لم تمر الساعة 1:40 دقيقة بسلام على فجر طهران، فقد تلقت العاصمة التي تعلن دعمها لحركة المقاومة الفلسطينية ضربة موجعة واغتالت إسرائيل ضيف الجمهورية الإسلامية في عقر دارها، وكما لم يكن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، ضيفًا عاديًّا فحدث الاغتيال لم ولن يكون اغتيالًا عابرًا.
لم تمض ساعات قليلة على خطاب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، وعناقه الحار لهنية في حفل تنصيبه حتى كانت إسرائيل تضرب في قلب طهران وتغتال هنية وقبله بوقت قصير كانت تضرب في عمق الضاحية الجنوبية في معقل حزب الله مستهدفة قائدًا بارزًا من قادته هو فؤاد شكر، المسؤول عن منظومة الصواريخ الدقيقة في الحزب وأحد قادة المعركة الدائرة مع إسرائيل في الجنوب إسنادًا لغزة، وفي الليلة ذاتها جرى استهداف مقر للحشد الشعبي في العراق.
كان رئيس المكتب السياسي، إسماعيل هنية، من أبرز الضيوف الذين حضروا حفل تنصيب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، الذي انتُخب خلفًا للرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، الذي قضى في تحطم الطائرة الرئاسية التي سقطت أو أسقطت في شمال إيران، أواخر مايو/أيار الماضي.
بصورة مركزة وواضحة تحدث بزشكيان عن القضية الفلسطينية وانتقد السكوت على الجرائم الإسرائيلية بحق أطفال ونساء غزة. وبدت طهران حريصة على إيصال رسالة مفادها أن سياستها الخارجية تجاه فلسطين ومحور المقاومة لن تتغير. انتهى حفل التنصيب الذي جلس في صفوفه الأولى قادة محور المقاومة، لكن بزشكيان سيبدأ مسؤولياته على وقع ضربة تمس بهيبة الدولة التي قال إنها “لن ترضخ للابتزاز”.
رسائل الاغتيال
وأيًّا كان الأسلوب الذي جرى به اغتيال “أبو العبد هنية” مسيَّرة كانت أم صاروخًا موجهًا، فالاغتيال أصاب منظومة أمن الدولة المستضيفة وهيبتها، فقد كان مكان الاغتيال مهمًّا بقدر أهمية الشخصية التي استهدفتها إسرائيل؛ إذ تجاوز اغتيال قائد فلسطيني مهم ليكون ضربة دقيقة وحرجة لكل محور المقاومة والدولة التي تدعمه. وفيه تحد صارخ لاستقلال طهران ودعوة للحرب التي يدرك قادة إسرائيل كم تحاول الإستراتيجية الدفاعية الإيرانية تجنبها. أرادت إسرائيل من خلال اغتيال هنية أن ترسل مجموعة من الرسائل:
- تقول لقادة المقاومة أن لا مكان آمن لهم.
- أنها تعتبر إيران جزءًا من المعركة بدعمها لحركة المقاومة سياسيًّا وتسليحيًّا، ولذلك فهذا الدعم لن يمر دون رد.
- خطوة من هذا النوع لن تتم بدون دعم ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما ترجحه مصادر إيرانية أيضًا؛ إذ يرجح حسين علائي، أحد قادة الحرس، أن تكون واشنطن مشاركة في الاغتيال في الجانب الاستخباري والعملياتي.
- أنها ستجعل مهمة الرئيس الإيراني، الذي بدأ ولايته منذ أيام قليلة وتُبنى عليه آمال بإمكانية حلحلة المشكلات الاقتصادية، صعبة وشائكة.
- ترسل رسائل لأطراف إقليمية، تعول على العلاقة مع إسرائيل سرًّا وعلنًا لمواجهة إيران، بأنها ما زالت قادرة رغم ما لحق بها نتيجة عملية “طوفان الأقصى” والمقاومة الصلبة للمقاومة الفلسطينية سواء في الميدان أو المفاوضات.
- ترسل رسائل لحلفاء إيران بهشاشة أمن الدولة الداعمة ومستوى الخرق الأمني في منظومتها الأمنية، وتشكك بقدرتها على مواجهة الضربات، في سعي لجعل الحلفاء يعيدون النظر في مدى قوة إيران وهيبتها.
- أما في الداخل الإيراني، فقد عَبَرَت إيران مرحلة انتخابات رئاسية صعبة وانتخبت رئيسًا من تيار اشتكى سابقًا من الإقصاء ولذلك فهذه الضربة أيضًا تزعزع ثقة المواطن في قدرة الدولة أمنيًّا.
تبعات ونتائج
لم تكن الاغتيالات يومًا سببًا في تراجع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، فقد استشهد كثير من قادتها وعوائلهم على مدى عقود من الصراع مع الاحتلال الإسرائيل، وكان سياسة الاغتيالات الإسرائيلية تضيف زخمًا وتضخ دماء جديدة في صفوف الحركة، لكن المسألة تتجاوز الحركة إلى كامل الإقليم.
على مدى سنوات نفذت إسرائيل عمليات ضد طهران داخل إيران وخارجها، لعل من أهمها استهداف المنشآت النووية الإيرانية، واغتيال العلماء الإيرانيين وفي مقدمتهم محسن فخري زاده الذي اغتيل في عملية استخبارية معقدة وسط طهران، واستهداف قيادات من الحرس الثوري ومهاجمة مبني القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو الاستهداف الذي أعقبه رد إيراني أطلق عليه عملية “الوعد الصادق”.
شكَّل الرد الإيراني على استهداف قنصليتها في دمشق بمهاجمة إسرائيل بصواريخ ومسيرات نهاية لحقبة من ابتلاع الضربات سميت بحقبة “الصبر الإستراتيجي”، وكانت إيران تعتقد أنها أعادت تعريف قواعد الاشتباك ورفعت من مستوى الردع في مواجهة اسرائيل، لكن اغتيال هنية أطاح بهذه المعادلة ووضع إيران أمام تحد كبير للدفاع عن منظومتها السياسية والأمنية.
نعى بزشكيان إسماعيل هنية ووصفه بأنه “شريك إيران في حزنها وفرحها.. الرفيق المقاوم الشجاع.. شهيد القدس”، وقال: “في الأمس رفعت يده منتصرًا واليوم عليَّ أن أحمله على كتفي مشيعًا”. وأكد بزشكيان أن إيران “ستدافع عن سلامة أراضيها وشرفها وستجعل الإرهابيين يندمون على عملهم الجبان”.
وأمام هذا المستوى من الاستهداف والتهديد لا تبدو خيارات إيران كثيرة أمام هذه الضربة، ولم يعد بإمكانها أن تواصل المواجهة مع إسرائيل ضمن مساحات ومعادلات حروب الظل. إن الردع من شأنه أن يؤدي إلى حرب “شاملة”، وهي المخاوف التي تحكم إستراتيجية إيران. لكن منطق ومسار الأحداث يقول بأن سياسة تجنب التصعيد قد تؤدي إلى صراع أوسع نطاقًا وأكبر كلفة وقد تكون صراعات المنطقة الرمادية صالحة في فترة ما لكنها لم تعد كذلك بعد مرحلة “طوفان الأقصى” خاصة بالنسبة لطهران.
إن حرب المنطقة الرمادية، والحرب غير المتكافئة، والحرب الهجينة جميعها مصطلحات لا تشير إلى أشكال منفصلة من الحرب بل تشير إلى الإستراتيجية التي تتعلق بكيفية استخدامها من قبل الدول من خلال طرق ووسائل لتحقيق غايات وسياسات الأمن القومي، وعندما تفشل في تحقيق الغايات الإستراتيجية فيجب مراجعة مكانتها في الإستراتيجية الدفاعية، وإيران ليست استثناء من ذلك، فإما أن ترد على اغتيال إسماعيل هنية في عقر دارها ردًّا واضحًا يرسخ صورتها ومكانتها في الإقليم كدولة قادرة، وإما أن تنكفئ نحو داخلها ومشكلاته وتقبل بتسويات تخرجها من جلدها، وبذلك لن تعود الجمهورية الإسلامية بل دولة في الإقليم تنوء بثقل مشكلاتها وغير قادرة على حماية حلفائها بل مصالحها، وقد تصل لمرحلة لا تكون فيها قادرة حتى على هتاف “الموت لإسرائيل” الذي ترتفع به الحناجر في كل مناسبة. إن السعي المتواصل لإيران لتجنب المواجهة كلَّفها كثيرًا ولم يُعفها من تلقي الضربات بل شجَّع إسرائيل على استهداف تصاعدي جاء وفقًا لقراءة معمقة لردود الفعل الإيرانية.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5981