استقطاب حاد.. مآلات معترك الانتخابات الرئاسية في البرازيل

 محمد هيكل 

 

تشهد البرازيل حالة استقطاب استثنائية نتيجة لسباق رئاسي ملتهب بين الرئيس الحالي اليميني جايير بولسونارو والرئيس الأسبق صاحب الشعبية الجارفة اليساري لويس إناسيو دا سيلفا المعروف باسم “لولا دا سيلفا”. انتهت الجولة الأولى من الانتخابات دون تحقيق أي من المرشحين نسبة تفوق ال50% من الأصوات ما يمكّنه من الفوز بالمنصب من الجولة الأولى التي خاضها 11 مرشحًا ، ليصل كلاهما إلى جولة ثانية نهاية الشهر الجاري، مع تخوف من انزلاق المجتمع إلى أعمال عنف ناتجة عن التنافس الشديد بين المرشحين المثيرين للجدل.

يستمر كلا المرشحين في توجيه التهم لبعضهما كما مهاجمة بعضهم البعض كلما سنحت الفرصة، الأمر الذي استلزم إصدار لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بيانًا تطالب فيه الطرفين والسلطات البرازيلية بضرورة تخفيف حدة اللهجة المستخدمة، والابتعاد عن أي تصريحات أو أفعال تزيد من حدة الاستقطاب خلال فترة الانتخابات الرئاسية التي تشهد حضور أكبر عدد من المراقبين الدوليين في التاريخ الانتخابي بالقارة اللاتينية.

المشهد الانتخابي

وفقًا للمحكمة الانتخابية العليا في البرازيل (TES)، شهدت الانتخابات الرئاسية إقبالًا كبيرًا فاق المتوقع؛ فقد عجّت شوارع البرازيل في مختلف المقاطعات بطوابير طويلة امتدت طوال فترة التصويت. ووفقًا للمحكمة الانتخابية بعد انتهاء فرز الأصوات، شارك أكثر من 123 مليون برازيلي في الانتخابات، فيما تخلف 32 مليون عن التصويت الذي تصدره الرئيس الأسبق “لولا دا سيلفا” بنسبة 48,4%، ويليه الرئيس الحالي “بولسونارو” بنسبة 43,2%، وتتوزع بقية الأصوات على المرشحين الآخرين الذين خرجوا من السباق بشكل رسمي.

ويشبه المشهد الحالي في الانتخابات الرئاسية البرازيلية سباق عام 2018 والذي حسمه بولسونارو في الجولة الثانية أمام منافسه فيرناندو حداد عن حزب العمال اليساري وهو ذات الحزب الذي يقوده الآن لوا دا سيلفا، لكنه لم يتمكن من المنافسة في ذلك الوقت بسبب الحظر السياسي الذي فُرض عليه في أعقاب اتهامه بتلقي رشاوى والتربح من منصبه كرئيس للبلاد في الفترة من 2003 حتى 2011، قبل أن تسقط التهم عنه عام 2020 ما يخوله خوض غمار السباق الانتخابي مرة أخرى مستغلًا شعبيته التي اكتسبها بفضل برنامج محاربة الفقر الذي كان له أثره على الطبقات الأكثر احتياجا في البرازيل، وأدى إلى دفع الاقتصاد والصناعة الوطنية.

وبالعودة إلى انتخابات 2018، فقد نجح بولسونارو حينها بفضل شعبيته في محافظات الجنوب التي سيطر على أغلبية أصواتها، فيما كانت أغلبية أصوات المحافظات الواقعة في الشمال الشرقي من البلاد لصالح مرشح العمال فرناندو حداد. وبفعل تراجع شعبية حزب العمال اليساري في ذلك الوقت، وخطاب بولسونارو الشعبوي، نجح الأخير في الفوز بالسباق الرئاسي.

ويسعى بولسونارو إلى تكرار الأمر؛ إذ يميل أغلب مقاطعات الشمال الشرقي في البرازيل لدعم لولا دا سيلفا وتميل مقاطعات الجنوب لدعم بولسونارو؛ كون حزب العمال أكثر الأحزاب نشاطًا في مدن الشمال البرازيلي وبالأخص تلك التي تعاني من ظروف معيشية صعبة ، فيما تميل محافظات الجنوب إلى دعم اليميني بولسونارو الذي تمكن من الحصول على أغلبية أصوات مقاطعات الجنوب الشرقي الساحلية والتي تشكل عاملًا مهمًا لترجيح كفة أحد المرشحين لما تمتاز به من كثافة سكانية عالية.

حدة المنافسة والاستقطاب السياسي

بعد إعلان المحكمة الانتخابية البرازيلية العليا نتيجة التصويت والاتجاه نحو جولة فاصلة، صرح مرشح العمال لولا دا سيلفا للصحفيين في ساوباولو: “أنه من المهم أن نتجه لجولة فاصلة حيث سيتيح ذلك المناظرة وجهًا لوجه مع الرئيس الحالي، سنرى إذا ما كان سيتمكن من الاستمرار في الكذب”، وأضاف دا سيلفا: “منذ أربع سنوات لم يحق  لي الترشح أو حتى التصويت حيث وقعت ضحية لأكاذيب مختلقه، أنا اليوم أصوت ومرشح لرئاسة الجمهورية بعد إسقاط التهم الملفقة عني، أتمتع الأن بكامل حريتي وأسعى إلى الوصول لمنصب الرئيس لإعادة البلاد لوضعها الطبيعي”.

بدوره، شكك بولسونارو في النتيجة وفي نزاهة الانتخابات، وقال إن التصويت سيكون مثيرًا للشك حال عدم حصوله على 60% من الأصوات، ووجه أصابع الاتهام للمسؤولين عن التصويت الإلكتروني؛ إذ يرى أن هناك تلاعبًا فيه بالرغم من تخلفه عن منافسه لولا دا سيلفا في استطلاعات الرأي بأكثر من 14 نقطة مئوية.

الجدير بالذكر أن حالة الاستقطاب الراهنة غير مسبوقة منذ عقود في البرازيل، وتغذيها التصريحات العدائية بين كلا المرشحين، ما يدفع البعض إلى الخشية من أن تشهد البلاد أحداثًا مؤسفة نتيجة لصدامات بين أنصار المرشحين، وهو ما حذر منه بالفعل عدد من الجهات المختصة. ووفقًا لمركز “داتافوالا” المتخصص في استطلاعات الرأي يخشى 67% من البرازيليين التعرض للعنف خلال فترة الانتخابات الرئاسية، وهو ما حدث بالفعل خلال الجولة الأولى فقد رُصدت اشتباكات عدة بين أنصار المرشحين أصيب على إثرها عشرات من المواطنين ورجال الشرطة.

وبلغت هذه الاشتباكات ذروتها بعد المناظرة الرئاسية الأولى والتي شهدت تبادلًا للاتهامات بالفساد بين المرشحين؛ فقد وصف بولسونارو منافسه اليساري بأنه رئيس عصابة شكل حكومة من اللصوص لإدارة البلاد خلال رئاسته من 2003 لـ2011، مركزًا هجومه على اتهامه بالفساد والتربح من منصبه. فيما وصف لولا دا سيلفا الرئيس الحالي بولسونارو بأنه “كاذب وقح”، متهمًا حكومته بالتربح من خلال تستر حكومته على صفقة جرعات اللقاحات المضادة لفيروس كوفيد-19، والفشل في إدارة الأزمة خلال موجات الجائحة التي حصدت أرواح 680 ألف برازيلي.

وبالإضافة إلى ذلك، تسبب استخدام كلا المرشحين لكل المنصات المتاحة على الإنترنت واللقاءات التلفزيونية لمهاجمة بعضهما البعض في زيادة حالة الاستقطاب المجتمعي، ما استلزم إجراءات خاصة في ضوء وجود أكبر عدد من المراقبين الدوليين في تاريخ الانتخابات في قارة أمريكا اللاتينية بأكملها؛ فقد منعت المحكمة الانتخابية العليا حيازة السلاح في محيط مقار التصويت، وأصدرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قبل بداية الانتخابات بيانًا طالبت فيه المسؤولين والمرشحين بالتهدئة خوفًا من اندلاع أعمال عنف.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل انعكس على تصرفات المرشحين كليهما؛ فقد شوهد بولسونارو مرتديًا درعًا واقيًا للرصاص في مدينة “جوزي دي فورا” في ذات الموقع الذي تعرض فيه للطعن خلال حملته الانتخابية عام 2018، وبدوره شوهد لولا دا سيلفا مرتديًا درعًا واقيًا وبرفقة عدد من المرافقين الشخصيين في ريو دي جانيرو، وهي المدينة التي انفجرت بها قنبلة منزلية الصنع خلال تجمع لأنصاره في يوليو الماضي دون وقوع ضحايا.

البرامج الانتخابية

على الرغم من وجود 9 مرشحين بخلاف دا سيلفا وبولسونارو فإن الشعب البرازيلي اختار التمسك بهاذين المرشحين ذوي الخبرة السابقة والشعبية الكبيرة التي فاقت شعبية المرشحين الآخرين والقاعدة الحزبية القوية لكليهما. بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى كل من لولا دا سيلفا وجايير بولسونارو رؤية فيما يتعلق بمستقبل البلاد يروج كل منهما أنها السبيل نحو ظروف معيشية واقتصادية أفضل.

فيركز بولسونارو حملته على: دعم حرية التعبير، والحق في استخدام الثروات من خلال زيادة حجم التنقيب واستخراج المعادن لدفع الاقتصاد، وخلق نشاط صناعي تكنولوجي بهدف خفض البطالة، وخصخصة الشركات الحكومية، وزيادة حجم الإنفاق فيما يتعلق بمشروعات الطاقة المتجددة بهدف خفض أسعار استهلاك الطاقة ودعم المشروعات الزراعية. وأكد في تصريحات له على أنه في حال فوزه ستستمر حكومته في تقديم منحة الدعم الشهري للمواطنين الأكثر احتياجًا المعروفة باسم “أوكسيليو برازيل” والتي كان لها دورها في زيادة شعبيته لدى الطبقات الفقيرة، وتقدر بـ600 ريال برازيل؛ أي 110 دولارات.

وفي المقابل، يتمتع الرئيس السابق لولا دا سيلفا بشعبية كبيرة بين البرازيليين تخطت نسبتها 90% عام 2011 مع نهاية ولايته الثانية؛ بفضل النجاحات التي حققها وخاصة في الملف الاقتصادي والقضاء على الفقر، ففي ولايته التي امتدت 8 سنوات نجح دا سيلفا في إخراج ملاين البرازيليين من الفقر المدقع بفضل برنامج التمويل والدعم الاقتصادي العائلي المسمى ” بولسا فاميليا”.

وفي حملته الانتخابية الحالية، يعد لولا بنظام ضريبي جديد يستهدف من خلاله زيادة الإنفاق العام والقضاء على الفقر من خلال دعم المشروعات وزيادة حجم البرامج التمويلية، بالإضافة إلى تقليل انبعاثات الكربون والعمل على وقف تجريف غابات الأمازون في انتقاد لبولسونارو الذي كانت حكومته من أكبر مناصري استغلال أشجار غابات الأمازون، ووصلت أرقام قطع الأشجار فيها إلى مستويات قياسية خلال ولايته، الأمر الذي أثار انتقادًا كبيرًا من المنظمات والنشطاء البيئيين في البرازيل وحول العالم، وهو ما يستغله لولا دا سيلفا في حملته التي ترتكز على الترويج لنجاحاته السابقة من جانب وسوء إدارة الأزمات في ولاية بولسونارو في ملفات عدة منها البيئة والاقتصاد وكورونا من جانب آخر.

الأقرب للمنصب

قبل الجولة الأولى بثلاثة أيام، أشارت استطلاعات الرأي الخاصة بمركز “داتا فوالا” إلى تفوق لولا دا سيلفا على الرئيس الحالي جير بولسونارو بفارق 14%، فقد توقع نموذج افتراضي تابع للمركز أن يحصد دا سيلفا أصوات 50% من الناخبين، فيما يحصل بولسونارو على 36%، على أن تتوزع النسبة الباقية على باقي المرشحين، إلا أن نتيجة الجولة الأولى أوضحت أن الفارق بين المرشحين 5% فقط.

أما عن الجولة الثانية، فيتوقع المركز المتخصص في استطلاعات الرأي والتحليل والتنبؤ من خلال الخوارزميات الإلكترونية أن يفوز لولا دا سيلفا بالانتخابات الرئاسية البرازيلية بواقع 54% من الأصوات له و46% لصالح بولسونارو، إلا أن الأخير يتمسك بأمل أن يستطيع نيل عدد من أصوات مواطني محافظات الشمال بالأخص العاملين في قطاعات البترول والقطاعات الصناعية الأخرى ورجال الأعمال، ويعول على 32 مليون برازيلي لم يشاركوا في الجولة الأولى؛ فتركز حملته على استمالة هذه الكتلة لما قد تشكله من فارق في السباق الانتخابي.

أما عن أبرز التحديات التي ستواجه الرئيس القادم فسيكون على رأسها تخفيف حدة الاستقطاب الناتجة عن السباق الرئاسي، والتأكيد على الوحدة المجتمعية؛ خوفًا من الانزلاق إلى عنف مجتمعي بدأت مؤشراته في الظهور في الجولة الأولى. هذا بالإضافة إلى معالجة الاقتصاد، وزيادة معدلات النمو التي تخلفت بعد جائحة كورونا التي أنهكت القطاع الصحي في البرازيل. وستكون ملفات الصحة وتدهور التعليم على رأس أولويات الرئيس القادم. وسيعني وصول لولا دا سيلفا إلى الحكم اهتمامًا أكبر بالتحديات المناخية والاقتصادية، أما فوز جايير بولسونارو بولاية ثانية فسيعني أن ملف تطوير الصناعة وخاصة الصناعات التكنولوجية في مقدمة أولوياته.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/73394/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M