بقلم: جيم اونيل
لندن ــ تُـظـهِـر قطاعات كبيرة من الاقتصاد العالمي الآن العلامات التقليدية التي تشير إلى التعافي على هيئة حرف V (التعافي السريع بعد ركود حاد). تُـظـهِـر المؤشرات الشهرية للعديد من البلدان ارتدادات قوية في يونيو/حزيران ويوليو/تموز، ويتراوح نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (المعدل حسب التضخم) المتوقع من 10% إلى 15% في الربع الثالث، في حال بقاء كل الظروف الأخرى على حالها.
بكل تأكيد، هناك من الأسباب ما يدعونا إلى التساؤل حول ما إذا كان الارتفاع الملحوظ مجرد ارتداد فني ــ وهم ناتج عن عمق الانهيار الأولي الهائل. قد تكون هذه هي الحال، وخاصة إذا عانت بلدان عديدة من موجة ثانية قوية من الإصابات بعدوى مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، أو إذا تبين أن الآمال الكبرى في التوصل إلى لقاح مبكر كانت في غير محلها. لا أحد يستطيع أن يجزم على وجه اليقين. وسوف يكون لزاما علينا أن ننتظر ونترقب الدلائل في حين تحاول البلدان إيجاد التوازن بين إدارة الفيروس وإعادة اقتصاداتها إلى طبيعتها.
برغم أن الولايات المتحدة عانت من الفيروس أكثر من غيرها من البلدان، فإن معدل الإصابات الجديدة انخفض، مما يزيد من احتمال تسارع الانتعاش الاقتصادي المسجل في الصيف. وفي الصين تشير أحدث المؤشرات إلى مستوى عال من السيطرة على العدوى وتسارع التعافي. وبالنظر إلى الأدوار التي تضطلع بها الولايات المتحدة والصين في الاقتصاد العالمي، فإن مثل هذه التطورات الإيجابية تبشر بتعاف قوي للتجارة العالمية، على الرغم من الصراع المستمر بين البلدين حول التجارة والتكنولوجيا.
أما في أوروبا، فتُـظـهِر العديد من البلدان علامات تشير إلى اندلاع موجة ثانية من كوفيد-19، وتشكل الإصابات المتزايدة تهديدا للتعافي في إسبانيا بشكل خاص. لكن هذه ليست الحال في كل مكان. فقد صعدت بلدان أخرى من تدابير السيطرة، وإذا أثبتت هذه التدابير أنها كافية، فسوف تتمكن هذه البلدان من إبقاء التعافي على المسار الصحيح.
هذا هو مبلغ علمنا الآن وقد اقتربنا من منتصف سبتمبر/أيلول. ولكي نكون أكثر ثقة بشأن احتمالات التعافي الاقتصادي المستدام في أواخر 2020 وحتى عام 2021، فإننا في احتياج إلى مزيد من الأدلة التي تشير إلى التقدم نحو التوصل إلى علاجات محسنة ولقاحات آمنة وفعّالة. ومتى أتيح اللقاح على نطاق واسع، فمن الممكن أن نتوقع المزيد من تسارع النشاط الاقتصادي. وسوف تبدأ الحياة تعود إلى القطاعات الأشد تضررا ومعاناة بسبب بروتوكولات التباعد الاجتماعي ــ بما في ذلك السفر الدولي، والترفيه، والضيافة.
في الواقع، ما لم تفشل جميع اللقاحات الواعدة المرشحة التي بلغت بالفعل المرحلة الثالثة من التجارب، فيمكننا أن نتوقع التعافي في هذه القطاعات التي تضررت بشدة في وقت ما في الأشهر المقبلة، وعند هذه النقطة يصبح الأمل في التعافي الدوري قائما على مبرر أكثر منطقية.
لكن الأمر لا يخلو من عدد من القضايا البنيوية التي يجب وضعها في الاعتبار. بادئ ذي بدء، السؤال الأكثر إلحاحا في هذا الخريف هو ما إذا كانت مجموعة العشرين، التي تتولى رئاستها حاليا المملكة العربية السعودية، قادرة على إحياء ذاتها وتسليم التعاون الدولي الحقيقي، كما فعلت بعد الأزمة المالية العالمية في 2008.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية وغيرها من الهيئات الصحية الدولية، يحتاج العالم إلى ما يقرب من 35 مليار دولار لضمان توزيع اللقاحات بشكل عادل على 7.8 مليار إنسان في العالم. وهذا مبلغ تافه مقارنة بما أنفقته العديد من بلدان مجموعة العشرين بالفعل لدعم اقتصاداتها المحلية. ومع ذلك فإن تمويل توزيع اللقاح بشكل شامل أمر بالغ الأهمية لضمان التعافي العالمي، وليس التعافي الذي يقتصر على البلدان حيث يتاح اللقاح.
يتمثل أمر آخر على ذات القدر من الأهمية، وإن كان أقل تداولا في المناقشات، في توازن القوى بين النمو المحلي والخارجي. فبسبب حالة القلق الناجمة عن الجائحة، أظهرت العديد من الحكومات، وخاصة في الاتحاد الأوروبي، مستويات غير مسبوقة من الحماس للتحفيز المالي، وحظيت برامج الإنفاق هذه بدعم إضافي من خلال سياسة نقدية سخية إلى حد غير عادي.
تشير سياسات الاقتصاد الكلي التوسعية إلى أن الطلب المحلي كفيل بدفع التعافي بقوة أكبر مما حدث في أعقاب أزمة 2008، ما لم يحدث انكماش مالي مفاجئ وكبير. ومن المرجح أن يترجم هذا إلى تعافي التجارة العالمية بقوة أكبر مما يتصور العديد من المعلقين حاليا أنه في حكم الممكن.
لكن هذا يقودنا إلى قضية بنيوية ثالثة. متى يسدد كل الإنفاق الحالي، ومن سيسدده؟ يبدو أن هناك بالفعل إجماعا قويا عبر الاقتصادات المتقدمة على ضرورة تجنب تشديد القيود المالية قبل الأوان. أنا شخصيا أرحب بتشديد القيود بعد انقضاء الأزمة. ولكن بطبيعة الحال سيتوقف الكثير ليس فقط على نطاق وسرعة التعافي بل وأيضا على حجم العجز المالي. وهنا من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن توقعات التحفيز المالي الإضافي في الولايات المتحدة تراجعت مؤخرا نتيجة لبيانات التوظيف التي جاءت أفضل من المتوقع.
أما عن السياسة النقدية، فقد اسـتُـقـبِـل إعلان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في أواخر أغسطس/آب عن تحوله إلى نظام “استهداف التضخم المتوسط” بالترحاب باعتباره شكلا إضافيا من أشكال الدعم. لكن الحذر هنا واجب. ذلك أن استمرار التغير في السياسة سيتوقف على كيفية تطور الضغوط التضخمية على الأرض. وإذا ساور الأسواق المالية القلق فجأة بشأن زيادة غير متوقعة في التضخم، فربما يضطر صناع السياسات إلى تغيير نهجهم مرة أخرى.
السؤال المفتوح المتبقي، والذي أثرته في تعليقات سابقة هذا العام، هو كيف سيستجيب صناع السياسات للتغيرات التي أحدثتها أزمة كوفيد-19. هل يتجهون نحو رعاية ثقافة أعمال جديدة تسعى إلى “تحقيق الربح الهادف”، وتشجيع (أو تملق) المزيد من الشركات لحملها على ملاحقة هدف إزالة الكربون وإيجاد الحلول للتحديات المجتمعية مثل مقاومة مضادات الميكروبات والتهديد المتمثل في خطر اندلاع جائحات أخرى في المستقبل؟ من المؤكد أن هذا سيكون تطورا محمودا، ولن يكون تحقيقه أبعد كثيرا عن متناول حكوماتنا.
رابط المصدر: