تمهيد
لعبت القوى الإقليمية والدولية منذ الأيام الأولى لثورة السابع عشر من فبراير دورا فعالا في المشهد الليبي، وتراوحت أدوار هذه القوى وعمق انخراطها حسب تطلعات وأهداف كل منها، فشهدت الساحة تراجعا ملحوظا لدور القوى الدولية بعد أن لعبت دورا محوريا في عملية إسقاط القذافي، بينما لعبت الدول الإقليمية والعربية دورا أكثر فاعلية في مرحلة ما بعد سقوط القذافي، وكان لدولتي الإمارات العربية المتحدة وقطر الحضور الأبرز عبر الدعم المادي لطرفي النزاع في الصراع الأهلي، إلا أن دولة الإمارات تفوقت في تنوع الدعم وكثافته حيث تجاوز دعمها لحليفها الأبرز اللواء خليفة حفتر الإمداد بالسلاح والدعم السياسي إلى إنشاء قواعد عسكرية والتزويد بالطائرات الحديثة والمقاتلين والخبراء الأجانب وفتح قنوات اتصال دولي مع حلفائها الدوليين[1]، ثم برز الدور المصري في أواخر 2013 وظهر بوضوح في منتصف عام 2014 وجاء على شكل دعم لوجستي وفني وأمني، وبرز دور المملكة الأردنية كدور مكمل لدور كل من الإمارات ومصر، وفي الخلفية بدا دور المملكة العربية السعودية باهتا عبر علاقاتها الوثيقة بالأطراف الإقليمية الداعمة لحفتر وبالتيار السلفي المدخلي في ليبيا.
شكل تدخل هذه الدول ديناميكيات الصراع الليبي، فالصراع الأهلي تغذى بدرجة كبيرة على الدعم والتوجيه الخارجي وقد كان لدولتي الإمارات ومصر الدور الأكبر في التأثير على سير الأحداث، حيث عملت مصر كقاعدة إمداد لوجستي وسخَّرت قواعدها في سيوة وسيدي براني لدعم العمليات العسكرية التي أطلقها خليفة حفتر في الشرق والغرب، ولعبت دولة الإمارات الدور الأكبر بتعزيزها لحضورها العسكري عبر تأسيس قاعدة “الخادم” العسكرية شرق البلاد وحضورها السياسي عبر اختراق العملية السياسية التي قادتها بعثة الأمم المتحدة مما أثر بشكل كبير على مسارها ونتائجها[2]، بينما لعبت قطر على الجهة الأخرى دورًا أقلَّ تأثيرا في الصراع العسكري والعملية السياسية، وقد تضاءل دورها حتى توارى عن الأنظار في أواخر عام 2016 بعد دخول حكومة الوفاق للمشهد.
عادت الأطراف الدولية للمشهد الليبي بعد تفاقم الأزمة وبعد عام من نشوب الحرب الأهلية في منتصف 2014، واقترنت عودتها بانطلاق العملية السياسية في عام 2015، إلا أن التدخل الدولي اتسم بالفوضوية والازدواجية هذه المرة، فعلى عكس التدخل الدولي في عام 2011 ظلت بعض القوى الدولية المتدخلة كفرنسا -ولاحقا روسيا- تنكر تورطها في الصراع العسكري الليبي أو دعمها لطرف على حساب آخر رغم ظهور أدلة واضحة على دعمها لخليفة حفتر، وبدخول حكومة الوفاق للمشهد السياسي أعلنت كل الأطراف الدولية والإقليمية دعمها للحكومة بصفتها الحكومة الشرعية، إلا أن هذا الإعلان لم يثن الأطراف الراعية لحفتر عن دعمه في شن هجومه على حكومة الوفاق في طرابلس في أبريل 2019.
إغفال القوى الدولية -التي ساهمت في إسقاط القذافي- للمشهد الليبي منذ عام 2011 حتى 2015، وفقدان بعثة الأمم المتحدة مصداقيتها وحيادها –بعد ثبوت فساد مبعوثها برناردينو ليون-[3] وفشلها في تنفيذ مهمتها، أفقد هذه الأطراف جزءا كبيرا من تأثيرها على مسار الأحداث على الأرض، ومع فشل المسار السياسي وتفاقم الانتهاكات الدولية لحظر التسليح، فتح المجال لروسيا لتكون طرفا مؤثرا في الصراع الدائر بعد أن أُبعدت عن الملف الليبي عقب التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في عام 2011، وعلى عكس فرنسا التي كانت خجولة في دعمها لحفتر فقد صعدت روسيا من وتيرة دعمها له، ووثقت علاقتها معه بشكل علني عبر الزيارات وفتح قنوات التواصل ودعوته لموسكو والظهور معه إعلاميا، كما عززت وجودها على الأرض عبر الشركات الأمنية وتقديم الخدمات والاستشارات العسكرية، إلا أن موسكو في مقاربتها هذه لم تتبنَّ موقفا أيدولوجيًّا، فقد حافظت على علاقاتها مع مناوئي حفتر في حكومة الوفاق وأكدت اعترافها باتفاق الصخيرات ومخرجاته على لسان لافروف ونائبه بوغدانوف، كما حافظت على قنوات تواصل غير رسمية مع أزلام النظام السابق عبر مجموعة فاغنر التي بلغ انخراطها في المشهد الليبي مستويات عميقة تتجاوز العمل العسكري والأمني حيث تساهم في إدارة حملات إعلامية لصالح حفتر وسيف الإسلام القذافي، كما تساهم بتوجيه وسائل إعلام ليبية حيث تمتلك حصصا تبلغ 50% في قنوات أنصار النظام السابق[4]، وفي ظل غياب دور واضح وفعال للولايات المتحدة لم يواجه الدور الروسي مجابهة قوية من القوى الغربية في بادئ الأمر بل لقي ترحيبا من الولايات المتحدة على لسان قائد قوات الأفريكوم “توماس والدهاوسر”[5] ، في حين حذرت بريطانيا من الدور الروسي على لسان وزير دفاعها السابق مايكل فالون في 2017عام وقدمت لاحقا في فبراير 2019 مشروعا في مجلس الأمن يطالب بسحب مرتزقة فاغنر من ليبيا، ومع مُضي الوقت وتمدد النفوذ الروسي على الأرض تصاعدت حدة التصريحات الأمريكية حول الدور الروسي تدريجيا، وبعد أن استغلت موسكو حملة حفتر العسكرية على حكومة الوفاق بطرابلس في تعزيز حضورها في المشهد عبر مجموعة فاغنر الروسية وعبر تزويدها بمنظومات دفاع جوي وطائرات حربية أرسلت عبر سوريا إلى قاعدة الجفرة الجوية حسب ما أعلنت قيادة الأفريكوم في تقريرها المنشور في 18 يونيو 2020[6]، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 22 سبتمبر 2020 في تغريدة له على منصة تويتر عن استهداف الولايات المتحدة لمجموعة من فاغنر في ليبيا، حيث قال “استهدفت الولايات المتحدة شبكة مرتبطة بالعميل الروسي يفغيني بريغوجين تعمل على تعزيز النفوذ الروسي الخبيث في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا[7]“، إلا أن هذا الاستهداف الباهت لم يغير شيئا في المعادلة العسكرية على الأرض، حيث لازالت مجموعة فاغنر تحافظ على مواقعها في خط سرت-الجفرة وفي قاعدة الخادم الإماراتية، كما أنها لازالت حاضرة بقوة في محيط أهم حقول النفط الليبية.
تبحث هذه الورقة الانخراط الروسي المتزايد في الصراع الليبي والذي يأتي ضمن سياسة أشمل وأوسع تنتهجها موسكو تجاه أفريقيا والشرق الأوسط، مع استعراض موجز لتاريخ السياسة الخارجية الروسية تجاه ليبيا منذ عام 1945، ومن ثم ننطلق لأهمية ليبيا الجيوسياسية عبر المراحل التاريخية، ودوافع موسكو وتطلعاتها وما هي الأساليب المستخدمة من قبلها وما هو الموقف الأوروبي-الأمريكي منها وما هي خياراتهم، وأخيرا آفاق ومآلات التدخل الروسي.
رابط المصدر: