اعتبارات عديدة: معضلة انتخاب الرئيس في لبنان

رحاب الزيادي

 

اعتاد لبنان على عملية شغور منصب رئيس الجمهورية وقد حدث ذلك خلال نهاية فترة الرئيس ميشال سليمان في 2014، إذ ظل المنصب شاغرًا لمدة عامين نتيجة تعطيل جلسات انتخاب الرئيس من قبل حزب الله وحلفائه، لحين تم انتخاب “ميشال عون” في أكتوبر 2016، وقد تولى منصبه بعد تسوية سياسية مع زعيم تيار المستقبل “سعد الحريري” ليكون رئيسًا للوزراء. وظل عون منحازًا للتيار الوطني الحر برئاسة “جبران باسيل” المتحالف مع حزب الله، وقبل مغادرة عون قصر بعبدا الرئاسي في أكتوبر 2022 عمل على إثارة جدل سياسي ودستوري بتوقيعه مرسوم استقالة حكومة تصريف الأعمال الحالية برئاسة “نجيب ميقاتي” على الرغم من استقالة الحكومة بالفعل منذ بدء جلسات البرلمان الجديد في يونيو الماضي، وطلب عون من البرلمان سحب تكليف تأليف الحكومة من ميقاتي، وهو ما رفضه الأخير وأكد أن الحكومة ستتابع القيام بواجباتها الدستورية كافة.

شهدت فترة الرئيس عون كذلك معضلة استقرار الحكومات في لبنان (سعد الحريري، ومصطفى أديب، ونجيب ميقاتي) في ظل التصادم مع رغبة تحالف عون في استخدام الثلث المعطل، والصراع على مناصب وزارية ومكاسب سياسية لحلفائه، وبرزت فكرة الثلث المعطل حيث يستطيع من يسيطر على ثلث الحكومة أن يتحكم بمصيرها، أو يعطل أي قرار يمكن أن تتخذه الأكثرية عن طريق التهديد بالاستقالة، وقد جرى العرف في لبنان أن يكون الرئيس مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الوزراء سنيًا، ورئيس البرلمان شيعيًا.

استمرت فكرة الثلث المعطل بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية، حيث نص المادة 49 من الدستور اللبناني “ينتخب بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي”. وبذلك يستطيع الثلث المعطل مقاطعة الجلسات وتعطيل عملية الانتخاب، إذ إن هناك إصرارًا من جانب القوى السياسية على استخدام فكرة الثلث المعطل بما يعرقل جلسة انتخاب الرئيس، والتي لم تفلح للمرة الثامنة في انتخابه وكان آخرها في 1 ديسمبر 2022 لعدم توافر النصاب القانوني وهي ثلثا أعضاء البرلمان من إجمالي 128. ويمكن للمرشح أن ينجح في الدورة الأولى إذا حصل على (86 صوتًا) في الدورة الأولى، لكن إذا أخفقت الدورة الأولى في الخروج بفائز، يتم إجراء دورات تصويت أخرى في الجلسة نفسها بأغلبية مطلقة (65 صوتًا)، لكن اعتادت القوى في لبنان على خلق ما يسمى الثلث المعطل من خلال مقاطعة حوالي 43 نائبا للجلسات الانتخابية مما يعرقل عملية اختيار الرئيس.

طبيعة انتخاب رئيس الجمهورية

منذ الاستقلال عام 1943 عرف لبنان قبل “اتفاق الطائف” 8 رؤساء جمهورية هم (بشارة الخوري، كميل شمعون، فؤاد شهاب، شارل حلو، سليمان فرنجية، إلياس سركيس، بشير الجميل، أمين الجميل) وبعد الطائف تعاقب على سدة الرئاسة 5 رؤساء هم (رينيه معوض، إلياس الهراوي، إميل لحود، ميشال سليمان، ميشال عون) لكن خلال السنوات الماضية لم تكن عملية انتقال السلطة سلسلة إلا في حالات معدودة، وفي أغلب عمليات الانتقال كان يتم اللجوء إلى تسوية داخلية أو إقليمية ودولية لانتخاب رئيس جديد، وشهدت لبنان في السابق شغورًا رئاسيًا ثلاث مرات، المرة الأولى مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في 22 سبتمبر 1988، وهو شغور انتهى بانتخاب الرئيس رينيه معوض عام 1989 (أي استمر لمدة عام و44 يومًا).

 والمرة الثانية مع انتهاء فترة الرئيس إميل لحود في 23 نوفمبر 2007، وانتهى الشغور الذي دام نحو 6 أشهر في 25 مايو 2008 مع انتخاب العماد ميشال سليمان نتيجة اتفاق عُقد في الدوحة. لكن المرة الثالثة وتعد الفراغ الأطول في لبنان مع انتهاء ولاية ميشال سليمان في 25 مايو 2014 (والذي استمر لمدة عامين وخمسة أشهر) حتى 31 أكتوبر 2016 بانتخاب الرئيس ميشال عون. من ناحية أخرى؛ شهد لبنان ثلاث عمليات تمديد لفترات بعض الرؤساء وتجاوزت المدة المحددة وهي ست سنوات، الأولى بالنسبة الرئيس بشارة الخوري (1943-1952) والثانية مع الرئيس إلياس الهراوى (1989-1998)، والثالثة مع الرئيس إميل لحود (1998-2007).

بحسب الدستور اللبناني؛ تنص المادة 49 على أن “رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي وتدوم رئاسته ست سنوات، ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية، ما لم يكن حائزًا على الشروط التي تؤهله للنيابة، وغير المانعة لأهلية الترشيح”.

ثمة تحالفان تقليديان في لبنان هما: 8 آذار الذي يضم (حزب الله، حركة أمل، التيار الوطني الحر، تيار المردة)، و14 آذار ويضم (القوات اللبنانية، والحزب التقدمي، وحزب الكتائب، وسنة 14 آذار). ومن بين الأسماء المطروحة في منصب رئاسة الجمهورية لقوى 8 آذار “جبران باسيل” رئيس التيار الوطني الحر، لكن يواجه باسيل بعض التحديات في ظل توتر بينه وبين نبيه بري رئيس مجلس النواب، كما يواجه معضلة العقوبات الأمريكية المفروضة عليه. ومن المرشحين الآخرين “سليمان فرنجية” رئيس تيار المردة، وتشير بعض التقديرات إلى أنه في حال وصوله إلى الرئاسة، فسيكون حلقة الوصل لعودة العلاقات اللبنانية–السورية، حيث يحظى بعلاقات وثيقة مع الرئيس السوري.

 أما من بين المرشحين لقوى 14 آذار “سمير جعجع” رئيس حزب القوات اللبنانية، وله رؤية تتعلق بأن الرئيس القادم يجب أن يكون غير تابع للمحور الإيراني، ومن بين الأسماء الأخرى غير المحسوبة على أي من التيارات السابقة قائد الجيش اللبناني “جوزيف عون”.

اعتبارات عديدة

تكمن معضلة اختيار الرئيس في لبنان، في ظل عدم قدرة أي من الكتل السياسية على تأمين الأغلبية، حيث إن حزب الله وحلفاءه غير قادرين على تأمين أغلبية في البرلمان لانتخاب رئيس وكذلك التيارات الأخرى التي تحسب على المعارضة، بالإضافة إلى معضلة التوافق الإقليمي والدولي على الرئيس القادم في ظل اختلاف مصالح هذه الأطراف، ويمكن توضيح العوامل الداخلية والخارجية التي قادت إلى معضلة انتخاب الرئيس في لبنان على النحو الآتي:

• الانقسام بين التيارات السياسية: رتبت الانتخابات النيابية السابقة في مايو 2022 مجلسًا منقسمًا، حيث إن حزب الله وحلفاءه (حركة أمل، والتيار الوطني الحر) لديهم 60 مقعدًا ولا يملكون أغلبية الثلثين، أما باقي المقاعد 68 لأحزاب المعارضة لكنها منقسمة وتضم حزبي القوات اللبنانية والكتائب، إضافة إلى حركة التغيير في المجتمع المدني، ومجموعة من المستقلين. لذلك لم تستطع أي من الكتل السياسية تشكيل أغلبية تمكنها من اختيار رئيس الجمهورية، كما أن التيارات المعارضة لحزب الله لم تستطيع حشد أغلبية لانتخاب مرشحهم المفضل، لكنها قادرة على عرقلة أي خيار يدعمه حزب الله من خلال حشد الثلث المعطل وعدم اكتمال النصاب البرلماني المطلوب لاختيار رئيس الجمهورية.

ثمة إشكالية أخرى تتمثل في مواقف القوى السياسية من المرشحين؛ يبدو أن حزب الله أمام معضلة ولم يحسم موقفه ما بين وصول رئيس تيار المردة “سليمان فرنجية” إلى الرئاسة كمرشح وحيد من جانب قوى الثامن من آذار، حيث أجريت مشاورات بين الأمين العام لحزب الله “حسن نصر الله” وحليفه جبران باسيل من أجل التوافق على دعم فرنجية لرئاسة الجمهورية، لكن لم تفضِ إلى نتيجة في ظل تمسك باسيل بالترشح، وما بين دعم الحزب لحليفه “جبران باسيل” رئيس التيار الوطني الحر، كما أن لقاء آخر جمع قائد الجيش اللبناني “جوزيف عون” ورئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله “وفيق صفا”. لكن لم يحسم حزب الله من سيختار للرئاسة “جبران باسيل” أم “سليمان فرنجية” أم “جوزيف عون” فهو في حاجه إلى استمرار التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل بزعامة نبيه بري، حتى لا يحدث انقسام بين القوى الشيعية في البرلمان، كما أن الحزب في حاجه إلى التيار الوطني الحر وهو قاعدة مسيحية واسعة، لمواجهة أي مطالب مستقبلية بنزع سلاح حزب الله.

يدعم رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري” مرشح القوات اللبنانية “سليمان فرنجية”، وتشير التقديرات إلى أنه الخيار الأكثر ترجيحًا في ظل الدعم الذي يحظى به من بعض القوى الإقليمية والدولية. لكن على نحو آخر ثمة تحركات للوصول إلى آلية من خلال تعديلات دستورية لانتخاب قائد الجيش جوزيف عون باعتباره يلقى دعمًا من كل من الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في لبنان، وهناك حرص من جانب هذه القوى على ألا تخضع الحكومة اللبنانية ورئيس الجمهورية لسيطرة حزب الله.

من ناحية أخرى، تتمسك أحزاب المعارضة (الحزب التقدمي الاشتراكي، الكتائب اللبنانية، حركة التجدد، حزب الأحرار) وتكتل الاعتدال الوطني ويضم (5 نواب سنة، 6 مستقلين من نواب بيروت وصيدا) بانتخاب “ميشال معوض” رئيس حركة الاستقلال وترفض سليمان فرنجية. كما يرفض جبران باسيل فرنجية، وفي تصريح له قال: “أسهل شيء أن نأتي بفرنجية، ونأخذ ما نريده بالدولة والوزراء والحماية.. ومنها حصتنا بالنفط”، وهو ما يدل على أن حصص التيارات السياسية في النفط تشكل أحد العوامل المتصلة بعميلة اختيار رئيس الجمهورية.

كما أن استمرار الفراغ الرئاسي ينعكس على الملفات الأخرى من حيث تشكيل الحكومة الجديدة، والبدء في إجراءات الإصلاح الاقتصادي، ومن ثم قد يكون الخيار المطروح والأنسب في ظل تعنت الأطراف الداخلية اختيار مرشح توافقي، أو إطلاق يد حكومة تصريف الأعمال برئاسة ميقاتي حتى يتسنى البدء في إصلاحات والحصول على المساعدات الدولية. حيث إن نجيب ميقاتي مكلف من قبل البرلمان منذ مايو 2022 لتشكيل الحكومة، لكن ميشال عون رفض حتى نهاية ولايته التشكيل الذي كان يطرحه ميقاتي ووضع التيار الوطني الحر شروطًا آنذاك من حيث إقرار تعيينات سيادية لمقربين من عون، وإقالة حاكم مصرف لبنان الحالي وتعيين شخصية مقربة من عون بدلا له، وتعيين ستة وزراء يختارهم التيار الحر، ومنح الجنسية اللبنانية لعدد من الأشخاص بمخالفة للدستور وهو ما رفضه ميقاتي، لذلك يتوقف حسم ملف تشكيل الحكومة على الرئيس القادم لأن رئيس الحكومة يُجري الاستشارات النيابية ويوقع مرسوم تشكيلها مع رئيس الجمهورية وفقًا للمادة 64 من الدستور اللبناني.

• الأطراف الإقليمية والدولية: تخضع عملية التوافق حول اختيار رئيس الجمهورية لبعض الاعتبارات الخارجية، حيث تدعم السعودية فكرة اتفاق الطائف وأن تتقاسم القوى في لبنان السلطة وفقًا لنصه وعدم سيطرة القوى الموالية لإيران على الدولة، بينما تصر بعض القوى الداخلية على مراجعة اتفاق الطائف وعلى رأسها التيار الوطني الحر، ويحاول تكريس ذلك بدعم فرنسي لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية وتقليص صلاحيات مجلس الوزراء. وتشير بعض التحليلات في هذا الصدد إلى رؤية فرنسا وعزمها على إجراء تعديلات في (تعيينات الفئة الأولى) وأن يكون منصب حاكم مصرف لبنان من الشيعة، ورئاسة الجمهورية لجوزيف عون، ورئاسة الحكومة لشخصية سنية غير محسوبة على حزب الله، وأن تكون وزارة المالية ووزارة الطاقة والصندوق السيادي للنفط والغاز للثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل). بينما يدعو التغييريون في لبنان إلى تقليص الطائفية وتكريس الدولة المدنية.

على النحو الآخر؛ تساند مصر استقرار الدولة في لبنان والحفاظ على سيادتها ووحدتها، في محاولة لجذبها إلى محيطها العربي من خلال التعاون الاقتصادي عبر خط الغاز العربي والذي تقوم مصر من خلاله بتصدير 65 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي إلى لبنان (من شمال سيناء إلى الحدود الأردنية السورية، ليصل أخيرًا إلى منطقة دير عمار في لبنان).

ترتيبًا على ما سبق؛ يحظى مرشح الرئاسة بالتوافق الداخلي والدعم الدولي، كما أن عملية اختيار الرئيس تتشابك مع ملفات وقضايا أخرى من حيث استقرار الحكومة والأوضاع الاقتصادية والأمنية خاصة بعد اختراق عناصر إرهابية في مناطق لبنانية في البقاع وبيروت والشمال والجنوب وجبل لبنان، وهو ما أكده بيان رسمي لبناني في 9 نوفمبر بتفكيك 8 خلايا إرهابية تتبع تنظيم داعش خلال الأشهر الماضية، واحتمالية تجنيد داعش للشباب في طرابلس اللبنانية لاتصالها بخلايا التنظيم الناشطة في سوريا، بالإضافة إلى أن طرابلس يتركز بها السلفية والإخوان.

لذلك تم طرح فكرة عقد مؤتمر تأسيسي حول لبنان في الأشهر الماضية برعاية فرنسية وسعودية، للتوافق حول الأوضاع في لبنان من حيث انتخاب رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، وحاكم مصرف لبنان، وإجراءات الإصلاح اللازمة ليمنح صندوق النقد الدولي قرضًا للبنان، لا سيما وأن وفد صندوق النقد الدولي خلال زيارته إلى لبنان في نهاية سبتمبر 2022، رهن منح لبنان قرضًا باتخاذ إجراءات وقوانين خاصة بعملية الإصلاح الاقتصادي. وكذلك بالنسبة للبنك الدولي لدعم الحصول على القمح والغاز الطبيعي والكهرباء. وحثت كل من فرنسا والسعودية والولايات المتحدة في بيان لها صدر على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 21 سبتمبر 2022 الأطراف الداخلية على اختيار رئيس للدولة، وإنهاء حالة الشغور الرئاسي تمهيدًا لدعم لبنان اقتصاديًا.

ختامًا؛ تظل المبادرات جارية في لبنان لتحقيق تسوية سياسية بمرشح توافقي تقبل به الأطراف جميعها داخليًا وخارجيًا، ويطرح في ذلك قائد الجيش اللبناني أو ميشال معوض مرشح المعارضة الذي يحظى بأكبر عدد من الأصوات خلال جلسات انتخاب الرئيس التي عقدت على مدار الأشهر الماضية، لكن لن يقبل به حزب الله إلا بعد حصوله على مناصب سيادية في الحكومة الجديدة. وعليه، تظل عملية اختيار رئيس للبنان إحدى الخطوات الأساسية والضرورية لبدء عمليات الإصلاح، وهذا لن يحدث إلا في حالة استقرار الحكومة، ووجود برنامج إصلاح حقيقي يتم البدء في تنفيذه للخروج من الأزمة التي تعاني منها الدولة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/31760/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M