حامد عبد الحسين الجبوري
هناك فرق كبير بين اعتماد الاقتصاد كذكاء وبين اعتماده كتعقل، وذلك من حيث التعامل مع الاثار التي سيتركها.
وقبل توضيح الاقتصاد كذكاء أم كتعقل لا بُد من الاسترشاد بمثال اكتشاف القنبلة النووية وطرح هذا السؤال هل ان مُخترع القنبلة النووية يتصف بالذكاء أم بالتعقل؟
ما المقصود بالذكاء والتعقل؟
التعقل يأخذ بعين الاعتبار الاثار التي سيتركها الانسان عند الاقدام على نشاط ما في حين لم يكُن الأمر كذلك بالنسبة للذكاء أي لا يأخذ بعين الاعتبار الاثار التي سيتركها.
على هذا الأساس ان مُخترع القنبلة النووية انسان ذكي أكثر مما هو مُتعقل، لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الاثار التي ستترتب على اختراعه هذا الذي يهدد حياة البشرية.
فلو كان مُتعقلاً وكان ينظر للأثار التي ستركها ويعمل على تأمين حياة البشرية من القلق لتوقف عن اختراع القنبلة النووية وعمل على توظيف قدراته بالاتجاه الذي يخدم البشرية لا ليُقلقها.
وهكذا بالنسبة لاقتصاد السوق، فحينما يُنظر لاقتصاد السوق من جانب علمي بحت (كذكاء) دون الاخذ بعين الاعتبار الاثار التي سيتركها سيُهدد حياة البشرية في لقمة عيشها ويجعلها تعاني الأمرين. ويمكن تسمية هكذا اقتصاد بـ”الاقتصاد المُنفلت” أو “اقتصاد لا انساني”.
لكن حينما ينظر له، اقتصاد السوق؛ من باب التعقل والاخذ بعين الاعتبار الاثار التي سيتركها والعمل على تلافيها سيُقلل من معاناة البشرية ويجعلها على نحو افضل من الناحية الاقتصادية، ويُمكن تسمية هكذا اقتصاد بـ”الاقتصاد المنضبط” أو” الاقتصاد الانساني” إذ إن هدف جميع العلوم هو خدمة الانسانية لا العكس.
كما ان النظر لاقتصاد السوق من باب التعقل والاخذ بعين الاعتبار الآثار التي سيتركها لا يعني الابتعاد عن الذكاء في الاقتصاد، لانه الابتعاد عنه يعني مزيد المشاكل التي تتعلق بهدر الموارد وغيرها.
جدير بالذكر، إن النظر للاقتصاد بصورته النهائية لا تعطي صورةً واضحة عن مسيرة الاقتصاد ذاته، إذ قد يكون الاقتصاد قوياً في صورته النهائية لكن حين الغوص في داخله ستجده اقتصادا منفلتا وغير انساني!
فعلى سبيل المثال نلاحظ من خلال الارقام الاقتصادية ان بنغلادش اخذت تتصاعد بشكل كبير حيث ارتفع الناتج المحلي الاجمالي، على سبيل المثال؛ من 55 مليار دولار عام 2000 إلى 333 مليار دولار عام 2020، أي انه ارتفع أكثر من 6 أضعاف، ليحتل اقتصاد بنغلادش المرتبة 41 من بين 167 دولة عالمياً.
هل هذا التصاعد والارتفاع هو دلالة قوة الاقتصاد؟
بالتأكيد، في الصورة النهائية؛ هو دلالة على قوة الاقتصاد ولكن السؤال المطروح هل هذه القوة هي منسجمة مع داخل الاقتصاد أي مع المشاركين في صنع هذه القوة أم انها جاءت على حساب المشاركين فيها؟!
بالتأكيد، إن هذه القوة ستكون أقوى وأكثر استدامة إذا ما كانت منسجمة مع المشاركين في صنع هذه القوة للاقتصاد في بنغلادش.
لكن يبدو من خلال بعض المؤشرات إن هذه القوة لم تكُن نابعة من صميم وحرية المشاركين فيها بمعنى ان هذه القوة كانت على حساب المشاركين (العاملين) في صناعة القوة الاقتصادية، حيث نلاحظ على سبيل المثال ارتفاع مؤشر صافي الهجرة (المهاجرين الوافدين- المهاجرين النازحين) – 1857 ألف نسمة عام 2017! وأكثرهم يهاجرون بقصد العمل خارج بلدهم. فهل يهاجر هذا العدد خارج البلد لو كان الاقتصاد أكثر انضباطاً وأكثر انسانيةً؟! إضافة إلى المؤشر العددي للفقر عند الخط الوطني شكّل ما نسبته 24% من السكان عام 2016 حسب بيانات البنك الدولي.
تشير بعض المصادر، إلى عدم العمل بقوانين العمل في بنغلادش مما يعني ان هذه القوة في الاقتصاد التي حققتها بنغلادش جاءت على حساب القوى العاملة.
ان أغلب منتجات صناعة الملابس تتم في مصانع استغلالية تسمى بالـ«sweat shops» هي المورّد للشركات الكبرى وهو مصطلح يشير إلى مصانع صغيرة، يعمل فيها الناس في ظروف شديدة السوء، بدون وسائل أمان، بأجور متدنية، لساعات طويلة؛ تصل إلى 15 ساعة، لمضاعفة الإنتاج، وغير مسموح بالتحرك من مكان العمل، باختصار عمل بالسخرة.
وتوجد هذه المصانع في الدول النامية حيث لا يطبّق أحد قوانين العمل. ويُذكر أنه في الفترة من 2005-2013 فقد 1800 رجل وامرأة حياتهم في بنجلاديش من أجل صُنع الملابس، سواء بسبب انهيارات المصانع أو الحرائق[i].
بناءً على ما سبق يمكن القول، ان بنغلادش استخدمت اقتصاد السوق كذكاء أكثر مما استخدمته كتعقل، بمعنى انها لم تأخذ الآثار الاجتماعية بعين الاعتبار ولذلك أصبح الفقر كبير والهجرة كبيرة ايضاً.
ويمكن الاشارة إلى العراق خصوصاً وإنه لازال في بداية التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق لا بُد أن ينظر لاقتصاد السوق ويعتمده كتعقل لا كذكاء أي لابُد أن يأخذ الاثار الاجتماعية بعين الاعتبار خصوصاً وإنه كان يعتمد النظام الاشتراكي قبل 2003 ورصد التخصيصات النفطية بعد 2003 وحتى الآن.
………………………………..
[i] – ميرهان فؤاد، صُنع بدماء العمال».. ما هو الثمن الحقيقي لملابسك؟ مقال متاح على شبكة الانترنيت.
.
رابط المصدر: