رغم أن التوقعات بنجاح الجولات الأخيرة من الحوار الدبلوماسي حول الأزمة الأوكرانية، في حلحلة التوتر الذي تصاعد بشكل حاد منذ أبريل الماضي، كانت بعيدة كل البعد عن التفاؤل باختراق قريب في هذا الصدد، إلا أن هذه الجولات أوضحت بجلاء أن هذه الأزمة لا تتعلق فقط بالعلاقة بين موسكو وكييف، بل تمتد لتشمل العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وتحسس موسكو خطورة التمدد الغربي في شرق أوروبا.
حقيقة الأمر أن التعزيزات العسكرية الروسية في اتجاه الحدود الجنوبية والشرقية لأوكرانيا، لم تتوقف عمليًا منذ مارس الماضي، ولكن الفارق بين المواقف الأوروبية والأمريكية حيال هذا الأمر حينها والآن، أن هذه المواقف العام الماضي كانت أكثر حذرًا، ولم يكن هناك حديث واضح من جانب العواصم الأوروبية عن نوايا روسية للتوغل في أوكرانيا – وهي فرضية بدأت كييف في التسويق لها منذ عام 2015 – لكن الآن باتت الولايات المتحدة الأمريكية تحذر بشكل متواصل من رغبة روسية في اجتياح شرق أوكرانيا.
جولة مباحثات دبلوماسية في أجواء صعبة
بالتزامن مع هذه التحذيرات، بدأت الأسبوع الماضي جولة مباحثات دبلوماسية غير مسبوقة منذ تسعينيات القرن الماضي، شملت لقاء بين دبلوماسيين أمريكيين وروس في جنيف، ثم اجتماع بين ممثلي حلف الناتو وروسيا في بروكسل، واجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي انعقد في الثالث عشر من الشهر الجاري في فيينا. موسكو دخلت هذه المباحثات وهي تؤكد أنها لن تقبل بأقل من تحقيق الضمانات الأمنية التي طلبتها أواخر العام الماضي من حلف الناتو، وقد ربط مفاوضوها بين موافقتهم على الحوار مع واشنطن حول قضايا أخرى مثل الحد من التسلح، وبين الحصول على هذه الضمانات.
الولايات المتحدة وحلف الناتو من جانبهما تمسكا أيضًا برفض تقديم أية ضمانات أمنية لموسكو، لكن قدما في نفس الوقت ما يمكن أن نعتبره “تنازلًا”، حين عرضت الولايات المتحدة بدء مباحثات مع روسيا حول المعاهدات المتعلقة بنشر الصواريخ الاستراتيجية، والقيود المفروضة على تطوير ونشر الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا، ما قد يؤدي إلى إحياء جزئي لمعاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، التي انسحبت واشنطن منها عام 2019.
السبب الرئيسي لموقف واشنطن وحلف الناتو هذا، يعود إلى رغبتهم في عدم منح موسكو القدرة على التحكم في قرار انضمام دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، خاصة وأن موسكو قامت بالضغط بشكل ناجح على دول مثل جورجيا وأوكرانيا لمنعها من الانضمام للحلف عام 2008، وهو ما أدى إلى توسيع نطاق الطموح الروسي، لتشمل كافة دول حلف وارسو السابق، وهذا ما عكسته الضمانات الأمنية التي تضمنتها معاهدتين قدمتهما موسكو إلى إدارة بايدن وحلف الناتو في ديسمبر الماضي.
البند الأساسي في هذه الضمانات كان تعهد الحلف بعدم التوسع في شرق أوروبا، ورفض انضمام دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى الحلف، خاصة أوكرانيا، وسحب الحلف قواته من دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق. يضاف إلى ذلك عدة بنود أخرى متبادلة، تبدو مرتبطة أكثر بالجانب الاستراتيجي من العلاقة بين شرق أوروبا وغربها، منها تعهد كل من موسكو وواشنطن بإزالة البنية التحتية لنشر الأسلحة النووية خارج أراضيهما، وعدم إجراء مناورات عسكرية يتم فيها محاكاة استخدام أسلحة نووية، والتزام روسيا وحلف الناتو بعدم نشر صواريخ في مناطق تسمح لكل طرف بإصابة أراضي الآخر، والتزام الحلف بتفادي التحرش بالوحدات العسكرية الروسية في البحر الأسود وبحر البلطيق، وإنشاء مجلس مشترك بين الحلف وروسيا، من أجل بحث وحل المعضلات الطارئة ذات الاهتمام المشترك.
فشل جولات المباحثات الدبلوماسية الأخيرة في تحقيق أي اختراق واضح، كان ظاهرًا من خلال تصريحات كبير مفاوضي روسيا نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف الخميس الماضي، وكذلك من تصريحات وزير الخارجية سير جي لافروف، الذي قال أن موسكو تنتظر حاليًا “ردودًا مكتوبة” من الولايات المتحدة على المقترحات الروسية، وبناء على ذلك ستحدد القيادة الروسية خطواتها التالية في الملف الأوكراني.
أوروبا والولايات المتحدة تستعدان للأسوأ في أوكرانيا
فشل هذه الجولة المهمة من المباحثات الدبلوماسية، القى بظلاله على التصريحات الواردة من عواصم القرار الأوروبية، حيث باتت هذه التصريحات تدور في فلك التصريحات الأمريكية التي بدأت واشنطن في إطلاقها منذ ديسمبر الماضي، ومفادها أن عبور الوحدات النظامية الروسية إلى الجانب الأخر من الحدود مع أوكرانيا بات مسألة وقت لا أكثر. واقع الحال أن هذه الفرضية تم تداولها بشكل متكرر منذ عام 2015، وعادت مرة أخرى إلى الساحة الأوروبية في أبريل الماضي، وحينها أشارت التقديرات – كما تشير حاليًا – إلى أنه تم نقل ما بين 80 إلى 110 ألف جندي روسي، إلى محيط المناطق الجنوبية والشرقية لأوكرانيا، وذلك انطلاقًا من نقاط حشد أساسية مثل مدينتي “فولجوجراد” و”فورونيج”.
في ذلك التوقيت أدعت موسكو أن هذه الحشود هي جزء من برنامج المناورات السنوية التي تجريها وحدات المنطقة العسكرية الجنوبية وأسطولي البحر الأسود وبحر البلطيق، لكن اتضح بعد ذلك أن بعض الوحدات التي تم نقلها – والتي تشمل صواريخ تكتيكية ودبابات وطائرات مقاتلة – ظلت في أماكن تمركزها الأخيرة ولم تعود إلى قواعدها الأصلية. الفارق الأساسي بين الحشود الحالية والحشود السابقة، أن الحشود الجاري نقلها حاليًا تتضمن وحدات ذاتية الحركة للدفاع الجوي، وهو ما كان ينقص الحشود التي كانت تتنقل على التخوم الشرقية والجنوبية لأوكرانيا.
بالنسبة لخطة “غزو أوكرانيا”، فقد سبق وطرحتها وزارة الدفاع الأوكرانية بشكل مفصل أوائل عام 2015، وفي هذا الصدد تم طرح سيناريوهات عديدة، السيناريو الأول يتم فيه توسيع خط السيطرة الميدانية للقوات الانفصالية المدعومة من موسكو، ليشمل مقاطعة “خاركيف” شمالي لوهانسك، أو جنوبًا في اتجاه مقاطعة “أوديسا”، بهدف خلق ممر مسيطر عليه من روسيا، بين منطقة الدونباس شرقًا، وشبه جزيرة القرم جنوبًا، بما في ذلك مدينة “ماريوبل” الساحلية، ومدينتي “زابوريزهزيا” و”ميليتوبول”.
السيناريو الثاني الذي تم طرحه في هذه المرحلة، يفترض أن التحركات الروسية الميدانية ستتوسع أكثر لتشمل كافة الأراضي الواقعة شرق نهر “دنيبر” بما في ذلك المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية لأوكرانيا، والعاصمة كييف، وهذا السيناريو قامت بتوسيعه بعض مراكز الأبحاث الأوروبية، ليصبح خطة للسيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية.
هذه السيناريوهات ظل تحققها محل شكوك كبيرة خلال السنوات الماضية، إلا أن الحشود العسكرية الروسية الأخيرة أعادت طرح هذه السيناريوهات بقوة، وهي سيناريوهات يضيف إليها البعض سيناريو يبدو خياليًا بعض الشيء، يقتضي توسع روسيا غربًا وجنوبًا، نحو الحدود مع إيران ومولودفيا والمجر وبولندا.
حدود الرد الغربي على التحرك الروسي في أوكرانيا
بمجرد فشل هذه الجولة من المباحثات، بدأت أوروبا والولايات المتحدة في الحديث بشكل أكبر عن النوايا الروسية تجاه أوكرانيا، حيث صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، جون كيربي، بأن معلومات موثوقة تشير إلى أن روسيا جهزت مجموعات خاصة لتنفيذ عمليات خاصة من داخل الأراضي الأوكرانية في اتجاه الأراضي الروسية، لخلق ذريعة كي تقوم القوات الروسية بالهجوم على أوكرانيا. كذلك قال السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، جين بساكي، إن الغزو الروسي يمكن أن يبدأ بين منتصف يناير ومنتصف فبراير.
من جانبه، هاتف الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، واكد له أن أمريكا “سترد بشكل حاسم” إذا شنت روسيا غزوًا جديدًا. هذه المحادثة الهاتفية كان الغرض الأساسي منها هو تطمين الحكومة الأوكرانية، لكن على ما يبدو فإن هامش المناورة الأمريكية والأوروبية في هذا الاطار يبدو أقل بكثير من التوقعات الأوكرانية، بالنظر إلى التجربة الأمريكية السابقة حيال ضم شبه جزيرة القرم، وحرب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
الأداة الأساسية التي تمتلكها الولايات المتحدة للرد على أي تحرك روسي هي العقوبات، فقد حذر بايدن القيادة الروسية في ديسمبر الماضي، أن الكتلة الغربية ستقوم بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على موسكو، في حال تطورت الأوضاع الميدانية في شرق أوكرانيا، وحينها قال بايدن إن هذه العقوبات ستكون أكبر وأشد من أية عقوبات سابقة تم فرضها على موسكو، ويمكن أن تشمل عزل روسيا عن نظام المدفوعات البنكية الدولي، وتقييد صادرات الغاز والنفط الروسية، ومنع موسكو من استلام البضائع التي تحتوي على إلكترونيات أمريكية بداخلها. العقوبات الأوروبية المتاحة تدور أيضًا في فلك العقوبات الاقتصادية، سواء التي تستهدف الأفراد أو التي تستهدف البنوك والشركات الروسية.
لكن هذه العقوبات – بجانب أنها لن تكون رد فعل مكافئ للتحركات العسكرية الروسية في حالة حدوثها – تنطوي على خسائر أوروبية، منها ما يتعلق بحقيقة أن أوروبا تعتمد على موسكو لتأمين نحو 41% من الغاز الطبيعي، وهو ما يوفر لموسكو وسيلة ضغط فعالة يجب أن يضعها الأوروبيون في الحسبان قبل إقدامهم على أي خطوة تصعيدية، خاصة لو وضعنا في الاعتبار وجود مشاريع اقتصادية عملاقة على المحك، مثل خط غاز “السيل الشمالي 2″، الممتد من روسيا إلى ألمانيا.
يضاف إلى ذلك تهديدات موسكو المتكررة بنشر صواريخ استراتيجية على التخوم الأوروبية، إذا تعرضت لعقوبات جديدة، وهذا يضاف إلى خطوات تصعيدية روسية جارية حاليًا، منها تعزيز الدفاعات الروسية في القطب الشمالي، وعمليات التطوير المتسارعة للصواريخ الباليستية والجوالة الأسرع من الصوت.
على المستوى العسكري، تبدو الاستعدادات الأمريكية والأوروبية، منحصرة بشكل أساسي في دعم الجيش الأوكراني، وفي بحث إمكانية نشر وحدات تابعة لحلف الناتو في عدة مناطق بشرق أوروبا. هذه النقطة الأخيرة أشار إليها الجنرال روب باور، قائد القيادة العسكرية لحلف الناتو، منذ أيام خلال لرؤساء أركان جيوش دول حلف الناتو، حيث أشار إلى أنه توجد عدة دول في شرق أوروبا مهتمة باستضافة وحدات عسكرية تابعة للحلف.
هنا لابد من ذكر ما نقلته بعض وسائل الإعلام الأمريكية عن عدد من مسؤولي الاستخبارات والأمن القومي السابقين في الولايات المتحدة، حول أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تشرف منذ عام 2015، على برنامج لتدريب قوات النخبة في الجيش الأوكراني، وأن الولايات المتحدة على وشك تقديم مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا بقيمة 200 مليون دولار، تضمّ محطات رادار وبعض المعدات البحرية، وكذلك مساعدات أخرى بقيمة 20 مليون دولار، مخصصة لقوات حرس الحدود، تشمل شراء أنظمة تسجيل فيديو وطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى معدات حماية شخصية.
بالعودة إلى الجانب السياسي، تبدو معظم الدول الأوروبية متعاطفة بشكل أو بأخر مع كييف، حيث غردت وزيرة الخارجية البريطانية متهمة موسكو بأنها تعمل على تبرير “انتهاك سيادة” أوكرانيا، في حين حمل الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، روسيا مسؤولية تصعيد الأزمة الحالية، وقال “المعتدي هو روسيا، وأنه لوضع غريب أن نطلب من ضحية العدوان أن يقوم بتهدئة الأوضاع”.
في نفس الإطار أرسلت كندا وزيرة خارجيتها إلى كييف، في زيارة تستمر لمدة أسبوع، تبدو تضامنية أكثر منها محاولة لإيجاد حل للتصعيد الحالي. جدير بالذكر أن وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، عقد في الخامس من الشهر الجاري، اجتماعًا ضم نظرائه الألماني والإيطالي والبولندي، ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، لبحث الإمكانيات الأوروبية المتاحة للرد في حالة حدوث غزو روسي لأوكرانيا.
السيناريوهات المتاحة في شرق أوكرانيا
يأتي التصعيد الحالي في شرق أوكرانيا، بالتزامن مع مئوية تأسيس الاتحاد السوفيتي السابق، وفي ظل قدرة روسية لافتة على فرض توجهاتها في أوروبا الشرقية، ولعل التدخل العسكري السريع لقوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان، دليل واضح على ذلك.
فيما يتعلق بالسيناريوهات المتاحة والمتوقعة لهذه الأزمة، تتزايد احتمالات قيام موسكو بهجوم ذو طبيعة خاصة على أوكرانيا، يكون أساسه الحرب الإلكترونية، عبر هجمات سيبرانية على البنى التحتية الأوكرانية، ما يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي والتلاعب بإمدادات الكهرباء من بيلاروسيا، وهي هجمات تمت أولى جولاتها بالفعل منذ يومين، بعد تعرض شبكات حكومية أوكرانية عدة لهجمات إلكترونية مكثفة.
توجد أيضًا سيناريوهات أكثر تصعيدًا، منها اجتياح الجيش الروسي لمنطقة الدونباس شرق أوكرانيا، وربما توسيع هذا الاجتياح جنوبًا لخلق تماس مع شمال شبه جزيرة القرم، لكن تبقى احتمالية تحقق ذلك محدودة، نتيجة لأن الهدف الأساسي للحشود الروسية قرب أوكرانيا – كما اتضح من التجارب السابقة – هو ممارسة سياسة “التفاوض تحت التهديد”، وهي سياسة أفلحت في أبريل الماضي، في إجبار الرئيس الأمريكي على فتح باب الحوار مع موسكو حول الملف الأوكراني.
خلاصة القول، أن الأسابيع القليلة المقبلة، والتي تتضمن افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين، ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت موسكو ستلجأ لخوض الطريق الأصعب، وتبدأ في الهجوم على أوكرانيا عسكريًا، لمنع تموضع حلف الناتو على حدودها، أم أن لقاءً محتملًا بين بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي في حفل افتتاح الأولمبياد الشتوية، قد يفلح في نزع فتيل التوتر، الذي سبق وتم نزعه في أبريل الماضي.
في كل الأحوال ستبقى هذه المنطقة بؤرة توتر بين موسكو والغرب، حيث قد تلجأ الأولى في قادم الأيام، إلى نشر أسلحة استراتيجية قرب الحدود الأوروبية، أو حتى جعل حشودها العسكرية بالقرب من أوكرانيا أكثر ديمومة، وربما توسيع هذه الحشود لتشمل مناطق تثير حفيظة الغرب، مثل كوبا أو فنزويلا.
.
رابط المصدر: