شنت تركيا سلسلة من الضربات الجوية على أهداف تابعة لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية شمالي سوريا والعراق، بدايةً من يوم 20 نوفمبر الجاري، ضمن عملية أُطلق عليها “المخلب-السيف” حيث أصابت نحو 500 هدف كردي شمل مدينة عين العرب التابعة لمحافظة حلب، ومناطق القامشلي والقحطانية والعوجة بمحافظة الحسكة، وريف تل أبيض شمال الرقة، وقرية المكمن شرق نهر الفرات بريف دير الزور، وثماني مناطق توجد فيها مواقع لحزب العمال الكردستاني في العراق تضم سنجار وجبال قنديل ورواندوز وأسوس وسوران ورانية وقلدز وبرادوست.
وزعمت وزارة الدفاع التركية بأن العملية العسكرية تتفق والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بالحق في الدفاع عن النفس؛ كونها تستهدف مناطق يستخدمها الإرهابيون كقاعدة لمهاجمة البلاد، حسبما أورد بيانها. ورغم اقتصارها حتى الآن على الآلة الجوية، فإنها قد تأخذ طابعًا بريًا خلال الأيام المقبلة اتساقًا مع تصريحات الرئيس التركي أردوغان للصحفيين خلال رحلة عودته من قطر، حيث كشف أن التحرك التركي لن يقتصر على العمليات الجوية وإنما سيشمل توغلًا بريًا بواسطة الجنود والدبابات بعد مشاورة وزارة الدفاع ورئيس الأركان بشأن حجم القوات البرية المطلوبة.
دوافع أنقرة
تحينت أنقرة اللحظة المناسبة لشن العملية المؤجلة لتثبت أن تهديداتها المتكررة على مدار الأشهر الأخيرة كانت من الجدية بمكان وأن الأمر لم يكن سوى مسألة وقت لإطلاق إشارة بدء التنفيذ والتي تسعى من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف منها:
• الرد على تفجير إسطنبول: جاء الانفجار الذي وقع يوم 13 نوفمبر وأسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 81 آخرين بمثابة هدية لأردوغان يمكنه استثماره واتخاذه ذريعة مناسبة لإطلاق العملية المؤجلة وإقناع الأطراف الدولية المعارضة لها بمشروعيتها عبر الترويج لكونها تأتي في إطار حماية الأمن القومي ودرء الخطر الكردي، بعدما حمّلت حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية المسؤولية عن الهجوم، وقد أعلنت وزارة الدفاع التركية أنها دمرت 89 هدفًا بما في ذلك الملاجئ ومستودعات الذخيرة التابعة لعناصر الحزب وتحييد أعضاء بارزين به.
• تعزيز شعبية حزب العدالة والتنمية: لا يمكن فصل سلوك السياسة الخارجية التركية خلال المرحلة الراهنة عن المتغير المحلي المتعلق بالاستحقاقات الانتخابية المقررة في غضون نحو 6 أشهر والتي تُمثل اختبارًا حقيقيًا لأردوغان وحزب العدالة والتنمية بعدما انحسرت شعبيتهما بشكل كبير. وتمثل القضية الكردية وترًا حساسًا يتم اللجوء إليه لدغدغة مشاعر القوميين الأتراك الذين يشكلون القاعدة الانتخابية الأساسية للتركيبة الحاكمة حاليًا، وبالتالي ستُمكن تلك العملية أردوغان من إطلاق حملة دعائية محلية مفادها تحقيق انتصارات على “الإرهابيين” الأكراد، وسيُقدم بذلك دليلًا ملموسًا على محاولة معالجة قضية اللاجئين للاستفادة من تنامي المشاعر اليمينية المناهضة للسوريين وسحب تلك الورقة من أيدي المعارضة من خلال الترويج بأن تلك العملية هي جزء من محاولة لإنشاء منطقة آمنة لملايين اللاجئين السوريين الفارين داخل تركيا،
يضاف إلى هذا أن التحركات العسكرية تخلق أجواءً داخلية معادية للأكراد، مما يسمح لأردوغان بمزيد من التضييق على أحد أكبر معارضيه السياسيين وهو حزب الشعوب الديمقراطي. وتخبرنا الخبرة التاريخية بأن ثلاثة من التدخلات التركية الأربعة الرئيسة في شمال سوريا سبقت الانتخابات التركية.
• إنشاء منطقة عازلة وتحييد تهديد حزب العُمال الكردستاني: تشكل العملية العسكرية استكمالًا لاستراتيجية أنقرة الهادفة إلى إبعاد حزب العُمال عن أراضيها ومنع تشكيل مناطق حكم ذاتي كردية على طول حدودها الجنوبية، ليس عبر استراتيجية دفاعية تقوم على مطاردة مقاتليه داخل البلاد وإنما وفق استراتيجية هجومية عسكرية قائمة على السيطرة على الأراضي الشمالية السورية العراقية، وهو الأساس الذي قامت عليه ثلاث عمليات سابقة (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام)، وقد حقق هذا النهج نجاحًا عسكريًا تمثل في السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي في شمال سوريا والحفاظ على وجود عسكري دائم في شمال العراق قوامة يتراوح بين 5 و10 آلاف جندي مدعومين بسلسلة كبيرة من القواعد العسكرية ومراكز العمليات الأمامية الأصغر على طول الحدود العراقية التركية، مما عزز الميل التركي للتعامل مع المشكلة الكردية عبر الحلول الأمنية والعسكرية واستبعاد أو تأجيل الحلول السياسية.
وتتطلع أنقرة من خلال مواصلة تلك العمليات إلى تنفيذ هدف إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترًا على طول حدودها الجنوبية، وربما تجد في الأداة العسكرية وسيلة لترسيخ أمر واقع والتفاوض بشأنه مع الحكومة السورية لتعديل اتفاقية أضنة الموقعة بين البلدين في 20 أكتوبر 1998 لتوسيع المنطقة الآمنة والحصول على تعهدات سورية بملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني عبر الحدود.
ويتطلب تحقيق هذا الهدف ربط مناطق العمليات التركية شمال سوريا عبر الاستيلاء على مدينة عين العرب / كوباني الحدودية التي تفصل بين مناطق عمليتي نبع السلام شرق الفرات (بين رأس العين وتل أبيض) ودرع الفرات غرب الفرات (منطقة الباب)، والسيطرة على بلدتي تل رفعت ومنبج الواقعتين على الطريق السريع بين الغرب والشرق في سوريا والمعروف باسم M4، وهو ما يجعل الاجتياح البري يظل خيارًا محتملًا بدرجة كبيرة. ذلك علاوة على هدف منع ظهور ممر بري يسيطر عليه حزب العمال الكردستاني يربط بين سوريا والعراق عبر تعطيل نقاط الاتصالات اللوجستية بين مختلف المناطق التي يسيطر عليها حزب العمال، ولعل هذا يقدم تفسيرًا لاستهداف منطقة سنجار –على سبيل المثال– كونها نقطة عبور مهمة بين العراق وسوريا.
موازنة المصالح
تطرح العملية العسكرية التركية شمالي سوريا والعراق استفهامات بشأن مواقف الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة سياسيًا وعسكريًا في الأزمة السورية، بالأخص الولايات المتحدة وروسيا وإيران؛ كون معارضتهم كانت سببًا رئيسيًا لتأخر تلك العملية التي هددت بها أردوغان منذ مايو الفائت. ومن الصعب اعتبار أن أنقرة نفذت تلك الضربات دون الحصول على ضوء أخضر أمريكي-روسي أو على الأقل ضمان عدم معارضتهما وصمتهما على السلوك التركي؛ نظرًا إلى أن جميع العمليات التركية داخل سوريا مشروطة ومحدودة بموافقة الروس والأمريكيين.
ويبدو أن تركيا استغلت المتغيرات الدولية والإقليمية المرتبطة بالحرب الأوكرانية لانتزاع القبول الروسي والأمريكي، فضلًا عن أن انشغال الحكومة الإيرانية بالاحتجاجات المحلية واستهدافها مجموعات المعارضة الكردية الإيرانية داخل إقليم كردستان العراق قد هيأ فرصة مواتية لأنقرة لتجاوز معارضة طهران للعملية العسكرية التركية.
ورغم انشغالها بالحرب الأوكرانية، لا تزال روسيا القوة العسكرية الأجنبية المهيمنة في سوريا، وقد استخدمت تركيا الأجواء السورية التي تسيطر عليها موسكو في مناطق شمال حلب وصولًا إلى عين العرب للمرة الأولى منذ دخول روسيا سوريا عام 2015، بما يعني نجاح أنقرة في انتزاع موقف حيادي إيجابي من موسكو، وربما أراد الكرملين بذلك تقديم الدعم السياسي لأردوغان قبل الانتخابات، كمكافأة على موقفه الرافض للانضمام إلى العقوبات الغربية ضد موسكو ونجاحه في انجاز اتفاقية الحبوب وإعادة تجديدها.
ويُعزى ذلك إلى إدراك بوتين ارتباط إصرار أردوغان على هذه العملية بحساباته السياسية الداخلية، ولأن إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا لتركيا أمر بالغ الأهمية لمصالح روسيا، حيث تحتاج موسكو إلى مساعدة أنقرة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية إذ تواصل الشركات الروسية تجارتها مع دول الاتحاد الأوروبي بفضل التصدير الموازي وإعادة التصدير عبر تركيا ويمر من خلالها النفط الروسي إلى جنوب شرق أوروبا، وتعمل أنقرة كجسر دبلوماسي لنقل الرسائل المتبادلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي والناتو، كذلك تحتاج روسيا إلى مساعدة تركيا لتصدير الحبوب والأسمدة، وهما مصدران كبيران للإيرادات لروسيا، وكلاهما سيتم تصديرهما قريبًا إلى الأسواق العالمية عبر تركيا.
علاوة على ذلك، فإن إدراك روسيا لكون أي عملية تركية في سوريا لن تأتي على حساب حليفيها؛ نظام الأسد وإيران، بل على حساب الحليف الأمريكي؛ قوات سوريا الديمقراطية، يجعلها تتفهم الطموحات التركية في سوريا وتُبدي تعاطفًا مع مخاوفها الأمنية في ضوء رغبة الكرملين في إبعاد تركيا عن توجهها المؤيد للغرب. وكذلك تخشى روسيا من أن تجاهل المصالح التركية في سوريا قد يدفع أنقرة إلى تغيير مقاربتها تجاه الحرب الأوكرانية.
وبالمثل، لابد أن أردوغان حصل على ضوء أخضر أمريكي لإطلاق العملية خلال لقائه بنظيره الأمريكي جو بايدن على هامش قمة مجموعة العشرين بإندونيسيا حيث أعطى إشارة بدء العملية خلال رحلة عودته، كما أنه لأول مرة تستطيع القوات الجوية التركية دخول محافظة دير الزور مما يدلل على حدوث تنسيق مع القوات الأمريكية التي تسيطر على المجال الجوي شمال شرق سوريا، كذلك، بدا وكأن واشنطن على علم مسبق بالعملية عندما حذرت قنصليتها العامة في أربيل المواطنين الأمريكيين من عملية جوية تركية محتملة في شمال سوريا والعراق قبل أيام قليلة من إطلاقها.
وربما هدفت واشنطن من ذلك إلى كسب ثقة أنقرة خلال هذه المرحلة، ودفعها إلى إكمال عملية انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو التي تحتاج موافقة البرلمان التركي، وهو أمر حيوي لحلف الناتو والولايات المتحدة على السواء، وهو ما يفسر الصياغات ذات الطبيعة الفضفاضة والدبلوماسية للبيانات الأمريكية تعليقًا على العملية والتي تتضمن معارضة التوغل العسكري التركي بدعوى أنه سيعرض للخطر المكاسب التي حققتها الحملة ضد داعش ويقوض الاستقرار بينما تُبدي في الوقت ذاته تفهمهما لمخاوف تركيا الأمنية المشروعة على حدودها.
وعلى ما يبدو أيضًا أن طهران –التي تستهدف بكثافة مجموعات كردية إيرانية معارضة داخل إقليم كردستان العراق بواسطة ضربات صاروخية وعبر الطائرات المسيرة – لم تعارض العملية التركية الهادفة إلى إضعاف نشاط حزب العمال الكردستاني في العراق، ومع ذلك لا ينبغي إغفال المخاوف الإيرانية من النشاط التركي المتزايد شمال العراق والذي يدفع عناصر الحزب إلى الانتقال جنوبًا باتجاه جبال قنديل التي تعدها طهران منطقة نفوذ وبالتالي لا تتسامح مع توسع العمليات التركية بها بحجة ملاحقة عناصر الحزب، بجانب أنها تعارض السيطرة التركية على مدينة تل رفعت الواقعة شمال محافظة حلب حيث يقع إلى الجنوب منها بلدتا نبل والزهراء الشيعيتان، وتشعر إيران بالقلق من أن الخطوة التالية للميليشيات السنية المدعومة من أنقرة بعد السيطرة على تل رفعت ستكون استهداف شيعة نبل والزهراء.
وتخشى طهران كذلك من اتخاذ أنقرة للمدينة كنقطة انطلاق للتوسع باتجاه حلب التي شهدت زيادة كبيرة في نفوذ إيران والميليشيات التابعة لها منذ استعادها الجيش السوري عام 2016، وبصفة عامة تخشى إيران من التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط ومن إمكانية حدوث تنسيق تركي إسرائيلي داخل سوريا لتطويق الحضور الإيراني والإطاحة بالنظام السوري الحالي.
ختامًا، يبدو أن الضربات الجوية التركية شمالي سوريا والعراق لا تعدو كونها مرحلة أولى أو تمهيدية ضمن عملية أكبر تخطط لها تركيا تتضمن اجتياح بري للاستيلاء على المدن ذات الأهمية الاستراتيجية لها وبالأخص عين العرب ومنبج وتل رفعت، وتلك الأخيرة تعدها تركيا قاعدة لإطلاق قوات سوريا الديمقراطية هجماتها ضد القوات التركية والمتحالفة معها في عفرين وأعزاز وجرابلس، لكن موعد تلك العملية البرية التي تراها التقديرات السياسية حتمية سيخضع لحسابات المصالح التركية مع الأطراف الدولية والإقليمية. وفي كل الأحوال، سوف تؤثر التحركات التركية على المشهد الداخلي السوري عبر إحداث بعض عمليات إعادة الاصطفاف السياسي والأمني لعل أهمها إمكانية تحفيز المصالحة بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومة دمشق وعقد شراكة عسكرية معها بهدف درء الخطر التركي، ففي وقت سابق اقترح مظلوم عبدي قائد قوات قسد شراكة عسكرية مع دمشق ضد تركيا، بل واقترح استخدام بطاريات سورية مضادة للطائرات ضد القوات الجوية التركية.
.
رابط المصدر: