لعل من ضمن الأسئلة العديدة التي أثارتها عملية اغتيال زعيم حركة حماس، يحيى السنوار، في حي تل السلطان بمدينة غزة، تلك التساؤلات التي طفت على السطح، حول مدى تأثير مقتله على الموقف الميداني لعناصر كتائب القسام في جبهات القتال المختلفة في قطاع غزة، والتي باتت متوزعة بين جبهة رفح وجبهة محور نتساريم، والمواجهات الجارية حاليًا في محيط مخيم البريج وسط القطاع، ومخيم جباليا شمال القطاع.
من حيث المبدأ، يمكن اعتبار حقيقة أن عملية استهداف السنوار قد تمت بالمصادفة البحتة خلال اشتباك “روتيني” في جبهة رفح، بمثابة مؤشر أساسي يمكن من خلاله استشراف الحالة التي يمكن أن تكون عليها كتائب القسام وعملياتها في قطاع غزة خلال المدى المنظور، وهي نفس الحالة التي كانت عليها بعد مرور عام على بدء المواجهة المباشرة بين الكتائب والجيش الإسرائيلي، أي استمرارية العمليات القتالية في كافة جبهات غزة، رغم توغل الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا في معظم مناطق قطاع غزة، وتمركزه بشكل دائم في محورين أساسيين هما محور نتساريم وسط القطاع، ومحور فيلادلفيا جنوبه.
على الجانب الآخر، يمكن القول إن مقتل السنوار يمثل نقطة تحول في تحديد مستقبل العمليات العسكرية في قطاع غزة، من منظور أنه قد يسمح لإسرائيل بإيجاد نقطة ارتكاز إعلامية وعسكرية يمكن من خلالها إعلان وقف العمليات العسكرية في قطاع غزة – أو على الأقل في جبهة رفح – ومن ناحية أخرى قد يمثل مقتله عامل “كابح” للتوجهات التصعيدية التي كانت سائدة خلال الفترة الماضية في صفوف كتائب القسام، بما يسمح بتعديل التوجهات القيادية للكتائب، بشكل ينظر للمشهد الميداني الحالي بشكل أكثر واقعية، وهو ما سيتحدد بشكل كامل من خلال طبيعة الشخصية التي ستخلف السنوار.
وعلى الرغم من وجاهة الرأي القاطع بأن الفراغ القيادي الداخلي في كتائب القسام وحركة حماس، قد يؤدي إلى ارتباك واضطراب في صفوف الحركة، مما يجعل من الصعب تنسيق القتال ضد القوات الإسرائيلية، إلا أن الواقع الميداني الذي تمت ملاحظته خلال الأشهر الأخيرة، يشير إلى أن الأنشطة الميدانية للكتائب التي تم إعادة تنشيطها في وسط وشمال قطاع غزة، تمت إدارتها بشكل لامركزي، خاصة الكتائب المتواجدة شمال القطاع، وهذا ظهر بشكل كبير من خلال الأنشطة القتالية التي تم رصدها لكتائب القسام، في مناطق شمال القطاع، مثل مخيم جباليا ومنطقة بيت لاهيا، وحي الزيتون.
المشهد الميداني الحالي في القطاع: مؤشرات على استمرار المواجهة
خلال المرحلة الماضية، طرأ تغيير لافت على العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، يرتبط بتسليم الفرقة 162 المتواجدة في محور فيلادلفيا مواقعها لفرقة غزة، وانتقال كامل وحدات هذه الفرقة، بما في ذلك اللواءين المدرعين 401 و460، إلى شمال القطاع، لتبدأ عمليات هجومية في مخيم جباليا شمال القطاع، في حين يستمر تمركز الفرقة الاحتياطية 252 في محور نتساريم. تزامنت هذه الخطوة مع قرار أصدرته قيادة الجيش الإسرائيلي بتوسيع مساحة المنطقة الإنسانية التي حددتها إسرائيل في جنوب غزة، حيث يقيم الغالبية العظمى من سكان غزة حاليًا، ودعت سكان بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا في شمال غزة إلى الإخلاء إلى المنطقة الإنسانية، التي تم توسيعها لتصبح على جانبي طريق صلاح الدين في نطاق جنوب دير البلح وفي منطقة مواصي خانيونس، وقد أعلن الجيش الإسرائيلي أيضًا عن فتح طريقين لإخلاء الفلسطينيين شمال القطاع، على طول طريق صلاح الدين والطريق الساحلي.
وقد دخلت العمليات الإسرائيلية في مخيم جباليا يومها الخامس عشر، وظهر من خلال مجرياتها أن هذا النطاق – الذي دخلت القوات الإسرائيلية خلاله ثلاث مناسبات سابقة – مازال يمتلك قدرات جيدة للقتال على الأرض من جانب عناصر كتائب القسام، وبدا هذا بمثابة تأكيد إضافي على حجم التعديلات التي نفذتها الكتائب على أسلوب عمل عناصرها، منذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في جبهة رفح، حيث بدأت الكتائب في تجميع صفوفها ودمج الفصائل والسرايا، لتكوين وحدات قتالية مصغرة، مدعومة بعناصر مسلحة مجندة حديثًا، وباتت عمليات هذه الوحدات القتالية، تعتمد بشكل أكبر على تكتيكات الكمائن وحرب العصابات، خاصة وأن العنصر البشري المدرب المتوفر بات أقل مما كان عليه الحال في بداية العمليات، معتمدة في تحديد أولوياتها الميدانية على أوامر قيادات محلية لها القدرة على اتخاذ القرارات الميدانية حسب تطورات الموقف على الأرض، دون الحاجة للعودة إلى القيادات العليا في كتائب القسام وحركة حماس.
يضاف إلى ذلك، منح القيادات الميدانية في كتائب القسام، درجة أعلى من المرونة، تسمح لهم بالانسحاب بشكل مؤقت من مناطق معينة خلال عمليات التطهير الإسرائيلية، على أن يعودوا إلى تلك المناطق بعد مغادرة الإسرائيليين. وبما أن عمليات التطهير الإسرائيلية لا تتضمن التواجد بشكل كامل في هذه المناطق، فهذا يسمح للمقاتلين الفلسطينيين بالعودة مرة أخرى، وهذا يمكن فهمه بشكل أكبر من خلال النظر إلى مجريات بعض عمليات التطهير التي نفذتها القوات الإسرائيلية في شمال وجنوب قطاع غزة، خاصة في مناطق حي الزيتون ومخيم جباليا، وفي مناطق شرق خانيونس.
النقطة الأهم في هذا الصدد كانت في استمرار كتائب القسام في امتلاك قدر مهم – ولو محدود – من مرونة القيادة والسيطرة، سمح لها رغم السيادة الجوية الإسرائيلية على أجواء القطاع، في تنفيذ ضربة صاروخية في السابع من أكتوبر الماضي، تضمنت ثلاث عمليات إطلاق صواريخ، الأولى استهدفت نطاق مدينة عسقلان ومستوطنة سديروت، في حين استهدفت الثانية بأربعة صواريخ مستوطنتي كيسوفيم وعين هشلوشا، أما الثالثة فتمت من خانيونس، واستهدفت مناطق كفار حاباد وحولون قرب تل أبيب.
بالنظر لما تقدم، وحقيقة أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة تتم حاليًا في مخيم جباليا الذي سبق وحاول الجيش الإسرائيلي تنفيذ عمليات بداخله عدة مرات، واتضح أن مستوى المقاومة التي تلقاها الوحدات الإسرائيلية كبير لدرجة دفعت القيادة العسكرية الإسرائيلية أمس، لتعزيز وحدات الفرقة 162 التي تقاتل في جباليا، بكتائب من لواء جفعاتي، يمكن القول أن عمليات الاغتيال في الكادر القيادي لكتائب القسام، وصولاً إلى عملية اغتيال السنوار، لم تشكل هذا القدر من التأثير على قدرة الكتائب على الاستمرار في مواجهة إسرائيل، وما زال هناك على الأرض على الأقل ثمانية كتائب ذات قدرة ميدانية جيدة، وهو ما يفسر استمرار العمليات القتالية رغم مرور عام على بدء العمليات العسكرية، وعليه فإن مقتل السنوار لن يؤثر بشكل جذري على استمرارية أنشطة كتائب القسام على الأرض، لكن ما سيؤثر بكل تأكيد، هو توجهات القيادة الجديدة لحركة حماس.
هذه القيادة الجديدة ستواجه عدة استحقاقات أساسية، منها ما يرتبط بضرورة العمل على التصدي بشكل عاجل للمخطط الجاري حاليًا في شمال قطاع غزة، والذي يستهدف إخلاؤه بشكل كامل، أو على الأقل إخلاء المناطق القريبة من معبر إيريز الحدودي شمال القطاع – بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا – ومنها ما يرتبط بمستقبل أي صفقة لتبادل الأسرى بين القسام وإسرائيل، خاصة في ظل الضغط الميداني الحالي، ووجود نوايا إسرائيلية لاستخدام جثة السنوار كورقة للمقايضة.
الأكيد أن مشهد مقتل السنوار -خاصة أنه لم يكن مختبئًا وكان مرتديًا الحلة الميدانية الكاملة– جعل “الإنجاز الإسرائيلي” ينخفض في تأثيره إلى حدود أقل بكثير من المستهدف – وكان مقتله – عن طريق الصدفة البحتة – دليلًا على نجاح منظومة أمن كتائب القسام – التي كانت تتولى تأمين السنوار – فيما فشلت فيه منظومة أمن حزب الله، ألا وهو مقاومة عملية الاختراق الإسرائيلية متعددة الطبقات والأساليب، علمًا أن تل أبيب ظلت خلال الفترة الماضية تؤكد على وجود السنوار داخل الأنفاق الموجودة في وسط القطاع. الشعرة الفاصلة بين تحقيق الجيش الإسرائيلي ما يريده في قطاع غزة، وبين اكتفائه بما تحقق على الأرض، هو ردة فعل كتائب القسام على الأرض، والتي رغم تعرضها لضغوط ميدانية غاية في الشراسة، إلا أنها مازالت عاملة على الأرض، ويتوقع أن تظل كذلك في المدى المنظور، خاصة لو وضعنا المشهد الحالي في مخيم جباليا في الاعتبار.