تعرضت “مظاهرة سلمية” نظَّمها حزب الله وحركة أمل، بحسب روايتهما، للقنص في منطقة الطيونة، في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ليسقط فيها سبعة قتلى وأكثر من ثلاثين جريحًا، وكانت احتجاجًا على المحقق العدلي في انفجار المرفأ، القاضي طارق البيطار، ما لبثت أن تحولت لمواجهة عسكرية بين منطقتين متجاورتين، الأولى: (الشياح) حاضنة للثنائي حركة أمل وحزب الله، والثانية: (عين الرمانة) حاضنة لحزب القوات اللبنانية بشكل رئيسي. ووجَّه الثنائي الاتهام للقوات اللبنانية مباشرة بالمسؤولية عمَّا وصفوه بالكمين.
وجاءت هذه المظاهرة في أعقاب خطاب لأمين عام حزب الله، حسن نصرالله، في 11 أكتوبر/تشرين الأول، دعا فيه لتنحية البيطار متهِمًا إياه “بتسييس” التحقيق، أي العمل وفق أجندة سياسية لا قضائية، وتأتي أيضًا بعد أن أرجأ مجلس الوزراء اجتماعه الذي كان مقررًا عقده في 13 أكتوبر/تشرين الأول، أي قبل يوم واحد من الحادثة فقط، بهدف التشاور بخصوص التعامل مع طلب تقدم به وزراء الثنائي لتنحية البيطار، ردًّا على إصدار الأخير مذكرة توقيف بحق النائب في البرلمان ووزير المال السابق، علي حسن خليل (ينتمي لحركة أمل)، كما أصدر سابقًا مذكرة توقيف بحق وزير الأشغال السابق، يوسف فنيانوس (ينتمي لتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية)، ومذكرة إحضار بحق رئيس الحكومة السابق، حسان دياب.
نفى حزب القوات اللبنانية الاتهام بأية مشاركة مسلحة في الأحداث، وأكد أن ما جرى لا يعدو كونه قيام أهل المنطقة بالدفاع عن أنفسهم. ووصف رئيس حزب القوات، سمير جعجع، ما جرى بأنه “ميني 7 أيار مسيحي” يقوم به حزب الله، أي هو اعتداء من الأخير على أهالي منطقة عين الرمانة “المسيحية”، لفرض قرار تنحية البيطار بقوة السلاح، وذلك في تكرار لسيطرة حزب الله على بعض أحياء بيروت (الإسلامية) الحاضنة لتيار المستقبل، في مايو/أيار 2008.
السياق الطائفي والإقليمي
تأتي هذه الحادثة في سياقين واضحين:
الأول: يتعلق بالانقسام الطائفي بين المسلمين والمسيحيين؛ حيث غلب على المسلمين اتهام البيطار “بالاستنسابية” أي الانتقائية في التحقيق، في حين غلب على “عموم القوى المسيحية” التمسك بالقاضي بيطار حذرًا من نسف التحقيق وبدت وكأن التفجير قضيتها أكثر من سواها، لأنه أصاب في جُلِّه المناطق المسيحية، مع العلم بأن ضحايا انفجار المرفأ ليسوا من طائفة واحدة، بل بينهم جنسيات أخرى غير لبنانية. وكان رؤساء الحكومات السابقون قد دعموا رئيس الحكومة السابق، حسان دياب، في مواجهة “مذكرة الجلب” التي أصدرها البيطار واعتبروها مسًّا بمنصب رئيس الوزراء المحسوب على الطائفة السُّنِّية. كما اقترح تيار المستقبل على البرلمان مشروع تعليق الحصانات عن جميع المسؤولين ليتساوى الجميع ومن بينهم رئيس الجمهورية، أمام القانون ومنعًا “للاستنسابية” والانتقائية في استهداف المسؤولين، ولتجاوز الاختلافات حول تفسير القوانين وتعدد المحاكم. وبهذا يلتقي تيار المستقبل في موقفه المبدئي من البيطار مع الثنائي، لكنه بالنسبة للحادثة نفسها بدا أقرب للحياد منه إلى أيٍّ من طرفي النزاع، بسبب خلافه المستفحل مع حزب الله الذي بات جزءًا من الاشتباك الإقليمي، ما يشي بأن الخلاف الطائفي حاضر ولكن إلى جانب عوامل أخرى لا تقل عنه تأثيرًا.
الثاني: وهو الانقسام السياسي؛ حيث يتقدم راهنًا الاشتباك الإقليمي ودور حزب الله فيه وانعكاساته اللبنانية على الخلاف الطائفي؛ إذ يعتقد حزب الله أن هناك مسارًا إقليميًّا ذا امتداد محلي يستهدفه محليًّا كما يستهدف محور المقاومة إقليميًّا، ويرى أن غاية التحقيق اللبناني في قضية المرفأ مشابهة لتلك التي كانت في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، وهناك أطراف لبنانية ضالعة في هذا، وهو ما يدفعه للخشية من القاضي البيطار. وبالمقابل أكد جعجع أن الأولوية هي لمواجهة حزب الله، بوصفه امتدادًا لهيمنة إيرانية على لبنان ومؤسساته، ويرى في سعي حزب الله لإزاحة البيطار مبعث شك حوله. وموقف جعجع من “هيمنة الحزب” وسلاحه بالمبدأ، يتجاوز الطائفي حيث يلتقي معه آخرون من بقية الطوائف، منهم تيار المستقبل رغم خلافه معه.
تداعيات ورسائل
أهم التداعيات المباشرة لهذه الحادثة تجميد الثنائي لعمل الحكومة إلى حين توقيف الفاعلين وإحالة القضية إلى المجلس العدلي وتنحية البيطار عن التحقيق في انفجار المرفأ، ولعل هذه الأخيرة تكون الأهم لأنها السبب المباشر لما حصل، وهو المطلب الأصعب.
والجدير بالذكر أن الحكومة اللبنانية تشكَّلت برئاسة نجيب ميقاتي منذ أكثر من شهر، وكان تشكيلها أحد الشروط لمساعدة لبنان في أزمته؛ حيث يعاني من انهيار اقتصادي وعملته الوطنية تتداعى، وأصبح معظم سكانه تحت خط الفقر. وفي الوقت الذي تُجمع فيه كل القوى على انتظار التحقيقات بهذه الحادثة، خاصة مع اتضاح سقوط أحد القتلى على الأقل بنيران جندي من الجيش اللبناني، فإن الحادثة بعثت عدة رسائل وتركت عدة تداعيات يمكن إجمالها في مجموعة من النقاط والملاحظات:
أولًا: أهم هذه الرسائل على الإطلاق تلك التي كرَّستها القوات اللبنانية في أعقاب تلك الحادثة، ومن ورائها قوى مسيحية أخرى، وهي أنهم لا يريدون أن يدفعوا ثمن دور حزب الله في الإقليم، وليسوا مضطرين “للخضوع لسُلطته”، ولو تطلب الأمر استعمال شارع بمقابل شارع، أو سلاح مقابل سلاح. كما بدت المناطق المسيحية بعد هذه الحادثة وكأنها ترسم لنفسها حدودًا خاصة بها أكثر من أي وقت مضى منذ اتفاق الطائف، ولو برعاية ما من السلطة السياسية والجيش اللبناني، خشية الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة.
ثانيًا: أن الحكومة غير قادرة على مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها، وقد تُعطِّلها عن القيام بالوظيفة التي أنشئت من أجلها والتي لا تحتمل أية عرقلة أو تأخير، وأهمها: الحؤول دون استمرار الانهيار الاقتصادي، وتحقيق مجموعة من الإصلاحات الضرورية للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي والخارج، والإشراف على الانتخابات النيابية المقبلة (ربيع عام 2022). ففي الوقت الذي عجزت فيه الحكومة عن الاجتماع قبل الحادثة وبعدها، كان الدولار يواصل ارتفاعه أمام العملة الوطنية، والأزمة الاقتصادية كانت في استفحال، فضلًا عن أن معامل توليد الكهرباء كانت لا تزال معظم الوقت خارج الخدمة أو مهددة بالتوقف التام.
ثالثًا: في الوقت الذي تقوم المبادرة الفرنسية على تحييد لبنان عن أزمات الإقليم وكانت في خلفية تشكيل الحكومة، بدا الوضع اللبناني قابلًا للانفتاح على أزمات الإقليم عند مواجهة أي تحدٍّ أمني داخلي؛ حيث تبادلت الأطراف الرئيسية للحادثة وفور وقوعها الاتهام بالعمل من أجل محاور إقليمية ودولية؛ فقد اتُّهمت القوات اللبنانية من قبل الثنائي بالعمل مع السفارة الأميركية وعواصم عربية ضد “محور المقاومة”. وبالمقابل، اتُّهم حزب الله من قبل القوات وقوى أخرى بالعمل من أجل إيران وتغليبه لمصالحها على المصالح الوطنية ولو باستعمال السلاح في حروب داخلية. وبالتالي فلا شيء يمنع من أن تنخرط هذه القوى في أزمات الإقليم أيضًا إن استدعى الأمر منها ذلك؛ ما يعني بعبارة أخرى أن الأزمة اللبنانية لا تزال فاعلة في الاشتباك الإقليمي ولم تبتعد عنه ولو قليلًا ولفترة تكفي لتدارك الانهيار أو أهم أسبابه وهو ما كان يُعوَّل عليه بعد تشكيل حكومة ميقاتي.
رابعًا: أكدت الحادثة أن التسوية التي جاءت بالحكومة لإنقاذ البلاد هشة جدًّا، وأن على المجتمع الدولي والأطراف المعنية أن تعي ذلك، لتعيد تقييم وضع الوضع اللبناني ومكانته على سلم أولويات المنطقة، لاسيما بعد أن تراجع الاهتمام به واقترب من حدِّ الإهمال.
خامسًا: إن الانقسام الطائفي في لبنان والاشتباك الإقليمي لا يزالان يتقدمان في تأثيرهما في الشارع اللبناني وفي مجريات الأحداث، على ما جاءت به “انتفاضة تشرين” (17 أكتوبر/تشرين الأول 2019) وحملته من دعوات لتجاوز الطائفية ومحاربة الفساد، وتغيير طبقة الأحزاب الحاكمة وما إلى ذلك من قيم جديدة تبشر بها. ولعلها الرسالة الأقسى للقوى المستقلة والطامحة للتغيير في المجتمع اللبناني.
خاتمة
إن أحد السيناريوهات المطروحة لحل الأزمة، مقايضة تداعيات هذه الحادثة، بداعي أنها تهدد بانفجار حرب أهلية جديدة، مع التحقيق الذي يقوم به القاضي البيطار وذلك بتحجيم صلاحياته ومنازعته فيها أو إفراغ تحقيقه من مضمونه بأية وسيلة قضائية أو سياسية متاحة، هذا إن لم يكن من الملائم تنحيته؛ فالرئيس ميقاتي يشدِّد على عدم تدخله في القضاء وأنه يترك له القرار الملائم، كما يؤكد وزير العدل وحتى قوى أخرى على استمرار القاضي في عمله. وسبب ذلك أن تنحية البيطار وخاصة بعد الحادثة مباشرة وبقرار من السياسيين، قد تعرِّض الحكومة وبعض القوى اللبنانية لضغوط دولية لطالما هددت بها عواصم معنية بالأزمة اللبنانية، منها واشنطن وباريس فضلًا عن استمرار الانكفاء العربي عن مساعدة لبنان.
من جهة أخرى، ليس من المستبعد أن تفتح الحادثة الباب على تسوية جديدة ولو صغيرة، قد تساعد الحكومة على التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية ومن حدة الانهيار المتسارع، لكن ذلك يحتاج إلى تراجع حدة الاشتباك الإقليمي خاصة بين السعودية وإيران، كما يحتاج لموقف دولي أكثر اهتمامًا بلبنان.
أهم ما وقف عنده اللبنانيون ما حملته هذه الحادثة من تذكير ببعض وقائع الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عامًا (1975-1990) قبل أن تنتهي باتفاق الطائف، وأن عودتها دائمًا محتملة مع الانقسام الطائفي الذي لا يزال حيًّا في المشهد السياسي اللبناني.
.
رابط المصدر: