ان الازمات التي يمر بها العالم الإسلامي توحي بضعف البناء الذهني لشخصية الفرد المسلم، وهذا الضعف لا يتعلق بطبيعة البناء الثقافي والحضاري او البنية الفكرية للمنظومة الإسلامية وتعاليمها، وانما هو امر طارئ على المجتمعات الإسلامية جاء نتيجة لتراكم خيبات الامل والاخفاقات التي مردها لأسباب داخلية (الأنظمة الحاكمة) وخارجية (الاستعمار والاحتلال) وما رافقها من حالة سلبية ظلت ملازمة لهم حتى حولتهم الى مجرد مستهلكين للسلوكيات المستوردة ومستعدين للتأثر بغزو الثقافات الأخرى من دون ان يكون لهم بصمة خاصة تميزهم عن الآخرين.
هذا الواقع الذي نعيشه اليوم بحزن يعيد الى الاذهان الماضي الذي صاغ فيه المسلمون الحضارة الإنسانية على مدى قرون في شتى صنوف العلم والمعرفة، جعل الحاجة ملحة الى إعادة صياغة الذهنية الإسلامية من اجل العودة الى المكانة الحقيقة التي يستحقها المسلمون للمساهمة في إعادة بناء حضارتهم وثقافتهم وافكارهم التي طالما خدمت الإنسانية وما زالت.
لقد قدم المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي رؤية مبدعة تناولت آليات منطقية لتقليل الضرر الذي أصاب الشخصية الإسلامية وإعادة صياغتها بطريقة عملية للنهوض من جديد، حيث أشار الى المرحلة الأولى بقوله: “لبناء الشخصية الإسلامية ثقافياً نمر بمرحلتين طبيعيتين هما: الهدم أولاً والبناء ثانياً فالمرحلة الأولى هي تحطيم الثقافات الاستعمارية الغازية، وهدم البنى الفكرية المستوردة”.
ان إشارة الشيرازي الى مرحلة الهدم والبناء إشارة دقيقة ومهمة كونها تصب في خانة السبب والنتيجة او تحديد المرض واسبابه وثم إيجاد العلاج المناسب له: “وهذا يعني معرفة الأمراض الكامنة في جسد الأمة الإسلامية، وذلك لأن الإنسان ما لم يعرف المرض لا يستطيع معرفة العلاج، وكذلك علينا معرفة أسباب تخلفنا”، بالتالي لا يمكن التحول الى مرحلة الإنتاج مالم تحدد مكامن الخلل والضعف من اجل تشخيصها وعلاجها، فالجسد المريض لا يمكن ان يقوم بممارسة نشاطاته الطبيعية، فضلاً عن عدم قدرته على مقاومة الامراض الخارجية التي قد تفتك به.
لذلك ينبغي طرح الكثير من الأسئلة عن أسباب الفشل والتخلف الذي اصابنا، ولماذا وصل الحال الى ما هو عليه من الكسل والتراجع على مختلف المستويات، ولماذا فقد المسلمون الحرية والاخوة والامن والشورى والتكافل الاجتماعي والرفاه الاقتصادي وامتلاك قرارهم السياسي …الخ، بعدها يمكن معرفة الطريق الذي يقودنا الى معرفة الحلول والأجوبة لجميع هذه الأسئلة حيث يقول عنها الشيرازي: “علينا أن نعرف السياسة الإسلامية، كيف هي وكيف تطبق في الظروف الحاضرة؟ الاقتصاد الإسلامي والاجتماع في الإسلام، والزراعة، والتجارة، والصناعة، والجيش، والحرب، والسلم، والعلاقات الدولية، والأحلاف، والمعاهدات، وتحقيق الحرية، وتوزيع القدرات في مراكزها الطبيعية؟ ذلك أن لكل واحد منها أسلوباً وطريقة خاصة في الإسلام يجب معرفتها ثم معرفة كيفية تطبيقها في الزمن المعاصر”.
ان طريقة التفكير التي تعتمد على التشخيص ومن ثم العلاج هي طريقة ناجحة في تقويم الاعوجاج والنهوض من سبات التخلف والاستمرار في طريق التطور والبناء، وهذا ما أكد عليه المرجع الراحل في رؤيته نحو المستقبل وفقاً للمقاييس الإسلامية، سيما وانه يرى ان اغلب الحركات الإسلامية التي قامت للتصحيح ولم يكتب لها النجاح او الاستمرار فشلت لأنها ركزت على الجانب السلبي الذي خرجت ضده، من دون طرح برنامج بديل يصحح المسارات الخاطئة ويغير الواقع الذي يعيشه المجتمع.
“إن السبب، كما تدل عليه جملة من القرائن، هو أن الأمة كانت تعتمد على الجزء السلبي فقط، أما الجزء الإيجابي في طرح برنامج بديل متكامل فلم يكن مطروحاً عندها، أو كان مطروحاً ولكن لم يخرج إلى حيز التنفيذ، وهذا ما يجب أن نتداركه في حركتنا الإسلامية العالمية القادمة، فالواجب معرفة الجزء الإيجابي أيضاً، والذي هو عبارة عن: كيفية الحكم في المستقبل وفقاً للمقاييس الإسلامية، ومن الضروري نشر هذا الوعي بين الجماهير عبر مئات الملايين من الكتب التي تضع بديلا متكاملة جوانبه، محددة برامجه، واضحة معالمه، بينة أساليبه وأهدافه”.
وفي سبيل تحقيق هذا الامر ينبغي البحث عن القدوة الصالحة او القيادة الناجحة للقيام بمهام التغيير والإصلاح والحفاظ على قيم الإسلام الخالدة كالحرية والشورى والاخوة والوحدة وجعلها الأساس في بناء الذهنية الإسلامية المستقبلية، حتى لا تعود الدكتاتورية من جديد لان “الثورة تأكل أبنائها” بسبب قلة الوعي وانحراف أصحاب السلطة عن جادة الصوب، بمعنى انعدام قدرتهم على طرح الخيار الاصلح وانما مجرد تكرار لمن سبقهم في التجارب الفاشلة، وبالتالي التحول من دور المظلوم الى دور الظالم والمستبد.
ان الخارطة التي يرسمها لنا الامام الشيرازي في سبيل نجاح إقامة الحضارة الإسلامية المستقبلية واستمرارها تقوم على امرين مهمين هما:
أولاً: تحطيم الأنظمة الجائرة الحاكمة في بلادنا.
ثانياً: معرفة الطريق الطبيعي المؤدي إلى إقامة حكومة إسلامية تأخذ مكانها وفق الأسلوب الإلهي.
يتضمن الامر الثاني معرفة حقيقية في كيفية تحقيق الحريات فيها، والتقدم الصناعي والثقافي، وكيفية توزيع القدرات؟ وكيفية إحياء نظام الاقتصاد الإسلامي، وكيف نستطيع إزالة الحدود المصطنعة والجمارك؟ وكيف نتمكن من إسقاط الضرائب اللاإسلامية، وكيف نزيل الربا من البنوك عملياً دون أن تصاب البنوك باضطرابات مالية؟ …الخ.
هذا الامر اشبه ببناء بيئة آمنة ومستقرة نستطيع من خلالها إعادة صياغة الذهنية الإسلامية التي انهزمت بفعل تراكم أخطاء الماضي والحاضر، وبالتالي امتلاك القدرة على الإنتاج والابداع والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية من جديد.
التعلم من أخطاء الماضي وتشخيص الامراض التي اصابت جسد الامة الإسلامية وطرح العلاج الناجح من خلال برنامج بديل متكامل ومتوازن يمثل الحلول لكل المشاكل والاخفاقات التي تحاصرنا وفق رؤية إسلامية مستقبلة يمكن ان يشكل نقلة نوعية في تجاوز الفشل والانتقال الى مرحلة النجاح.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/imamshirazi/37465