بعد أشهر من الانتخابات العامة المبكرة الفرنسية التي أسفرت عن مأزق سياسي وبرلمان معلق، كشف القصر الرئاسي الفرنسي عن تشكيلة الحكومة الجديدة التي طال انتظارها بقيادة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، والتي تمثل تحولًا حاسمًا وقويًا نحو اليمين؛ فبالرغم من محاولة تصويرها على أنها تمثل توازنًا دقيقًا بين اليمين والوسط فإنها تتجاهل بشكل واضح اليسار الفائز بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية وكذلك أقصى اليمين، وكل ذلك يأتي في الوقت الذي تواجه فيه فرنسا تحديات سياسية واقتصادية على المستوى الداخلي، وتحديات خارجية تتمحور حول تصاعد الديون الفرنسية بما يتجاوز قواعد الاتحاد الأوروبي.
الخروج من المأزق السياسي
وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حزبه “النهضة” الوسطي وحكومته في وضع حرج عندما دعا لانتخابات مبكرة في مطلع يوليو الماضي، معتقدًا أن الفوز بأغلبية المقاعد سيكون أمرًا محسومًا لصالحه وأن بإمكانه إقصاء اليمين بزعامة مارين لوبان من المشهد السياسي عقب التقدم الملحوظ لحزبها في الانتخابات الأوروبية. ولكن هذا ما لم يحدث، فقد شهدت هذه الانتخابات إعادة خلط لكافة الأوراق السياسية، ما أسفر عن خروج الأحزاب السياسية الرئيسة الثلاثة من اليسار والوسط واليمين بحصص كبيرة من الأصوات دون الاقتراب من الأغلبية المطلقة، ولم يعد حزب “ماكرون” الحزب الأكبر في البرلمان، بل تراجعت شعبيته وأصبح مقيدًا إلى حد كبير بعد أن كان ينفرد وحده بالتشريعات والقرارات.
وقد جاء التحالف اليساري “الجبهة الشعبية الجديدة”، والمكون من ائتلاف يجمع الاشتراكيين والخضر والشيوعيين وحزب فرنسا الأبية اليساري المتطرف، في المرتبة الأولى بحصوله على 193 مقعدًا في مجلس النواب الذي يضم 577 عضوًا، بينما تراجع حزب “ماكرون” إلى 166 مقعدًا، وارتفع نصيب حزب التجمع الوطني ذي التوجهات اليمينية بقيادة مارين لوبان إلى 142 مقعدًا، وظل الجمهوريون المحافظون بقيادة “بارنييه” في المركز الرابع بحصولهم على 47 مقعدًا، ما أدى في النهاية إلى برلمان معلق حال دون تشكيل حكومة جديدة لمدة أكثر من شهرين، الأمر الذي عكس عمق الانقسام في الداخل الفرنسي وترك البلاد لأسابيع بلا دفة، ما سمح بتفاقم العداوات بين الأحزاب السياسية.
ومن المعتاد أنه في حالة هزيمة معسكر الرئيس في الانتخابات أن يقوم الرئيس بتعيين رئيس وزراء من الحزب المعارض الفائز، ولكن هذا لم يحدث، ولم يقم ماكرون حتى بتعيين رئيس الحكومة من حزبه الوسطي، بل قام بتعيين ميشيل بارنييه، السياسي من يمين الوسط والمفوض الأوروبي والمفاوض الرئيس للاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رئيسًا للوزراء، على الرغم من الأداء الضعيف لحزبه الجمهوري في الانتخابات، وذلك على أمل تجاوز المأزق السياسي وإعادة الاستقرار للبلاد.
وربما جاء اختيار رئيس وزراء يميني بسبب زعم “ماكرون” أن اليسار ومرشحته لوسي كاستيس لن يتمكنا من حشد الدعم الكافي لتشكيل حكومة لن تسقط على الفور في البرلمان، خاصة وأن الجبهة الشعبية الجديدة لم تعط أي فرصة لتشكيل حكومة أقلية، كما رفضت تقديم التنازلات والانضمام إلى تحالف حكومي أكثر ميلًا إلى اليسار، فضلًا عن إعلانها أنها ستقوم بهدم جميع قرارات “ماكرون” كقانون إصلاح نظام التقاعد والهجرة، وبالتالي وجد ماكرون في التقرب من اليمين فرصة تطيح بفكرة انفراد اليسار بالحكم، وكذلك فرصة لعدم تحميله أي مسؤولية في حالة فشل “بارنييه” في مهامه.
وعقب تسمية “بارنييه” رئيسًا للوزراء، قام على الفور بإجراء مفاوضات مطولة لإيجاد حكومة قابلة للاستمرار اتساقًا مع رغبة ماكرون في تشكيل ائتلاف واسع النطاق قدر الإمكان. ولكن رغم ذلك فإن هذه المفاوضات قد كشفت عن مدى الانقسامات السياسية بين “ماكرون” و”بارنييه”، فوفقًا لصحيفة “لوفيجارو”، فقد اتسمت المفاوضات بين الطرفين بالتوتر الشديد، حيث أراد “بارنييه” تشكيل حكومة أكثر ميلًا إلى اليمين، بينما أصر “ماكرون” على أن أي حكومة يجب أن تظل ثابتة اتجاه يسار الوسط، ولكن في النهاية وافق “ماكرون” على الحكومة التي اتضح أنها لا تضم عناصر من التيارات اليسارية أو من أقصى اليمين.
وتلك التوترات قد تجعل الحكومة الجديدة عُرضة للخطر في أي لحظة، خاصة وأن اليسار الحاصل على أكبر عدد من المقاعد يعارض بشدة الائتلاف الجديد، ويرى أن “ماكرون” قد همّش نتيجة الانتخابات، وعليه فمن الممكن أن تسقط حكومة “بارنييه” إذا قرر أيضًا حزب التجمع الوطني الانضمام لليسار والتصويت على حجب الثقة؛ كونهما لديهما من المقاعد ما يكفي لإسقاط الحكومة، وبالتالي فإن استمرار هذه الحكومة مرهون بعدم توحيد الأصوات بين اليسار واليمين.
التشكيل الحكومي وأبرز ردود الأفعال عليه
تضم الحكومة الجديدة 39 عضوًا بين الوسطيين من حزب ماكرون “النهضة”، وهذه إشارة إلى النفوذ الدائم لرئيس الدولة الفرنسية على الحكومة على الرغم من الخسائر التي مني بها حزبه في الانتخابات. وبجانب الوسط، هناك شخصية يسارية واحدة فقط، وكذلك سياسيين من اليمين من حزب رئيس الوزراء الجديد بارنييه الجمهوري، إذ يتولى 3 منهم مناصب حاسمة وحساسة، الأمر الذي يمثل عودة قوية للمحافظين في فرنسا الذين تم تهميشهم خلال معظم فترة رئاسة “ماكرون”.
وقد اختار “بارنييه” عضو مجلس الشيوخ برونو ريتيليو لمنصب وزير الداخلية، ويعتقد مراقبون أن هذا الاختيار يأتي من منطلق إسكات اليمين، خاصة وأن حقيبة “ريتيليو” الوزارية تغطي شؤون الهجرة، ما يعني أنه سيكون متشددًا في التعامل مع هذه القضية بما يتماشى مع أجندة اليمين، بجانب إشرافه على إنفاذ القانون والأمن.
ونجد أن بعض كبار الشخصيات في الحكومات السابقة قد احتفظوا بمناصبهم، وعلى رأسهم رشيدة داتي ذات الأصول المغربية وزيرة للثقافة، وسيباستيان ليكورنو وزير الدفاع والحليف المقرب لماكرون والذي لعب دورا فعالًا في تعزيز القدرات العسكرية الفرنسية بما في ذلك تحديث أنظمة الدفاع وإدارة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، ويرى محللون أن إدارته لملف الدفاع ستكون حاسمة في الوقت الذي تتولى فيه فرنسا دورها داخل حلف شمال الأطلسي، وكذلك في التعامل مع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة بشأن الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط.
كما تضم الحكومة شخصية يسارية واحدة فقط ديدييه ميجود في منصب وزير العدل، وهو نائب اشتراكي سابق ورئيس مؤسسة التدقيق الرسمية الفرنسية السابق. وتمت ترقية “جان نويل بارو”، وهو من الوسط وكان وزيرًا مساعدًا للشؤون الأوروبية معروف بعمله في مجال التحول الرقمي إلى منصب وزير الخارجية؛ كونه يتمتع بخبرة واسعة في التعامل مع القضايا الدولية المعقدة، وخاصة داخل الاتحاد الأوروبي.
بينما تم تعيين “أنطوان أرماند” في منصب وزير الاقتصاد والمالية عن حزب “ماكرون” والذي قاد لجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس النواب، وسيتعين عليه توجيه السياسات المالية الفرنسية ومواجهة التحديات الاقتصادية القائمة وسط الضغوط المتزايدة من بروكسل لمعالجة الديون الفرنسية المتزايدة.
وعن أبرز ردود الأفعال حول التشكيل الحكومي الجديد، فالمراقبون يرون أن “بارنييه” قد اتجه لقيادة حكومة تعتمد في معظمها على الدعم البرلماني من حلفاء “ماكرون” من حزبه الوسطي -بالرغم من استيائهم من قرار حل البرلمان السابق-، فضلًا عن الجمهوريين المحافظين؛ رغبةً في فرصة أفضل للنجاة من اقتراح حجب الثقة في البرلمان، أو على أقل تقدير حتى تمر المهلة الدستورية المحددة بسنة قبل أن يتم حل البرلمان مجددًا، حتى لا يتم تحميل “ماكرون” مسؤولية تكرر سقوط الحكومات التي يقوم بتسمية وزرائها، وبالتالي يكون وحيدًا في مواجهة الرأي العام.
وكان “ماكرون” يعول أيضًا على موقف محايد من أقصى اليمين، لكن زعيم التجمع الوطني، جوردان بارديلا، سارع إلى إدانة تشكيل الحكومة الجديدة، حيث قال عبر حسابه الشخصي على منصة إكس إن الحكومة الجديدة “لن يكون لها مستقبل”، واصفا إياها بأنها “عودة إلى الماكرونية من خلال الباب الخلفي”. وكذلك انتقدت ماري لوبان اختيار الحكومة باعتبارها لا تتماشى مع “رغبة الناخبين في التغيير”، واصفة إياها بالحكومة الانتقالية، ومحذرة من استخدام ورقة التصويت بحجب الثقة حال عدم احترام “بارنييه” وحكومته الجديدة معايير حزبها، وهي النبرة التي يرى فيها مراقبون أنها الأولى التي تسمح لحزب “لوبان” أن يحظى بهذا القدر من النفوذ في محادثات تشكيل الحكومة.
الجدير بالذكر أن “لوبان” كانت قد هددت بحجب الثقة عن كزافيه برتراند، الاسم المرشح لرئاسة الوزراء قبل رئيس الوزراء الحالي، لكنها لم تصرح بالمثل عند تسمية “بارنييه” للمنصب، ما يعني أنه اسم مقبول من التجمع الوطني، وهو الأمر الذي عرّض ماكرون لاتهامات بالتواطؤ واسترضاء اليمين المتطرف.
أما عن موقف اليسار، فقد أكد سياسيون معارضون من التيارات اليسارية أنهم سوف يتحدون الحكومة في أول فرصة، وذلك من خلال اقتراح بحجب الثقة وزيادة الضغط الشعبي على الحكومة، حيث وصف جان لوك ميلينشون وزعيم حزب “فرنسا الأبية” التشكيلة الحكومية الجديدة بأنها “حكومة الخاسرين في الانتخابات العامة”، مؤكدًا أن فرنسا يجب أن “تتخلص” من هذه الحكومة غير الشرعية “في أقرب وقت ممكن”، بينما وصف رئيس الحزب الاشتراكي أوليفر فوري الحكومة الجديدة بأنها “حكومة رجعية تضع الديمقراطية في موقف محرج”، واصفًا التشكيل الجديد بأنه مجرد “تعديل وزاري” لحكومة ماكرون السابقة.
على الصعيد الآخر، أبدى الحزب الجمهوري دعمه الضمني لرئاسة “بارنييه” للوزراء، لكنه احتفظ بالحق في الانسحاب في أي وقت إذا لم يتم تلبية مخاوفه بشأن الهجرة والأمن وغيرها من القضايا. أما على الصعيد الشعبي، فقد نزل آلاف الأشخاص ذوي الميول اليسارية إلى الشوارع في باريس ومدينة مارسيليا الساحلية الجنوبية وأماكن أخرى للاحتجاج فور الإعلان عن الحكومة، إذ يرون أنها لا تعكس نتائج الانتخابات البرلمانية، كما لا يوجد فيها أحد من داخل كتلة الجبهة الوطنية للتغيير.
تحديات أمام الحكومة الجديدة
على الرغم من الشراكة بين حزب “ماكرون” الوسطي والتيار اليميني فإن البرلمان سيظل منقسمًا وسوف تعتمد الحكومة على دعم الأحزاب الأخرى لإقرار التشريعات، كما سيتعين على “بارنييه” أن يقدم رؤيته للشعب الفرنسي في خطاب عام حول السياسة العامة أمام الجمعية الوطنية، والذي يمكن أن يتبعه تصويت بحجب الثقة من قبل معارضيه الذين يؤكدون على عدم شرعية تلك الحكومة منذ الإعلان عن تشكيلها. وإذا نجحت الحكومة الجديدة في النجاة من أي تصويت بحجب الثقة، فستواجه تحديات عاجلة تتمحور حول:
السياسة الاقتصادية: حيث ستواجه الحكومة عملية إقرار موازنة عام 2025 بحلول الأول من أكتوبر القادم، والتي تهدف في المقام الأول إلى خفض الإنفاق لمعالجة الوضع المالي المتفاقم في فرنسا بسبب الإنفاق المتزايد لحماية الاقتصاد الفرنسي أثناء جائحة كورونا، ولحماية الأسر الفرنسية من ارتفاع أسعار الطاقة في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، فضلًا عن زيادة الإنفاق الدفاعي لمواجهة التهديد الروسي.
وسيكون هذا أول اختبار سياسي حقيقي لبارنييه في ظل وجود عقبات تدور حول الاتفاق على سبل خفض الإنفاق وتخفيض الديون الخارجية واحتمالية زيادة الضرائب التي بدورها قد تؤدي إلى احتجاجات اجتماعية واسعة النطاق، في ظل معارضة كل من أقصى اليسار وأقصى اليمين في الجمعية الوطنية الفرنسية لخطة خفض الإنفاق، ودعواتهم إلى اتخاذ تدابير مكلفة من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم ديون فرنسا، ولعل أبرزها هو إلغاء قانون المعاشات المثير للجدل الذي أقره الرئيس الفرنسي وتم رفع سن التقاعد بموجبه إلى 64 عامًا بهدف ضبط موازنة المعاشات.
وبحسب بيانات وزارة المالية الفرنسية، فقد وصل الدين الفرنسي إلى 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام بمقدار عجز يصل إلى 154 مليار يورو (172 مليار دولار)، وهو ثاني أعلى عجز في الاتحاد الأوروبي بعد إيطاليا، ومن المتوقع أن يتجاوز نسبة الـ 6% عام 2025، وهو ما يفوق نسبة الـ 3% المطلوبة بموجب قواعد الإنفاق في الاتحاد الأوروبي. وقد تواجه فرنسا غرامات من الاتحاد الأوروبي إذا فشلت في خفض هذا العجز بحلول عام 2027، ولهذا يأمل معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يكون “بارنييه” هو الرجل المناسب للمساعدة في تصحيح المسار؛ نظرًا لخبرته في بروكسل ومهارته في التفاوض، ولهذا يمكن لباريس الحصول على وقت إضافي -سبع سنوات بدلًا من أربع سنوات- لخفض ديونها إذا أظهرت أنها تنفذ إصلاحات داعمة للنمو أو أن تستثمر في قطاعات استراتيجية.
وعادةً لا يضع رئيس الوزراء نفسه ضمن الخطوط الأمامية في بروكسل، فالوزراء يمثلون مصالح الحكومة في محادثات الاتحاد الأوروبي، في حين يحمل الرئيس الفرنسي صوت البلاد إلى بروكسل بشأن الملفات رفيعة المستوى. ولكن مع وجود “بارنييه” في السلطة، فإن الأمور قد تكون مختلفة، وقد نشهد قيادة أكبر من قبله لأبرز الملفات في الاتحاد الأوروبي من المقعد الخلفي مقارنة بأسلافه.
- احتمالية التصادم مع ماكرون
على الرغم من التوترات التي شهدتها عملية اختيار الحكومة الجديدة فإنها لا تعني أن الرئيس ورئيس الوزراء يختلفان بالضرورة حول الرؤية الفرنسية لجعل البلاد قائدًا قويًا داخل الاتحاد الأوروبي. ولكن هناك ملفات حساسة لا يتفق عليها الاثنان، لعل أبرزها ملف الهجرة وحرب أوكرانيا؛ إذ إن “بارنييه” قد يضطر إلى اتخاذ مواقف حازمة تجاه ملف الهجرة لإرضاء حزبه اليميني الذي يقوده لوران فوكييه والذي يطمح للترشح في الانتخابات الرئاسية 2027، ويريد أن يخطف هذه الورقة “الرابحة” من بين يدي حزب ماري لوبان اليميني، كونها فرصة لاستعادة ثقل هذا الحزب بعد أعوام من التهميش.
التصادم مع أنصار ماكرون: هذا خاصة وأن بعض أنصار “ماكرون” منقسمون بالفعل عقب دعوته المفاجئة للانتخابات البرلمانية بين اليمين واليسار بشكل لا يستطيع ماكرون نفسه السيطرة عليه، كون فترة رئاسته هي الأخيرة بدون صلاحيات تذكر، وأيضًا مع ظهور جابريال آتال رئيس الوزراء السابق الأكثر شعبية وتأثيرًا داخل حزب النهضة، وأشد المستائين من قرار حل الجمعية الوطنية، والذي أصبح الآن ينظر بدوره إلى الانتخابات الرئاسية 2027 كخليفة لماكرون، وبالتالي قد لا يتعاون “آتال” مع الحكومة الجديدة حال عدم اتفاقه مع سياسات “بارنييه”، وقد يتجه نحو اتخاذ آراء منفردة ومستقلة لزيادة ثقله السياسي خارج إطار العمل البرلماني، ما قد يخلق المزيد من التوترات الداخلية التي تعقد عملية صنع القرار داخل الحكومة.
تقديم تنازلات للمعارضة: قد يكون ضمان استمرار الحكومة الحالية في العمل على تقديم تنازلات من أجل عدم التقاء أقصى اليمين واليسار الغاضب سويًا لسحب الثقة، بل ولتمرير أكبر عدد من التشريعات دون تقويض، وبالرغم من أن الهدف الأساسي من تشكيل الحكومة الحالي هو منع اقتراب اليمين المتطرف من السلطة فإن حزب التجمع الوطني بقيادة “لوبان” أصبح يتحكم بمفاتيح اللعبة السياسية لاستمرار الحكومة الجديدة؛ كونه يمتلك من المقاعد ما يكفي للاتحاد مع المعارضين من اليسار ومن ثم التصويت بحجب الثقة وإسقاط الحكومة. وعليه، تعكس التصريحات الأخيرة لماري لوبان أن الحزب سيضع نفسه في موضع المراقب على أداء الحكومة، وسنجد أن “بارنييه” سيحاول أن يتماشى وحكومته- ولو قليلًا- مع أجندة التجمع الوطني خاصة في الملفات المتعلقة بالهجرة أو الموازنة العامة. مع العلم أن “لوبان” قد أبدت استعدادها للتعاون مع الحكومة الحالية حال توافقا على خطة ضبط السياسة المالية الفرنسية.
الرأي العام: فالشارع الفرنسي -وحتى الآن- لا يتقبل التشكيل الحكومي الجديد، خاصة وأن المشاركين في الانتخابات الأخيرة يرون أن الحكومة الجديدة لا تعكس بأي شكل من الأشكال أصواتهم في صناديق الاقتراع، وأن رغبتهم في التغيير قد تم محوها تمامًا من قبل “ماكرون”، وهو أمر قد يؤثر بشكل كبير في ثقة الناخبين في العملية السياسية الفرنسية، وقد يزداد الاحتقان الشعبي كانعكاس للقرارات الحكومية القادمة، وهو أمر يهدد استقرار الحكومة.
وإجمالًا، يبدو أن الحكومة الفرنسية الجديدة على موعد مع العمل بشكل أكثر استقلالية من أي وقت مضى خلال ولاية “ماكرون”، كون الرئيس ورئيس الوزراء يتشاركان في العديد من الأفكار والطموحات لمستقبل فرنسا، هذا بجانب رضا “ماكرون” عن وجود حزبه داخل التشكيل الجديد للحكومة، ولكن هذا لا يلغي استمرار التوترات من قبل الأحزاب الأخرى اليمينية واليسارية التي لم تشارك في التشكيل الجديد. ولا شك أن الحكومة الجديدة ستواجه تقويضًا مستمرًا لمشاريع القوانين المقترحة في البرلمان، وهذا يعني تقديم المزيد من التنازلات لتجنب انهيار الحكومة في ظل استمرار التهديد بحجب الثقة.