشهر القليلة الماضية، وهي معدلات تدفع المشهد نحو مزيد من الهشاشة.

 

ومن جهة ثانية ومع وضوح المساعي المشتركة للجيش السوداني وإيران لتعزيز التعاون بينهما، تثور التكهنات حول مناعة السودان في مواجهة تحركات “طهران” التي قد تستهدف ــــ على الأمد المتوسط والبعيد ــــ تعزيز حضورها وانخراطها في المشهد الراهن، حيث تُشكل حالة الضعف التي يعانيها الجيش السوداني حالياً والتي يتوقع أن تتفاقم -حتى في حالة انتصاره- مدخلاً جيداً بالنسبة لإيران لمد نفوذها في السودان الذي سيكون بحاجة إلى إعادة بناء قدراته العسكرية، وهو أمر يشجعه تاريخ التعاون بين البلدين سواء في مجال التصنيع الحربي، حيث لعبت إيران دوراً جوهرياً في دعم قطاع إنتاج الأسلحة بالسودان، ودعم عملية التسلح، وشكلت ثاني أكبر مورد للأسلحة بالنسبة للخرطوم إبان حكم الرئيس السابق عمر البشير.

 

وفي المقابل يمكن القول إن المجتمع السوداني يتمتع بدرجة حصانة أعلى من جيشه، وهي الحصانة التي تعود إلى انتشار الإسلام السني في أغلب مناطق السودان، إذ يبلغ عدد المسلمين السنة داخل السودان نحو 95% تقريباً، ينتمي أغلبهم للطرق الصوفية، يضاف إلى ذلك وجود بعض جماعات الإسلام السياسي السنية، بما فيها التيارات السلفية التي لعبت دوراً بارزاً ــــ بجانب الدور الذي لعبته بعض دول المنطقة ومن بينها السعودية ــــ في إجبار نظام البشير عام 2014 على إغلاق المركز الثقافي الإيراني، وهو أمر مفهوم في ضوء تمدُّد نشاط المركز الثقافي الإيراني خلال السنوات السابقة عن ذلك؛ حتى إنه وصل ــــ قبل ذلك بخمس سنوات ــــ إلى حد تشجيع الاحتفال بمولد الإمام المهدي بصورة علنية وبحضور مئات من شيعة السودان، كما بدأ حينها يُنظم دورات في تعلم اللغة الفارسية.

 

آفاق الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني

 

تتعدد المسارات المحتملة أمام الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني الراهن، إلا أن حدوث أي من هذه المسارات دون غيره يرتبط بعدد من المحددات، أهمها أمد الحرب السودانية الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وموقف الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة من تصاعد الحضور الإيراني، وقدرة إيران على الاستمرار في تقديم الدعم والمساعدات العسكرية اللازمة للجيش. أما أبرز المسارات المحتملة أمام الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني؛ فتتمثل في الآتي:

 

السيناريو الأول، تطور الحضور الإيراني تدريجياً: يُرجح هذا السيناريو تطور الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني بشكل تدريجي، وهو أكثر السيناريوهات ترجيحاً، إذ تتزايد فرص تحققه في ضوء عدد من المحددات، في المقدمة منها غياب الأفق السياسي لإنهاء الحرب في السودان، مع تعثّر الموقف العسكري للجيش السوداني جراء عدم إجادة خوض حروب الشوارع التي يجيدها خصمه الممثل في قوات الدعم السريع، فضلاً عن تطور القدرات العسكرية للأخير، ما يدفع قيادة الجيش إلى التمسك بتطوير العلاقات مع طهران التي باتت تمثل داعماً رئيساً لعملية تطوير القدرات العسكرية للجيش السوداني، لاسيما مع محدودية الدعم الاستخباراتي والعسكري الذي تقدمه أطراف أخرى مقارنة بطهران. يضاف إلى ذلك ما يمثله المشهد السوداني الآني من مناخ ملائم بالنسبة لإيران لتعزيز نفوذها بمنطقة البحر الأحمر التي تقع ضمن اهتماماتها الاستراتيجية، وبخاصة في ظل حضورها الملموس في اليمن. كما أن التدخل في المشهد السوداني ــــ بالنسبة لإيران ــــ من شأنه تطوير مسار تطبيع العلاقات أو تعزيزها مع الأطراف الإقليمية التي تدعم الجيش السوداني هي الأخرى، وتحديداً مصر، وفي الأخير فإن نجاح الجيش السوداني في حسم الصراع عسكرياً بمساعدة إيرانية سيشكل أساساً متيناً لعلاقة استراتيجية ممتدة مع هذه الدولة.

 

ومع ذلك، فإن فرص عدم تحقق هذا السيناريو، وإن كانت محدودة، تظل قائمة في ظل وجود رفض غربي قاطع لتمدُّد الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني بزغ في عدد من التحركات والإجراءات، ربما أبرزها تلويح المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان توم بيرييلو بإرسال قوات دولية أفريقية، وقيام أطراف متعددة إما بإعادة إحياء مبادرات أو آليات لتسوية الأزمة أو طرح مبادرات وآليات جديدة، كمحادثات وقف إطلاق النار التي دعا إليها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأطراف المتحاربة للاجتماع في جنيف خلال شهر أغسطس؛ بمشاركة المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات والاتحاد الأفريقي.

 

السيناريو الثاني، انحسار الحضور الإيراني تدريجياً مع استمرار العلاقات الدبلوماسية: ويفترض هذا السيناريو انحسار الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني تدريجياً، وذلك دون المساس بالعلاقات الدبلوماسية التي عادت مؤخراً بين البلدين، وهو سيناريو أقل ترجيحاً، فمن ناحية يستمد هذا السيناريو فرص حدوثه في ضوء عدد من الاعتبارات، في المقدمة منها المخاوف التي قد تتولد لدى قادة الجيش السوداني من تداعيات سماحهم بمزيد من الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني على عكس رغبة القوى الغربية، وعلى رأس هذه التداعيات توسيع نطاق الحرب وتصعيد حدتها سواء من خلال إعطاء الضوء الأخضر للأطراف الداعمة لقوات الدعم السريع بتقديم مزيد من المساعدات العسكرية لها، أو من خلال الدفع بقوات أجنبية؛ وهو الإجراء الذي ترفضه قيادات الجيش كونه يحرمهم من إمكانية الحسم العسكري للصراع إذا ما توافرت لهم الإمكانات اللازمة، يضاف إلى ذلك مخاوفهم من عدم قدرة “طهران” على تقديم المساعدات اللازمة لتحقيق الحسم العسكري، إذا ما استمرت أو تصاعدت المواجهات التي تخوضها أذرعها المسلحة (حزب الله وجماعة الحوثي وبعض المليشيات العراقية) مع إسرائيل، وهي أمور قد تؤدي إلى تراجُع قادة الجيش السوداني عن طلب المساعدات العسكرية من طهران، وبخاصة إذا ما قامت أطراف أخرى قادرة بتوفير الدعم اللازم.

 

ومن ناحية أخرى، تظل فرص عدم حدوث هذا السيناريو قائمة، ومن ثم تطور الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني في ضوء استمرار تدفق المساعدات على قوات الدعم السريع، مما يؤدي إلى إطالة أمد الحرب وحرمان الجيش من فرصة “الحسم العسكري” للصراع، وبخاصة إذا ما فشلت الأطراف الغربية في فرض المسار السياسي لإنهاء الصراع.

 

السيناريو الثالث، تطور الحضور الإيراني في المشهد السوداني إلى علاقة شراكة استراتيجية: يفترض هذا السيناريو تطور الحضور الإيراني داخل المشهد السوداني بشكل سريع، وصولاً إلى توقيع اتفاقات تؤسس لعلاقة شراكة استراتيجية بين البلدين، وهو سيناريو غير مرجح على المديين القصير والمتوسط في ظل عدد من الظروف والاعتبارات التي تتمثل في إدراك إيران لتداعيات تطوير حضورها داخل المشهد السوداني على خلاف رغبة الأطراف الغربية، مما يُزيد من ردة فعل هذه الأطراف في اتجاه تحجيم هذا الحضور من الأساس، لاسيما أنه بات مصحوباً بحضور روسي مُرشح للتنامي، يضاف إلى هذا انشغال طهران بعدد من الملفات على رأسها إعادة ترتيب المشهد السياسي الداخلي، والصراع مع إسرائيل، بالتوازي مع إدراك قيادات الجيش السوداني لما قد تشكله هذه الخطوة من استفزاز للقوى الغربية التي قد تتخلي عن حيادها لصالح “الدعم السريع”، ما يجعل قادة الجيش أميل إلى السماح بحضور إيراني تدريجي يحقق لهم الفارق بأقل كلفة سياسية ممكنة.

 

خلاصة 

  • بدا واضحاً أن إيران لم تتردد في استغلال احتدام الحرب السودانية ــــ الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ــــ لاستعادة علاقتها بواحدة من دول المنطقة التي قطعت علاقتها بطهران عقب توتر العلاقات مع السعودية قبل سنوات، ومن ثم تعزيز حضورها داخل هذه الدولة التي تشكل أهميةً استراتيجية بالنسبة لطهران كونها واحدة من الدول المشاطئة في البحر الأحمر.

 

  • رغم عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وحديث وزيري خارجيتهما عن انطلاق التعاون بينهما في شتى المجالات، مازال التعاون الفعلي بين البلدين لم يتجاوز حدود التعاون في المجالين الأمني والعسكري الذي ارتبط بتطور الحرب السودانية الدائرة.

 

  • يظل التطور التدريجي للحضور الإيراني داخل المشهد السوداني هو أكثر السيناريوهات ترجيحاً، لاسيما في ظل غياب الأفق السياسي لإنهاء الحرب السودانية، وإدراك إيران لما يمثله السودان بالنسبة لها من أهمية استراتيجية، وبخاصة مع اتساع نطاق مواجهاتها لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

 

المصدر : https://www.epc.ae/ar/details/scenario/istighlal-al-azmati-alhudur-al-iiraniu-fi-almashhad-alsuwdanii-wafaqih-almustaqbalia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M