الشرق الأوسط على صفيح ساخن، وسط ترقب الرد الإيراني على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران والتخوف من احتمال توسع الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل إلى حرب إقليمية.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اعتمدت إيران استراتيجية حرب استنزاف إسرائيل عبر “وحدة الساحات” على نار خفيفة. وفي المقابل، تركز إسرائيل على حرب وجودية ويذهب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعيدا ولا يستبعد الحرب الواسعة التي ربما يخطط من خلالها لاستهداف برنامج إيران النووي وتقويضه وفرض معادلة ردع جديدة لصالح بلاده.
تكللت جهود إيران منذ ربع قرن من الزمن، بالوصول إلى “العتبة النووية” ولا يلزمها إلا أسابيع لتصنيع سلاح نووي إذا صدر القرار السياسي بذلك، بحسب ما قال مسؤولون إيرانيون وأميركيون وتقارير صحافية. وهكذا أصبح البرنامج النووي الإيراني محط الاهتمام وأحد محاور الصراع الدائر، ويكتسب الموقف الأوروبي منه أهمية بالغة لأن الاتحاد الأوروبي راهن منذ ما بعد حرب العراق في 2003، على النهج الدبلوماسي لتثبيت سلمية هذا البرنامج لكن جهوده باءت بالفشل نظرا لاستراتيجية النظام الإيراني في تطوير البرنامج العسكري الموازي واستخدام طهران لكل أذرعها وأوراقها لتمريره، وتبعا للتأثير الأميركي الكبير والتضارب في نهج واشنطن بين إدارة وأخرى.
ما قبل التطورات الأخيرة، أدركت الترويكا الأوروبية (ألمانيا- فرنسا – بريطانيا) حجم المخاطر والمخاوف التي تثيرها برامج التسلح الإيرانية وأبرزها البرنامج النووي. لذا تتسارع المساعي الأوروبية لمنع إيران من فرض نفسها كأمر واقع بوصفها قوة نووية في “العصر النووي الثالث”. وفي هذه الحقبة، تتقاطع المقاربة الأوروبية من ناحية الهدف مع الموقفين الأميركي والإسرائيلي الرافضين لذلك. والأرجح أن تشهد الأسابيع والأشهر القادمة تطورات حاسمة حول هذا البرنامج ومصيره.
إيران محور “العصر النووي الثالث”
تُظهر خريطة النادي النووي العالمي في عام 2024 واقعا في حالة تغير مستمر منذ نهاية الحرب الباردة. فلا تزال القوة النووية العسكرية عاملا مهماً في موازين القوى العسكرية والأمنية. وتأكد ذلك في “العصر النووي الأول” بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة حيث كان النادي النووي مغلقا على كبار العالم مع الاستثناء الإسرائيلي غير المعلن، ونجح نظام منع الانتشار النووي عبر المعاهدات وأساليب الردع والتوافقات في تحقيق “توازن رعب” في مرحلة القطبية الثنائية وعدم تجاوز ذلك رغم أزمات حادة مثل أزمة كوبا.
تُظهر خريطة النادي النووي العالمي عام 2024 واقعا في حالة تغير مستمر منذ نهاية الحرب الباردة
لكن “العصر النووي الثاني” بدأ بعد نهاية الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفياتي ومنطق الكتل. وتميز هذا العصر بظهور تهديدات جديدة مرتبطة بمخاطر الانتشار، وزيادة عدد الدول المسلحة نوويا، والعلاقة بين حيازة الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى من جهة، والأزمات الإقليمية من جهة ثانية. في هذه الحقبة، شهدنا تعزيز القوى الكبرى لقدراتها النووية وتحديثها. وعلى الرغم من خرق الهند وباكستان الحصري في النادي النووي وتصاعد النشاطين الكوري الشمالي والإيراني، وعلى الرغم من بدء تكون ديناميات متنافسة للتعددية القطبية، حافظ النظام الاستراتيجي العالمي على الاستقرار النسبي طوال ما يربو على ثلاثة عقود.
حاليا، يتحدث كثير من المنظرين والمراقبين للمشهد الدولي عن بدء “العصر النووي الثالث” بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 وما واكبه ونتج عنه من مواجهة غير مباشرة مع حلف شمال الأطلسي. وتميزت السنوات الأخيرة بتغيير ملموس في الخطاب السياسي مع عودة منطق الردع بين القوى العظمى، في عالم متعدد الأقطاب تتكاثر فيه مجالات المواجهة. وأخذت تسود الخشية من تعدد مصادر الفوضى، وعدم ملاءمة أشكال التنظيم المعتمدة لمنع الانتشار النووي تطور المشهد، واستسهال التلويح باستخدام سلاح كان معدا للردع قبل كل شيء. ويمكن القول إنه منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وعدم قدرة الأحادية الأميركية على التحكم في النظام الدولي، وتصاعد الاحتجاج على الهيمنة الغربية، زاد التشكيك في قدرة الردع النووي على المساهمة في تحقيق الاستقرار، والافتقار إلى العدالة والفعالية في نظام ارتكز في العصر النووي الأول على شكل من أشكال الهيمنة الأميركية- السوفياتية ثم الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة في العصر الثاني. والآن في العصر النووي الثالث تركز موسكو على قيام الولايات المتحدة وأوروبا بـ”استفزاز وإحراج روسيا النووية”. وهكذا تزداد المخاوف من تفلت عالمي في حقبة الفوضى الاستراتيجية مع الصعود الصيني المدوي والتحدي الكوري الشمالي. كل ذلك يؤدي إلى مخاض عسير لإعادة تشكيل النظام الدولي وفق معادلة جديدة.
وكما كوريا الشمالية في شرق آسيا التي أصبحت دولة نووية في 2006 إبان العصر النووي الثاني، تتسارع جهود إيران في غرب آسيا لكي تفرض نفسها دولة نووية إبان العصر النووي الثالث. وعلى المدى القصير، تتلخص المسألة الإيرانية الرئيسة فيما تلوح به طهران من “تغيير العقيدة النووية للجمهورية الإسلامية” لتشريع تصنيع السلاح النووي بهدف التشكيل السريع لقوة ردع نووية تشكل ضمانة لديمومة النظام وتمنحه هامشا غير مسبوق في “مشروعه الإقليمي”. على المستوى الدولي، وعلى المدى الطويل، فإن التحدي الإيراني للنظام النووي، الذي من المفترض أن تحدده معاهدة منع الانتشار النووي، يمكن أن يصل إلى الخروج منه مع ما ينتج عن ذلك من زيادة القوى الإقليمية الطامحة للولوج إلى النادي النووي. لكن هذا يتطلب إجماعا غير متوفر في البيئة الاستراتيجية المعاصرة. وهكذا فإن زيادة الاهتمام الأوروبي بالقضية الإيرانية يرجع الآن بشكل رئيس إلى السياق الدولي، وعدم القدرة على حراسة نظام نووي مستقر. مع انهيار هذا النظام في شرق وغرب آسيا وتداعيات ذلك إقليميا ودوليا.
أوروبا تدق “ناقوس الخطر”
لقد سُلطت الأضواء في الأسابيع الأخيرة على إمكان تجاوز إيران “العتبة النووية” واستكمال دورة الوقود النووي، خاصة أنه وفق مصادر متعددة، تقترب إيران من رفع درجة تخصيب اليورانيوم لديها إلى المستوى الأقصى وتقترب بذلك من صناعة السلاح النووي.
التحدي الإيراني للنظام النووي، الذي من المفترض أن تحدده معاهدة منع الانتشار النووي، يمكن أن يصل إلى الخروج منه
في موازاة إمكانية إنتاج سلاح دمار شامل، أتى تزويد إيران لروسيا بطائرات مسيرة ودعمها لها في حرب أوكرانيا، وهجمة طهران الباليستية المحدودة ضد إسرائيل في أبريل/نيسان الماضي، لتزيد الحذر من مخاطر القدرات الإيرانية المتنوعة. والأرجح أن ذلك دفع بالترويكا الأوروبية للتشدد في موقفها حيال النقلة الإيرانية المحتملة من النووي السلمي إلى النووي العسكري، مع التذكير بأن الاتحاد الأوروبي هو من بدأ التفاوض مع إيران لمحاولة وضع قواعد تحكم برنامجها النووي. بيد أن تناقضات واشنطن بين إدارتي أوباما وترمب، وكذلك تصميم طهران على التحكم في دورة الوقود النووي بأي ثمن، أفشلت التوجهات الأوروبية.
أ ف ب
المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي يلقي كلمة أثناء المؤتمر الدولي للعلوم والتكنولوجيا النووية في طهران في 7 مايو
ومع زيادة طهران لمعدلات التخصيب ورفضها- بعد 2021- غالبية أحكام رقابة المفتشين الدوليين، لجأت القوى الأوروبية المعنية إلى”مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية” في فيينا، وأحالت إليه ملف البرنامج النووي الإيراني. هكذا في الخامس من يونيو/حزيران صوّت المجلس على قرار بشأن إيران وحذرها من التمادي في عدم احترام تعهداتها، وقد تم إقراره بأغلبية 20 صوتا مقابل صوتين وامتناع 12 عن التصويت.
وأتى القرار بناء على اقتراح بريطاني- فرنسي- ألماني، وإزاء إصرار “الترويكا الأوروبية” على تمرير الإدانة تراجعت واشنطن التي كانت تفضل التأجيل و “عدم صب الزيت على النار” في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط حربا في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة “حماس” حليفة إيران، ومواجهات بين إسرائيل وأضلاع المحور الإيراني، وكانت ترى أنه من الأجدى انتظار استقرار النظام السياسي الإيراني والتريث بعد انتخاب رئيس جديد في 28 يونيو.
إلا أنه سرعان ما أخذت الولايات المتحدة تقيس أيضا حجم المخاطر المترتبة على القفز نحو التسلح النووي. وفي هذا الصدد كان لافتا تصريح رئيس الدبلوماسية الأميركية أنتوني بلينكن في التاسع عشر من يوليو/تموز الماضي، عندما أكد التزام الولايات المتحدة بمنع طهران من الحصول على قنبلة ذرية، بسبب معلومات عن “تمكن إيران من تخفيض الوقت اللازم لإنتاج المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي إلى أسبوع أو أسبوعين”.
وجاء بعد ذلك أحدث تقرير للاستخبارات الأميركية حول البرنامج النووي الإيراني في الخامس من أغسطس/آب الجاري، والنقطة الأساسية فيه هي أنه تم حذف العبارة الرئيسة من جميع التقارير السابقة والتي تقول إن “إيران لا تقوم بأنشطة تساعد في التسلح”. والآن يقول التقرير إن إيران “قامت بأنشطة جعلتها في وضع أفضل لإنتاج سلاح نووي”. وما يمكن استخلاصه هو احتمال وجود توجه لدى المجمع الاستخباري الأميركي بتحضير الأرض فيما لو لزم الأمر لمنع إيران من الوصول إلى هذه الخطوة بما فيه إمكان استخدام سلاح غير تقليدي ضد إيران.
التقاطع بين التصعيد الإقليمي والملف النووي
بينما وقفت أطراف “الترويكا الأوروبية” ضد أي مواجهة عسكرية مع إيران على خلفية تطوير برنامجها النووي، التقت الترويكا الأوروبية مع واشنطن وتل أبيب على مواجهة التهديد الإيراني. وإذا كان الدعم الأوروبي لإسرائيل سيقتصر على الجانب الدفاعي وتبادل المعلومات حول تطوير برامج التسليح الإيرانية، يتضح تبدل تدريجي في الموقف الأميركي.
يقول تقرير للاستخبارات الأميركية إن إيران “قامت بأنشطة جعلتها في وضع أفضل لإنتاج سلاح نووي”
منذ عام 2009 كان هناك خلاف أميركي- إسرائيلي حول الطريقة المثلى لمواجهة إيران، وتجلى ذلك في الاتفاق النووي عام 2015 إبان حقبة باراك أوباما. ورغم خروج الرئيس دونالد ترمب من هذا الاتفاق، فإن واشنطن بقيت غير مستعدة لضرب إيران عسكريا إلا في حال استهدافها بشكل مباشر مثل تعرض قواتها للهجمات، وعند ذلك تمت عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في أول عمل عسكري أميركي مباشر ضد إيران منذ قيام “الجمهورية الإسلامية”. بيد أن الولايات المتحدة استمرت في عدم تبني سياسة تغيير النظام الإيراني، والاكتفاء بالدعوة إلى تغيير سلوكه.
ونظرا لعدم إعطاء واشنطن الضوء الأخضر للقيام بضربات للمنشآت النووية الإيرانية، اكتفت إسرائيل بعمليات استخبارية ونوعية لتأخير البرنامج النووي. لكن تفاقم الوضع منذ أكتوبر الماضي وتحريك إيران لجبهات الإسناد، حدا بالجانب الإسرائيلي للتجرؤ والقيام بعملية اغتيال إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية.
إزاء هذا التحدي تتزايد احتمالات المواجهة ولا يغيب عن البال البرنامج النووي الإيراني، حيث إن واشنطن يمكن ان تقترب من موقف إسرائيل القائل إن الوقت قد حان لعمل مباشر ضد المنشآت النووية لأن طهران لامست الخط الأحمر الأميركي، وهذا ما يفسر تردد إيران في عملية الرد على “إهانة عملية اغتيال هنية” لأنها تخشى تقويض “استثماراتها الاستراتيجية” بما فيها برنامجها النووي وتفضل المدى الطويل مع “الصبر الاستراتيجي”.
المصدر : https://www.majalla.com/node/321909/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%A8-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D8%AF%D9%81%D8%B9-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84