مارى ماهر
انتهت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بإعلان تجديد ولاية الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون بعد حصوله على 58.54% مقابل 41.46% لصالح منافسته اليمينة مارين لوبان. ورغم أن القضايا الداخلية غالبًا ما تسيطر على الحملات السياسية للمرشحين الرئاسيين الفرنسيين بينما تكون ملفات السياسة الخارجية أقل وضوحًا، إلا أن تأثيراتها ظاهرة في تحديد الأوزان النسبية للمرشحين بين جمهور الناخبين؛ ففي دولة يمتلك الرئيس صلاحيات واسعة شبه غير خاضعة للرقابة في صياغة السياسة الخارجية، يكون قدرة المرشحين على تمثيل فرنسا أمام العالم وتجسيد مكانة الدولة على الساحة العالمية أمرًا حيويًا، لذلك يكون من المهم استشراف توجهات السياسة الخارجية للفائز. وتركز هذه الورقة على دراسة “عقيدة ماكرون” للشرق الأوسط واستجلاء خطوطها الرئيسية، مع استشراف ملامح سياسة ماكرون تجاه المنطقة خلال السنوات الخمس المقبلة.
عقيدة ماكرون
شهدت السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الشرق الأوسط خلال الفترة الرئاسية الأولى لإيمانويل ماكرون (2017-2022) تحولًا نوعيًا شكل امتدادًا للدبلوماسية التي أسسها الرئيس شارل ديجول (1958-1969) وسار عليها الرئيسين فاليري ديستان (1974-1981) فرانسوا ميتران (1981-1995) بينما مثَّل انفصالًا واضحًا عن نهج سلفيه نيكولا ساركوزي (2007-2012) وفرانسوا هولاند (2012-2017) الذي أضعف النفوذ الفرنسي بالمنطقة اتصالًا بنمط تفاعلهما مع أحداث الربيع العربي عبر تأييد مسار الاحتجاجات، والمساهمة في الإطاحة بالعقيد الليبي السابق معمر القذافي ضمن قوات الناتو، وتشديد العزلة الدولية على سوريا، وهو ما عرقل المنجزات الدبلوماسية والعسكرية التي تحققت خلال السنوات الأولى من رئاسة ساركوزي، وأفقد باريس عددًا من شركائها الإقليميين.
لكن سرعان ما أدرك ماكرون تداعيات تلك السياسة السلبية على مكانة فرنسا إقليميًا مفضلًا اتباع نهجًا براجماتيًا يتجاوز التركيز على مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان ويُبدي تفهمًا أكبر للتخوفات العربية وبالأخص الإرهاب، ويقوم على تعزيز التعاون الأمني مع الشركاء الإقليميين للحفاظ على التوازن الإقليمي، وتوسيع التعاون ليشمل أقاليم فرعية جديدة “الخليج العربي” تتجاوز نطاق الحضور التقليدي في شمال أفريقيا والمشرق العربي. وخلال السنوات القليلة الماضية، باتت الدولة الأوروبية الأكثر نشاطًا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث أجرى ماكرون زيارات متكررة إلى لبنان والعراق ومصر والإمارات والسعودية وقطر لترسيخ بلاده كلاعب استراتيجي رئيسي في المنطقة. ووقعت العديد من الاتفاقيات التي تشير لشراكة شاملة في المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية. وأطلقت سلسلة من المبادرات الدبلوماسية في محاولة لمعالجة الأزمات الإقليمية. ورعت شكلًا جديدًا للحوار الإقليمي عكسه مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة يومي 28 و29 أغسطس 2021 الذي جاء نتيجة شهور من النقاش بين المسؤولين الفرنسيين والعراقيين.
علاوة على ذلك، أجرت تدريبات مشتركة مع اليونان ومصر في البحرين المتوسط والأحمر وأخرى مماثلة مع الإمارات في الخليج. واتسم موقفها إزاء التطورات الإقليمية بالحذر والتحفظ خشية إغضاب شركائها العرب، فعندما زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد دمشق في نوفمبر 2021، في خطوة تتعارض مع السياسة الفرنسية المعلنة، وصفت باريس الخطوة بأنها قرار “سيادي”، وجاء موقف باريس متحفظَا وغير منتقدًا لقرارات الرئيس التونسي قيس سعيد التصحيحية في 25 يوليو 2021ـ، وعندما اتخذت السعودية إجراءات ضد لبنان كان رد المسؤولين الفرنسيين حذرًا.
ويتحدد الاهتمام الفرنسي بالشرق الأوسط من خلال المصالح الأمنية المهمة المتمثلة في أزمة الهجرة المستمرة، وانتشار التنظيمات الإرهابية المسلحة، والشراكات الدفاعية والعسكرية الهادفة لتأمين الطرق البحرية التجارية وتعزيز دفاعات المنطقة ضد الجماعات الإرهابية، فضلًا عن اتساع مجالات التعاون المشترك بين الجانبين لتشمل التعافي الاقتصادي، والتبادلات التجارية والثقافية والاجتماعية والأكاديمية، والإشراف البيئي، والابتكار التكنولوجي، والأمن الغذائي. ويُمكن استعراض العوامل الحاكمة للسياسة الفرنسية تجاه المنطقة كالتالي:
• إحياء التقليد الديجولي: يعتنق ماكرون منهج شارل ديجول القائم على ضرورة احتفاظ فرنسا بسياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة، حتى وإن كانت جزءًا من التحالف الغربي، وإقناع الدول الأوروبية بتبني فكرة الاستقلال الذاتي الاستراتيجي. ولتحقيق ذلك، ضغطت فرنسا من أجل سياسة أمنية ودفاعية أوروبية مشتركة أكثر فعالية وتأثيرًا، غير إن نتائجها المتواضعة نسبيًا حتى الآن أدت بالقادة الفرنسيين إلى البحث عن نهج أكثر مرونة من خلال لعب دور قيادي في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي واتخاذ إجراءات أحادية لجعل اللاعب الغربي الرئيسي في الشرق الأوسط، مستغلين التحديات الوجودية التي ألمت بالاتحاد الأوروبي وأضعفت قدرته على قيادة مبادرات دبلوماسية تتجاوز الحدود الجغرافية للقارة الأوروبية، لاسيمَّا الفراغ السياسي الذي تركته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فيما لايزال خليفتها أولاف شولتس يتلمس خطواته الخارجية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وقد كانت الدولة العضو التي تمتعت بالعلاقة الأكثر امتيازًا مع دول مجلس التعاون الخليجي، لكن بعد مغادرتها أصبحت باريس مرشحة لاحتلال تلك المكانة كونها العضو الوحيد في الكتلة الذي أظهر بعض الاستعداد لنشر أصول عسكرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو أمر مهم نظرًا لأن بعض حكومات المنطقة تعطي الأولوية للضمانات الأمنية من الشركاء.
• استعادة المكانة الفرنسية: يعتقد ماكرون أن الشرق الأوسط مسرحًا مهمًا للمصالح الفرنسية ومكانًا لإبراز مكانة فرنسا العالمية وترسيخ مكانتها كلاعب مهم في الشؤون الدولية وكدولة رائدة في الاتحاد الأوروبي. لذلك، عمّقت باريس علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الرئيسية الحاسمة كمصر والإمارات والسعودية لإبراز دورها المستقل في الشرق الأوسط خارج حدود المشاركة المتعددة الأطراف للاتحاد الأوروبي في المنطقة.
• ملء الفراغ الأمريكي في المنطقة ومواجهة تنامي النفوذ الروسي والصيني: كان أحد التحديات الرئيسية لفرنسا في الشرق الأوسط هو هيمنة الولايات المتحدة، لكن مع الانسحاب النسبي من بعض مناطق الصراع الرئيسية في الجوار الجنوبي للاتحاد الأوروبي (العراق وسوريا وأفغانستان) وتحويل التركيز الأمريكي بشكل أكبر على منطقة الإندوباسيفيك، تعتقد فرنسا أنها فرصة لإعادة تأكيد أهميتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وأنه يجب على الدول الأوروبية الانخراط بشكل متزايد مع المناطق التي تتشابك فيها مصالحها الأساسية كشمال إفريقيا والشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء. كذلك، يصور التفكير الاستراتيجي الفرنسي تقليص الولايات المتحدة مشاركتها الإقليمية وعدم التفات أوروبا للتطورات في المنطقة على أنه فراغ يجب على فرنسا ملئه وعدم تركه للصين وروسيا منفردين، ولعل هذا يفسر تنامي الحضور الفرنسي في العراق – على سبيل المثال – خشيه انضمامه للمحور الإيراني-الصيني-الروسي المنافس في المنطقة، ويعزي ذلك لموقعة الجغرافي الذي يربط سوريا ولبنان بإيران وبالتبعية يتيح للصين وروسيا الوصول إلى هذا الشريط ذي الأهمية الاستراتيجية لفرنسا وبالتالي من الضروري ألا تترك تحت سيطرة المنافسين.
• استقرار الجوار الجنوبي: يكمن اهتمام فرنسا بالشرق الأوسط في الحاجة إلى تحقيق الاستقرار في دول الجوار الجنوبي لأوروبا، نظرًا للتأثير العميق للصراعات الإقليمية على أوروبا على مدار العقد الماضي، حيث يتطلب ضمان الأمن في الداخل إبراز الاستقرار في المناطق والبلدان المجاورة من خلال زيادة المشاركة في إدارة الأزمات وحلها.
• متابعة جهود مكافحة الإرهاب: تعرضت فرنسا للعديد من الهجمات الإرهابية خلال السنوات الماضية بحيث كانت الدولة الغربية التي واجهت العدد الأكبر من الهجمات منذ عام 2014، لذلك كانت مكافحة الإرهاب وستظل أولوية في الدبلوماسية الفرنسية. وتقوم الرؤية الفرنسية لمكافحة الإرهاب على تطويقه ودحضه داخل الساحات البعيدة لتفادي انتقال التهديد داخليًا، وهو ما نصت عليه المراجعة الاستراتيجية لوزارة القوات المسلحة الفرنسية اعتبارًا من عام 2021، التي جاء فيها “أنه سيكون من الخطر التغاضي عن التهديد المستمر للإرهاب الجهادي أو ترك المناطق التي تعاني من عدم الاستقرار لتدافع عن نفسها، لأنها توفر فرصًا لطموحات الإرهاب”. وعليه، تتبع فرنسا استراتيجية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقوم على تعزيز التعاون الإقليمي مع الحكومات الصديقة، والحفاظ على الوجود العسكري على عدد من الجبهات وإبقاء انخراطها ضمن التحالف الدولي ضد داعش للتخفيف من مخاطر تنامي نشاط التنظيم، وتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة بسوريا والعراق وليبيا، وتبادل المعلومات الاستخباراتية لتحديد الجهاديين الفرنسيين الذين يقاتلون مع تنظيم داعش من أجل زيادة فعالية معركتها ضد الإرهاب في الداخل.
• تعزيز قطاع الصناعات الدفاعية: تظل مبيعات الأسلحة القوة الدافعة الرئيسية لنفوذ فرنسا في المنطقة، لاسيمَّا أن إعادة تقييم الولايات المتحدة لعلاقتها الدفاعية مع الشركاء الإقليميين من شأنه أن يمنح باريس فرصة لاقتناص صفقات عسكرية مهمة على غرار عقود شراء قطر 36 مقاتلة من طراز رافال في العامين 2015 و2018. وتعززت أهمية تلك الشراكة بالنظر لانهيار عقد بقيمة 66 مليار دولار لشراء أستراليا 12 غواصة فرنسية لصالح الولايات المتحدة التي نظرت إليه باريس باعتباره طعنه غربية أرادت الرد عليها وتعويض الخسائر التي ألمت بقطاع الصناعات الدفاعية. وفي هذا السياق، وقعت فرنسا خلال زيارة ماكرون للإمارات في ديسمبر 2021 عقدًا دفاعيًا كبيرًا كان قيد الإعداد لأكثر من عقد بقيمة 19 مليار دولار تشتري بموجبه أبو ظبي 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال و12 طائرة هليكوبتر عسكرية من طراز كاراكال H225، كما اشترت الإمارات معدات وطائرات هليكوبتر بقيمة 3 مليارات دولار في إطار عقود إضافية.
• فتح آفاق استثمارية أمام الشركات الفرنسية: تمتلك فرنسا مصالح اقتصادية استراتيجية واسعة في الشرق الأوسط ترتبط بقطاعي الطاقة وإعادة الإعمار. ففي مجال الطاقة تعمل شركة النفط الفرنسية توتال في ليبيا منذ سبعة عقود، وتمتلك الشركة نفسها مع مجموعة أخرى 22.5% من حقل النفط حلفايا العراقي و18% من حقوق التنقيب في كردستان، كما أنها تقوم بعمليات تنقيب في الساحل الجنوبي من قبرص بالقرب من السواحل اللبنانية، وفي 7 سبتمبر 2021، أعلنت وزارة النفط العراقية إبرام بغداد صفقة مع توتال بقيمة 27 مليار دولار بما في ذلك 10 مليارات دولار في البنية التحتية، التي ستسمح لاحقًا بتمويل مرحلة ثانية من الاستثمارات بقيمة 17 مليار دولار.
أما سوق عمليات إعادة الإعمار والذي يُقدر بالمليارات فيشكل عنصر جذب للشركات الفرنسية التي تطمح في الحصول على حصص كبيرة في العراق وسوريا وليبيا ولبنان. علاوة على ذلك، تقدم الشراكة الاقتصادية الفرنسية مع العالم العربي فرصًا استثمارية متنوعة للشركات الفرنسية، فعلى سبيل المثال، أسفرت جولة ماكرون الخليجية في ديسمبر 2021 عن توقيع اتفاقيات اقتصادية شاملة مع الإمارات بقيمة 17 مليار دولار، بما في ذلك إنشاء “شراكة الصندوق الفرنسي الإماراتي” بقيمة 3.6 مليار دولار لتطوير المشاريع الفرنسية، كما يخطط صندوق الثروة السيادية الإماراتي “مبادلة” لاستثمار ما يقرب من 1.6 مليار دولار في الاقتصاد الفرنسي، بما في ذلك في قطاعات مثل الطاقة وأشباه الموصلات واستكشاف الفضاء. وفي السعودية، وقعت شركة إيرباص عقد بيع 26 طائرة من طرازي H145 وH160 لشركة الطائرات المروحية السعودية، كما وقعت شركة “فيوليا انفيرونمينت” عقدًا بقيمة 83 مليون يورو لإدارة خدمات مياه الشرب والصرف الصحي في 23 مدينة سعودية، واتفاق شراكة استراتيجية مع وزارة الاستثمار السعودية. وفي قطر، تمتلك الشركات الفرنسية عقود متعددة تتعلق بمشاريع الطاقة والموارد المائية ومنشآت كأس العام 2022.
آفاق مستقبلية
رغم غياب السياسة العربية – إلى حد كبير – عن الحملات الانتخابية الرئاسية لماكرون ولوبان، فإن خطوطها العريضة التي رسخها ماكرون خلال فترة رئاسته الأولى مرجح أن تتسم بالاستمرارية، لاسيمَّا المتعلقة بإعادة تموضع فرنسا في الشرق الأوسط كشريك موثوق فيه، وتعميق الشراكات الاستراتيجية متعددة المجالات التي أقيمت على مدى السنوات الماضية مع الدول التي تمتلك فيها فرنسا مصالح عسكرية وتجارية متنامية وبالأخص الدول الخليجية التي أصبحت من المشترين الرئيسيين للمعدات العسكرية الفرنسية، وكذلك لبنان ذلك البلد الذي يرزح تحت وطأة أزمة سياسية واقتصادية هائلة لكنه يمتلك أهمية مركزية ضمن تصوراتها الجيوسياسية الأوسع للشرق الأوسط.
وسيحرص ماكرون على تلبية المصالح الفرنسية بما في ذلك مكافحة الإرهاب، وتأمين مصادر الطاقة، ووقف تدفقات اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، وفتح أسواق جديدة أمام قطاع الصناعات الدفاعية الفرنسي، وتنشيط التبادلات التجارية، وإتاحة فرص استثمارية ضخمة أمام الشركات الفرنسية. وفي هذا الإطار، يتوقع استمرار العلاقات مع اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط – مصر والإمارات والسعودية وقطر – كونها أساسية لاستراتيجية فرنسا في المنطقة، ومحاولة تفعيل أدوات التهدئة والحوار لبدء مناقشات أوسع حول الاستقرار الإقليمي بالبناء على تجربة مؤتمر بغداد حيث تم الاتفاق على استضافة القمة المقبلة في العاصمة الأردنية عمَّان عام 2022 ومن المتوقع أن تحرص فرنسا على انعقادها. علاوة على ذلك، سيكون ماكرون حريصًا على ملء الفراغ الاستراتيجية الناجم عن تقليل الدور الأمريكي.
ومن غير المحتمل أن تغير فرنسا موقفها فيما يتعلق بالتحديات الإقليمية الأكبر كالمحادثات النووية الإيرانية والأزمة السورية والقضية الفلسطينية والملف اللبناني. ففيما يتعلق بإيران، أبدى ماكرون موقفًا أكثر صرامة من الولايات المتحدة بشأن بعض القضايا التي يتم التفاوض عليها حاليًا في محادثات فيينا حتى أن وزارة الخارجية الإيرانية وصفت فرنسا بـ “الشرطي السيئ للمحادثات النووية”، بعد أن اشتكى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في يناير 2022 من الوتيرة البطيئة للغاية للمحادثات، لكن رغم ذلك فإن فرنسا ستوافق على الصفقة النووية الجديدة إذا ما وُقعت رسميًا حتى لو لم تتفق مع جميع بنودها. وبشأن الأزمة السورية، تتمسك فرنسا برفض استعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق لحين التوصل إلى حل سياسي دائم وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (يستند للرؤية الغربية وليس الروسية)، ومن غير المرجح أن يدعم الفرنسيون سيطرة روسيا وتركيا وإيران بشكل كامل على العملية السياسية في سوريا وسوف يسعون إلى تعاون أوثق مع الولايات المتحدة في هذا الشأن، لكنهم بن يناهضوا علنًا أيضًا التحركات العربية التي تقودها الإمارات لإعادة دمج سوريا عربيًا لعدم إغضاب شركائها الإقليميين الجدد.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فإنها باتت أقل أولوية بالنسبة لباريس وقد أدى تصاعد الإرهاب في فرنسا إلى تعاون أوسع بين أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية والفرنسية، ومع ذلك سيلتزم ماكرون بالخط الفرنسي التقليدي الداعي لحل الدولتين والمعارض للمستوطنات الإسرائيلية، ويتحدث الرئيس الفرنسي عن أن أولويته هي خلق مناخ يُمكن من إطلاق عملية سلام، كما أنه ضد أي اعتراف سابق لأوانه بفلسطين. لكن في الوقت نفسه ستستمر اتجاهات التعاون مع إسرائيل حتى لو كان هناك توترات سياسية بين الجانبين من وقت لآخر كما حدث أثناء زيارة ماكرون في يناير 2020 إلى القدس، عندما انتقد الأمن الإسرائيلي من أجل مرافقته إلى كنيسة فرنسية في البلدة القديمة بالقدس.
وتظل لبنان أولوية بالنسبة للسياسة الفرنسية في المنطقة، ورغم فشل المبادرات الفرنسية في إخراج لبنان من مشاكله الاقتصادية الأليمة أو تحقيق الاستقرار السياسي والأمن، فإن الأولوية هي تجنب زعزعة استقرار هذا البلد بشكل عميق مما يعرض مصالحها الأمنية للخطر، ومن المرجح أن تواصل السلطات الفرنسية الضغط على الحكومة اللبنانية لحملها على تبني الإصلاحات الهيكلية التي تشتد الحاجة إليها في مجالات البنية التحتية والإدارة والطاقة. الأمر نفسه بالنسبة للعراق فرغم فشل انطلاق المشاريع الاقتصادية الفرنسية العراقية الطموحة خلال العاميين الماضيين، طورت فرنسا خطابًا دبلوماسيًا بشأن العراق باعتباره قطب استقرار، ومع إنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية وخشية أن يلقى هذا بالعراق في فراغ أمني يمكن أن يصبح مصدرًا رئيسيًا لزعزعة الاستقرار أكد ماكرون خلال زيارته الأخيرة في 28 أغسطس 2021 اعتزامه إبقاء القوات الفرنسية هناك.
ورغم أن إعادة انتخاب ماكرون رئيسًا لمدة خمس سنوات تالية ينطوي على استقرار واستدامة نسبية للسياسة الفرنسية الخارجية تجاه المنطقة، إلا أن متغيرات جديدة برزت ستحكم أنماط ومستويات الشراكات والتحالفات مع القوى الرئيسية بالمنطقة، ومنهم:
• الحرب الروسية-الأوكرانية: ستعزز التداعيات الجيوسياسية للحرب الروسية-الأوكرانية رؤية النخبة الفرنسية للنظام الدولي باعتباره يمر بعملية تحول عميقة من نظام قائم على القواعد إلى حقبة جديدة من سياسات القوة والمنافسة الجيوسياسية، وفي هذا السياق، فإن المفهوم الفرنسي للسيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي سيدفعها للتحرك باتجاه الساحات التي تمتلك فيها مصالح استراتيجية واسعة كالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيمَّا مع تعاظم أهمية مصادر الطاقة العربية والخليجية ضمن استراتيجية تنويع الطاقة الأوروبية بعيدًا عن روسيا.
• تغير الإدارة الأمريكية: خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، سعى ماكرون لموائمة السياسة الفرنسية والأمريكية في الشرق الأوسط واستفاد من نهج المواجهة الذي اتبعه ترامب تجاه إيران لتحقيق المصالح الفرنسية في لبنان والعراق، فخلال أزمة رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري في نوفمبر 2017 تدخل ماكرون بالتنسيق مع الولايات المتحدة وأمن عودته للبنان، ورغم ذلك ظلت قدرة باريس على تحقيق اختراقات إقليمية محدودة. ومع مجيء إدارة بايدن تطلعت فرنسا لالتزام أمريكي دائم في الشرق الأوسط حيث تعتمد على الولايات المتحدة للحصول على الدعم الاستخباراتي واللوجستي لتحركاتها الإقليمية، لكن البيت الأبيض أقل حماسًا بشأن التنسيق في الشرق الأوسط ولدية أولويات مختلفة عن باريس عندما يتعلق الأمر بصراعات الشرق الأوسط والحلفاء التقليديين في المنطقة.
• انخفاض المنافسة الجيوسياسية مع تركيا: كان الاصطفاف الإقليمي ضد دبلوماسية القوارب الحربية التركية في شرق المتوسط أحد محددات التقارب الفرنسي مع محور مصر-الإمارات-اليونان-قبرص كجزء من شبكة تعاون أمني إقليمي لبناء ثقل موازن لأنقرة، حيث أرادت باريس إرسال رسالة لتركيا تُفيد بأنها لن تغض الطرف عن استعراض القوة الإقليمية على حساب مصالح اليونان وقبرص، وتشي باستيائها من العمليات العسكرية التركية شمال العراق والحضور العسكري في ليبيا، لكن انخفاض حدة المواجهة الجيوسياسية مع أنقرة في شرق المتوسط اتساقًا مع سياسة التهدئة وخفض التوتر التركية ستضعف المحدد التركي ضمن أجندة التعاون الفرنسي العربي. ومع ذلك، من غير المرجح قبول تركيا دور فرنسي متزايد يمكن أن يضعف مكانتها الإقليمية حيث تراقب عن كثب تحركات ماكرون، وقد هاجم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو انتقادات ماكرون لتركيا بشأن سياساتها في ليبيا وسوريا وبشأن النزاع على الحدود البحرية في شرق البحر المتوسط ووصفها بأنها هستيرية.
ختامًا، ستحرص باريس خلال الفترة الثانية لرئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون على تثبيت التوجهات الفرنسية الجديدة تجاه الشرق الأوسط، انطلاقًا من رؤيتها للسياسة خارجية مستقلة وتأكيد الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، لكنها ستواجه تحديات تتعلق برفض القوتين الإقليميتين الرئيسيتين (إيران وتركيا) لأي أدوار فرنسية تخصم من مساحات نفوذهما، كما أنه سيواجه محاولات الصين وروسيا تهميش الحضور الأمريكي والأوروبي في المنطقة.
.
رابط المصدر: