عكست التطورات والأحداث التي خلَّفها تفكك الاتحاد السوفيتي السابق الحاجة الروسية إلى تبني إستراتيجية تجسد بأبعادها الجيوسياسية التوجهات الإستراتيجية لروسيا لمواجهة متغيرات البيئة المحيطة، ويظهر ذلك جليًّا في خياراتها تجاه تعزيز وجودها عبر وضع إستراتيجية ترتقي بها إلى أن تكون فاعلة في أدائها الإستراتيجي على أرض الواقع، وفي الوقت ذاته يضاف إلى ذلك تحقيق الأهداف المطلوبة لتعزيز حقائق الوجود المكاني في الساحات الجغرافية، وملء الفراغ بمجالاتها الجيوسياسية الحيوية، وبخاصة في منطقة آسيا الوسطى.
ولأجل ذلك، رسمت روسيا عقيدتها الجيوسياسية الأوراسية وثيقة الصلة بإستراتيجيتها تجاه منطقة آسيا الوسطى، والتصورات المكانية الموجهة للتحركات الروسية على النحو الذي يعزز وجودها ونفوذها في المنطقة. وهذا النزوع يقوم على أساس فرض نموذجها الاقتصادي والسياسي والأمني. ولهذا، يعتبر هذا المقترب وسيلة لتعريف سلوكها بوصفها الأكثر تأثيرًا في المنطقة. وفي المقابل، تواجه روسيا منافسة متزايدة في منطقة آسيا الوسطى، ناتجة من تدافع ضغوطات التنافس الإقليمي والدولي، المفسرة لمواقفها وسلوكها الطامح نحو تعزيز وضعها الجيوسياسي، بدلالات ترسيخ وجودها وفرضه في المنطقة.
وبناء عليه، تنطلق إشكالية الدراسة من: “أن ديناميكية الأحداث المتسارعة في البيئة الدولية والإقليمية أعادت تشكيل المقاربة الإستراتيجية الروسية لترسيم معادلة القوة في منطقة آسيا الوسطى واهتماماتها الجيوسياسية بتحقيق الاستجابة المدركة لتلك التطورات التي طرأت على محيطها الجغرافي”. وبالتالي، يمكن طرح فرضية للدراسة مفادها: “استندت الإستراتيجية الروسية تجاه منطقة آسيا الوسطى إلى افتراضات تحكمها الاعتبارات الجيوسياسية في تفسير فاعلية تأثيرها الإستراتيجي في المنطقة، للارتكاز على الأوراسية نموذجًا في تعويم قيمها إلى مناطق المجال الحيوي”.
المحور الأول
الجغرافية ناطقة عن ملامح تشكيل بيئة الفضاءات الجيوسياسية
شهد العقد الأخير من القرن العشرين تصاعدًا في الاهتمام بالجغرافيا التي يستدعيها تسارع تطور حركية الفاعلين في النظام الدولي، وخاصة في المناطق المفتوحة في ساحات الأحداث المتشابكة، والتي أفضت إلى تصدر التحولات في جغرافيا العالم وصعود “جغرافيا الاتصال” و”الأقاليم البينية” موجةَ الاهتمام من حركة النشر في ميادين العلاقات الدولية التي أضحت تمتد إلى صدور الكثير من الدراسات والكتب عن مسارات تلك التحولات التي يشهدها العالم(1).
ولهذا، تتعاطى الوحدات الدولية مع مجالها الجغرافي بنوع من القدرية أو الحتمية معزِّزة لدينامية تسويق رؤاهم حيال توجهاتها السياسية، وهذا يجعل الموقع أو الحيز الجغرافي محوريًّا في سياسات مختلف الفاعلين الدوليين، ويعطيه قوامة نسبية على قاطنيه، بحيث يفرض نفسه عليهم، ويدفعهم للانطلاق إلى مجال أكبر، الذي يمكن أن تصل إليه وتؤثر فيه في تخومها الجغرافية، وقد يكون الأمر معاكسًا، أي تبعًا لجغرافيا القوى المؤثرة. ومن ثم فإن ثمة دوائر للتأثير، وكذلك اتجاهات له، وتركز الدوائر على الجغرافيا بدءًا من الجوار الجغرافي المباشر إلى الجوار السياسي إلى الأقاليم البعيدة أو الجغرافيا العالمية، وأكثرها اتساعًا هو الدول القوية التي تحرص على اتباع سياسات تشمل أكبر جغرافية ممكنة(2).
وكمظهر سلوكي يُستند إليه أساسًا لمقومات التفاعل في مساحات الجغرافية وفضاءاتها المكانية، تشكِّل الجغرافيا متحكمًا رئيسيًّا في السلوك الخارجي للدول وسياستها تجاه محيطها الجغرافي، فهي التي تفرض توجهًا بعينه على دولة ما وتمنعه عن أخرى، وهذا ما أكده (روبرت كابلان- Robert S. Kaplan) بقوله: “من الممكن أن تكون الجغرافيا كاشفة عن النيات بعيدة المدى لحكومة ما بنفس القدر الذي تكشفه مجالسها السرية. إن موقع دولة ما على الخريطة هو أول ما يحددها بصورة أكثر حتى من الفلسفة الحاكمة لها”(3).
وقد أفضى هذا التحول في بنى الإستراتيجية في منظورها الأدائي إلى نزعة إحياء فكرية لدور الدولة في إعادة الوعي الذاتي للظهور الجغرافي استمرارًا لميراث إمبراطوري قديم، ولهذا تجد روسيا نفسها تنساق نحو مسارات هذه الجاذبية في ظل تنامي نفوذها الإقليمي ومكانتها العالمية، مبررة عودة طموحاتها حول المدى الجغرافي في توجهاتها الجيوسياسية إلى المجال السوفيتي السابق الذي يشمل تلك الفضاءات المتعلقة بمحاولات استعادة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يشمل منطقة آسيا الوسطى وأقاليم جغرافية أخرى(4). وهنا أضحى الفكر الجيوسياسي مهيمنًا على حقل الدراسات الإستراتيجية الروسية بشكل واضح نتيجة لتفاعلات يمكن اختزالها في تطورات الأحداث التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي السابق منتجة لحقائق عبرت عنها ثقافة قومية تعتمد على وازع التأكيد على أن نظامًا جديدًا تشكَّل في روسيا.
وتأسيسًا لما تقدم، فإن المقاربة الروسية استندت إلى إنتاج طروحات جيوسياسية متجددة في صياغة إستراتيجيتها تجاه المجالات الحيوية، وتفعليها لتغدو سبيلًا للفعل والتأثير الإستراتيجي في محيطها الجغرافي.
وفضلًا عن إثبات وجودها في امتدادها الإقليمي، وتعزيز نفوذها في الدوائر الجيوسياسية، آثرت روسيا مقاربة واقعية مطورة تستند إلى الاعتماد على نمط “الأشعة المفتوحة” نموذجًا نظريًّا حيًّا لإحياء الاهتمام ببعض الفضاءات الإستراتيجية من المركز إلى الأطراف. ولا تتوقف هذه المقاربة عند الحدود الروسية بذاتها، بل تمتد حتى شاطئ المحيط الجنوبي(5).
أما بالنسبة للبلدان المتضامنة إستراتيجيًّا مع روسيا فنصف فعالة، وعلى هذا الأساس يمكن لروسيا توسيع دوائر النطاقات الإستراتيجية، التي تفتح آفاقًا جديدة لتموضعها الجغرافي. وفي سياق تركيزها على ساحل القارة الأوراسية الممتد من الأناضول حتى كوريا يجب أن يعامل على أنه الجنوب الروسي المحتمل. كما يحدد التوسع الجيوسياسي الثابت في الاتجاه الجنوبي البنية التركيبية لتلك المناطق الداخلة في الحدود الإدارية لروسيا أو في عدد الدول المتحالفة مع روسيا والتي تعطيها عمقًا جغرافيًّا كما يحدث مع دول منطقة آسيا الوسطى(6).
ومن دلائل ما تقدم، أصبحت مقاربات النظام الأوراسي الجديد التي استندت إليها روسيا تتجه إلى منطقة آسيا الوسطى بشكل كبير كمنطقة كانت في عهدتها تاريخيًّا، لضمان أمن حدودها وإعادة إنتاج ذاتها.
وتقوم الإستراتيجية الروسية في هذا الصدد على أساس ربط جميع هذه الأراضي من الشمال إلى الجنوب بمحور جيوسياسي إستراتيجي قوي، على نحو ما هو الأمر دومًا في حالات مشابهة، لتنظيم المحور وفق الاتجاه الطولاني لتعزيز تقارب طويل الأمد بين المناطق المنفصلة(7). وعليه، فإن الإستراتيجية الروسية تشكلت في إطار تطورات البيئتين، الإقليمية والدولية، لاسيما على مستوى إعادة تعريفها لذاتها ودورها في التعامل مع الظروف التي تشهدها البيئة الدولية وتحولاتها الجيوسياسية.
إلى جانب ما سبق ذكره، استندت المقاربات الروسية تجاه منطقة آسيا الوسطى إلى طموحات جيوسياسية عبَّر عنها صانع القرار الروسي في سلوكه الخارجي خصوصًا بمحورها الجغرافي، كاشفة عن تصورات الرئيس الروسي (بوتين) الذي لم يخفِ رغبته في استعادة المكانة الروسية في النظام الدولي.
واستحضر بوتين أدوات عديدة لتحقيق ذلك الأمر، البعض منها عسكري عبر ضمان السيطرة على مناطق النفوذ الحيوي لروسيا، والبعض الآخر وثيق الصلة بما يعرف “بالنموذج الروسي”، والذي ينطوي على قيم الوطنية والمسيحية الأرثوذكسية؛ ليعطي بذلك أهمية للمواقع المقدسة الأرثوذكسية الروسية، وعدها من أدوات تأكيد الدور الروسي.
وبموازاة ذلك، صاغ الرئيس الروسي شكلًا مختلفًا للديمقراطية؛ حيث باتت الديمقراطية الروسية تعني “قوة الشعب الروسي بتقاليده الخاصة للحكم الذاتي، وليس الوفاء بالمعايير المفروضة على روسيا من الخارج”(8). وبالتالي، هذا الفهم يمكن أن يُعزى بصورة مباشرة إلى الرؤى الجيوسياسية الروسية كمعطى أن قوة روسيا وتصوراتها الإستراتيجية الكبرى كانت قد ارتبطت من قبل بالسيطرة على مساحة جغرافية واسعة في مجال تحركها؛ إذ يتحدث بعض المؤلفين عن حب الروس القديم للأراضي، الذي تشكل عبر التطور التاريخي في سياق ضمان توسعة الأمة الروسية، معتمدة بذلك على سكانها وحضارتها واقتصادها وثقافتها الممتدة إلى جوارها الجيوسياسي(9).
المحور الثاني
الإستراتيجية الروسية وإيقاعاتها الحركية
من خلال مراجعة الأديبات الإستراتيجية المعاصرة نكتشف أن التأملات النظرية تشكِّل أرضًا خصبة ونواة فكرية لفهم أفضل للذهنية الإستراتيجية لمجتمع ما، وذلك لكونها نتاجًا لوعي مشترك بالتراكم التاريخي الذي يحوي بداخله القيم الثقافية والنفسية والدينية والاجتماعية والذي ينعكس في مساحة جغرافية محددة، كما أنها نمط من الرؤية التي تحدد وضع هذا المجتمع بالنسبة للعالم ككل.
وعندما ننظر من هذه الزاوية تظهر العلاقة بين الذهنية والإستراتيجية في المنطقة، ونجد أن الاختلاف في وجهات النظر الإستراتيجية للمجتمعات هو نتاج لاختلاف عالم التصورات الذي يستند إلى البعدين المكاني والزماني(10).
ولعل ذلك ما يفسر تدافع الحوافز الإستراتيجية ومضامينها بالتركيز على تعاظم الدور المهم للعوامل الجيوسياسية والتي تسمح بأحداث تصورات إستراتيجية نوعية، لاسيما تلك المتعلقة بتشكيل السياسة الوطنية والإستراتيجية الكبرى للدول.
وتؤثر هذه العوامل في عملية صنع القرار السياسي من خلال استغلال الفرص ومواجهة التهديدات. وعلى سبيل المثال، فإن وجود دولة محاطة بالبحار أو دولة لها حدود مشتركة مع منطقة نزاع، أو تفتقر إلى المرتفعات الطبيعية -يعني أنها ستتأثر بهذه العوامل في أمنها القومي حتمًا(11).
وإزاء ما تقدم، يرتبط منطق الفكر الإستراتيجي الروسي بالتصورات الجيوسياسية التي تمت صياغتها من قبل صانع القرار الروسي بشأن فضاءات النفوذ السوفيتي السابق، تحت مجال التأثير والنفوذ الروسي، وتحت إطار حماية باقي دول الاتحاد السوفيتي السابق.
وتتحدد مؤشرات هذا الوجود انطلاقًا من أهمية المجال الأوراسي الذي تشغله دول آسيا الوسطى بوصفه قلب المنطقة، فهي ذات أهمية جيوستراتيجية كبيرة وجسر إستراتيجي بين المجالات الجغرافية الحيوية.
وقد سعت للاحتفاظ بتأثيرها الطويل الممتد عبر القرون السابقة في المنطقة من جهة، ومن ناحية أخرى، فإن روسيا تربط موقفها بوصفها قوة كبرى مؤثرة بتأثيرها المستمر في قلب أوراسيا، ولذلك كان لزامًا عليها أن تتجه نحو منطقة آسيا الوسطى المهمة تأكيدًا لوجودها وتبريرًا لسلوكياتها وهذا من قبيل دوافع عديدة منها ما هو إستراتيجي وما هو اقتصادي وما هو تاريخي وما هو أمني(12).
يمكننا القول: لو نظرنا إلى الماضي سنجد أن روسيا استخدمت إرثها الحضاري والإمبراطوري لتجاوز الهزات والتحولات الداخلية، من خلال إذكاء طموحاتها الجيوسياسية وإسهاماتها التاريخية. وترتكز في ذلك على أحداث تعتبر أساس التحول في صياغة البناء الإستراتيجي الروسي، تجاه حدود علاقاتها مع محطيها الحيوي، وحتى تبرر نزعة تطلعاتها في الحفاظ على جوارها الإستراتيجي.
وعلى هذا الأساس، ركزت الإستراتيجية الروسية في حركة تفاعلاتها الخارجية على الإبقاء على نفوذها في محيطها المباشر، ولكون منطقة آسيا الوسطى جزءًا من بيئتها الإستراتيجية، تصاعدت وتيرة أدائها لزيادة معدلات فاعليتها الإستراتيجية تجاه مجالات التأثير في جوارها الجغرافي، متمثلًا في هذه المنطقة.
وهذا المنحى يشكِّل حيزًا مهمًّا بالنسبة للإستراتيجية الروسية وعلى فاعليتها الخارجية؛ حيث رسمت هذه المناطق الخطط الفاصلة بينهما وبين القوى الأخرى المنافسة لها، وشكَّلت نطاقًا بريًّا عازلًا يمكِّنها من تحييد القوى الإقليمية والدولية الأخرى، وقاعدة انطلاق لها في مساعيها المستمرة للحصول على مزيد من القوة والنفوذ داخل نطاق بيئة التفاعل الإقليمي(13).
وهكذا، أسهمت تلك المعطيات الإستراتيجية لروسيا في إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في تحركاتها تجاه المساحات الجغرافية المهمة خصوصًا في منطقة آسيا الوسطى التي تشترك مع روسيا في عضوية رابطة الدول المستقلة.
وسعت من خلال ذلك إلى خلق بيئة إقليمية مناسبة لها في محيطها بما يخدم أهدافها الإستراتيجية، حيث لا تزال روسيا تشعر بروابط التأثير والانجذاب، لاسيما تجاه تلك المجالات التي تضيف تفاعلات جديدة مدفوعة برغبة استعادة أراضي نفوذها التي خسرتها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق(14)، وتسعى لتحقيق ذلك من خلال إعادة إنتاج نظام من المناطق العازلة التي كانت سائدة في الحقبة السوفيتية السابقة من جهة، وإنشاء نسق ثان من المناطق العازلة خارج حدود الاتحاد السوفيتي السابق، من جهة ثانية. وبالتالي، تعزز من روابط تأثير أدائها وفاعليتها داخل الفضاء الجغرافي، لمنع قيام أية تحالفات مناوئة لها(15).
ومن هنا، جاء التحرك الروسي تجاه دول الجوار الجغرافي في منطقة آسيا الوسطى، بسبب الضغوط التي خلَّفها الفراغ الجيوسياسي في هذا النطاق الحيوي، فضلًا عن ذلك إعادة تأهيل إستراتيجيتها في سياق التركيز على التوسع والنمو في المجالات الحيوية بما يخدم مسارات التحول الجديد، وبما يحقق الأهداف والمصالح القومية.
وعليه، يمكن القول بأن ثمة ضرورة ملحَّة لتعزيز النفوذ في منطقة آسيا الوسطى، ورفع مستوى الانخراط بقدر أكبر، تفاديًا لتحول تلك المنطقة إلى بؤرة أزمات يمكن أن تنعكس على الداخل الروسي. ويبدو ذلك ملحًّا في ظل تزايد الاختراق الخارجي لدول المنطقة.
وضمن هذه الرؤية ارتكزت الإستراتيجية بشكل أساسي على توظيف القوة الناعمة معطى جيوسياسيًّا في حسابات بناء معادلات الفعل الإستراتيجي الروسي في الجوار المباشر. وهو ما بدا جليًّا من خلال استخدام الأدوات المتاحة التي تعزز طموحاتها في سياق الحفاظ على مكانتها في النظام الدولي، من خلال المساعدات الإنسانية، أو المساعدات الصحية التي تساعدها على إعادة فرض حضورها في نطاق منطقة آسيا الوسطى(16).
واتساقًا مع ما تقدم، تعتبر روسيا تحركاتها في هذا المجال الجغرافي الحيوي مجرد سعي من أجل العمل على إنجاز أهدافها والحفاظ على تأمين مصالحها الإستراتيجية. ومن هنا، فإن السياسات التي تبنَّتها روسيا في بناء الانسجام مع محيطها تهدف لتثبيت حقائق جغرافية على الأرض من خلال حضورها في المنطقة(17).
المحور الثالث
المزاحمة الجيوسياسية لحدود التدافع الإستراتيجي في آسيا الوسطى وتخومها
تتمثل الأهمية الإستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى في كونها تتوسط مجموعة من الكتل الجغرافية والتكتلات السياسية، وهي في نفس الوقت تشكل منطقة عازلة تحد من الاحتكاك المباشر بين هذه القوى الآسيوية الإقليمية. كما تتيح السيطرة على ممرات آسيا الوسطى السيطرة على الممرات البرية والجوية التي تربط بين شبه القارة الهندية وروسيا والصين، وغير ذلك من الطرق والممرات التي تتيح ضبط التفاعلات والعلاقات البينية التي تربط بين الأقاليم المحيطة بمنطقة آسيا الوسطى (18).
ومن هنا، تظهر ملامح التحرك الروسي في التمدد والتوسع نحو محيطها الحيوي وما يحمله ذلك من قدرات على صعيد صياغة الأداء الإستراتيجي في سياق تطورات إقليمية بالغة التعقيد. ويتضمن التدخل العسكري تجاه أوكرانيا الذي أضحى من بين الأولويات الإستراتيجية الروسية، ملامح بعض التمثلات السلبية على علاقة روسيا بدول الجوار في المنطقة التي لم تدعم التدخل الروسي في أوكرانيا. ويتأكد ذلك بشكل واضح عند رفض كازاخستان الخيار العسكري لتسوية النزاع مع أوكرانيا.
تحتاج روسيا إلى تطوير مقاربات جديدة عبر وضع إستراتيجية تصل إلى علاقات مستقرة على المدى البعيد مع دول الجوار لحماية أمنها القومي(19)، وجاءت الحرب على أوكرانيا بما تحمله من تداعيات سياسية كبرى على منطقة آسيا الوسطى لتلقي بكامل ثقلها على خريطة ممرات النقل، ولذلك تجد روسيا نفسها أمام واقع إقليمي يفرض عليها مزيدًا من الصراعات الجديدة الناجمة من اختراقات القوى الدولية والإقليمية وإستراتيجياتها التنافسية، لتفرض تحديات في توطيد الدور الروسي في بيئتها الإقليمية(20).
ومن الناحية التاريخية، صاحَبَ الإقليم نمط ديناميكي يكشف عن أطماع وطموحات لدول الجوار الجغرافي القريب والبعيد، والتي تعتبر منطقة آسيا الوسطى فضاء جيوسياسيًّا ذا بعد جوهري في المنظومة الفكرية الإستراتيجية. ومن هذه الدول تركيا التي لديها طموحات لإحياء زعامتها لمنطقة آسيا الوسطى؛ وذلك بالنظر إلى أن الكازاخستانية والقرغيزية والتركمانية والأوزبكية كلها لغات مشتقة من التركية(21).
ولأجل ذلك، تمثل آسيا الوسطى مفتاح صياغة إستراتيجية تركية جيوسياسية تجاه الفضاء الأوراسي حيث يترتب على تركيا إبراز مهارتها في الاستفادة من علاقاتها مع الدول غير الآسيوية من ناحية وانتهاج دبلوماسية نشطة تمنع عزلها عن المنطقة، من ناحية أخرى. وهو ما يوجب على تركيا أيضًا تطوير علاقاتها بآسيا الوسطى من خلال تحديد أولوياتها الإستراتيجية في معادلة آسيا-أوروبا وسيشكل وجود علاقة طويلة المدى بين إستراتيجية أوروآسيوية كبرى وبين السياسة الخارجية نحو وسط آسيا أرضية لحصول تركيا على تأثير عالمي(22).
ومن جانب آخر، تأتي الافتراضات الجيوسياسية التي تقوم عليها الإستراتيجية الصينية تجاه المنطقة، فالأهمية الجيوسياسية للمنطقة بالنسبة للصين تنحصر في الخشية من تغلغل القوى المنافسة وانكشاف حدودها الغربية، فضلًا عن موضوع تسوية حدودها المشتركة حيث تسعى الصين لعقد سلسلة من الاتفاقيات لإعادة رسم الحدود المشتركة مع دول المنطقة(23).
ويرتبط التفكير الإستراتيجي الإيراني في تحركاتها تجاه المجالات لحيوية بامتداداتها الجغرافية ومنها منطقة آسيا الوسطى، وفق معطيات تسهم في إمكانية تثبيت الدور السياسي والأمني والاقتصادي لإيران في المنطقة بل ويزيد من الأهمية الإستراتيجية لإيران في النظام العالمي. لذا، نستطيع أن نقول: إنه برغم الاهتمام الإيراني بالجوار الجغرافي، إلا أنها آثرت الاهتمام بأقاليم التأثير والتأثر بصورة عامة، وهي الأقاليم التي اجتذبت القوى الدولية والإقليمية للتنافس على فضاءاتها وعلى وجه الخصوص منطقة آسيا الوسطى(24).
أما إسرائيل، فقد استطاعت تأسيس شراكة إستراتيجية مع دول آسيا الوسطى ترتكز بالأساس على تطوير شراكات اقتصادية، بالإضافة إلى تطوير علاقاتها السياسية والعسكرية والاستخباراتية والثقافية مع هذه الدول. وهكذا نجحت إسرائيل في اختراق الأنظمة السياسية لهذه الدول مستغلة حاجتها إلى إعادة بناء قدراتها الأمنية والعسكرية لمواجهة التحديات الداخلية(25)، كما أن الولايات المتحدة أدركت أهمية المنطقة لتحقيق مكاسب جيوسياسية تتيح لها القرب والإطلالة الأكثر سهولة والأقل تكلفة على العمق الحيوي الروسي باتجاه الشمال والعمق الحيوي لشبه القارة الهندية وباكستان، وأفغانستان باتجاه الجنوب، والعمق الحيوي الإيراني باتجاه الجنوب الغربي، والعمق الحيوي لكامل منطقة بحر قزوين بما فيها تركيا باتجاه الغرب(26).
وفي الختام، على الرغم من التحركات الأميركية تجاه منطقة آسيا الوسطى كطرف موازن لروسيا، إلا أن أنماط هذا التفاعل الأميركي في جغرافية المنطقة، يأتي بتهديدات محتملة ضد المصالح الأميركية حتى وإن لم تكن بدأت بالظهور في فضاءات ومناطق أخرى، ولذلك تحاول الولايات المتحدة التخفيف من نقاط الاحتكاك مع روسيا في بؤر المواجهة بما في ذلك فضاء آسيا الوسطى.
خاتمة
في ضوء ما تقدم، تكشف الدراسة طبيعة التحولات في ركائز المقاربة الإستراتيجية الروسية تجاه آسيا الوسطى، وذلك للتأسيس لتفعيل دورها ومكانتها العالمية. وتنحو سياستها إلى تعزيز أدائها الإستراتيجي في معالجة الثغرات التي خلَّفها تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في جوارها الجغرافي في هذه المنطقة التي تمثل عمقًا إستراتيجيًّا للمصالح الإستراتيجية الروسية.
كما تسعى روسيا نحو تفعيل دورها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني المرتبط باستخدام الأدوات والوسائل لاحتواء التهديدات في المنطقة، متوازيًا مع إدخال ديناميكية ترسم أهدافًا متعلقة بالإطار الجيوسياسي تفضي إلى إعادة إنتاج نفسها في بيئتها الخارجية لضمان التفوق الإستراتيجي في منطقة آسيا الوسطى.
وتهدف إستراتيجية روسيا أيضًا إلى الحد من التوسع الإقليمي والدولي في جوارها الجغرافي المباشر، لاسيما في ظل زخم التحديات التي تفرضها بيئتها المحيطة وتقلص من قدرة روسيا على توظيف إمكانياتها الإستراتيجية لحماية مصالحها القومية.
(1) هاشم، فراس عباس، استعصاءات الجغرافيا: روسيا واختراق المخيال الجيوبوليتيكي
لمساحة الفضاءات العالمية، (الأردن، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2022)، ص 61.
(2) محفوظ، عقيل سعيد، مزاولة المستحيل: أمن الفرد والدولة والعالم: المفاهيم، الأبعاد، التحولات، (دمشق، دار الفرقد، 2021)، ص 150.
(3) خشيب، جلال، “الجيوبوليتيك في القرن الحادي والعشرين: انتصار الجغرافيا وعودة عالم ثيوسيديدس”، المجلة العربية للعلوم السياسية، (العدد 4، 2021)، ص 105.
(4) حميد، علي حسين، هاشم، فراس عباس، تنازع النفوذ: تأصيل وتحليل وتطبيق، (الأردن، دار أمجد للنشر والتوزيع، 2021)، ص 62.
(5) دوغين، ألكسندر، أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبولتيكي، ترجمة: عماد حاتم، (طرابلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2004)، ص 393.
(6) المرجع السابق، ص 393.
(7) المرجع السابق، ص 406.
(8) حميد، هاشم، تنازع النفوذ: تأصيل وتحليل وتطبيق، ص 65.
(9) خشيب، جلال، “الجيوبوليتيكا الروسية الحديثة والمعاصرة بين النظرية والتطبيق”، مجلة رؤى تركية، (العدد 2، 2018)، ص 99.
(10) أوغلو، أحمد داود، العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة: محمد جابر ثلجي، وطارق عبد الجليل، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011)، ط2، ص 49.
(11) زنكين، ألبرن كورشاد، توبساكال، إلياس، “تقاطع العلاقات التركية الروسية: المواءمة الذكية والتنافس المرن”، مجلة رؤية تركية، (العدد 1، 2022)، ص98.
(12) الطائي، طارق محمد ذنون، الفكر الإستراتيجي الروسي في القرن الواحد والعشرين: دراسة تحليلية في ضوء الوثائق الرسمية الروسية، (الأردن، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2016)، ص 26.
(13) مهدي، لبنى خميس، متعب، كرار عباس، “مستقبل الإستراتيجية الروسية حيال جورجيا”، مجلة قضايا سياسية، (العددان 48-49، 2017)، ص 110.
(14) فريدمان، جورج، الأعوام المئة القادمة: استشراف للقرن الحادي والعشرين، ترجمة: منذر محمود محمد، (دمشق، دار الفرقد، 2019)، ص 172.
(15) المرجع السابق، ص 172.
(16) “القوة الناعمة: هل تنجح روسيا في إعادة نفوذها إلى منطقة آسيا الوسطى؟”، موقع إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية، (تاريخ النشر: 19 يناير/كانون الثاني 2022)، (تاريخ الدخول: 27 أغسطس/آب 2022): https://www.interregional.com
(17) قلعجية، وسيم خليل، روسيا الأوراسية: زمن الرئيس فلاديمير بوتين، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016)، ص 100.
(18) بيرس، سامية، “دول آسيا الوسطى بين التغلغل الإسرائيلي ومحدودية الحضور العربي”، موقع مجلة شؤون عربية، 4 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2022): https://arabaffairsonline.com/%D8%AF%D9%88%D9%84
(19) أبو الخير، كارن، “توازنات جديدة: هل تمثل الحرب في أوكرانيا نقطة تحول في النظام الدولي؟”، إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية، (تاريخ النشر: 11 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 31 أغسطس/آب 2022): https://www.interregional.com
(20) دوريسي، جيمس، “نتائج لم تكن في الحسبان: السياسة تختلط بالجغرافيا والنقل في أوراسيا”، العرب اللندنية، العدد 12506، أغسطس/آب 2022.
(21) “القوة الناعمة: هل تنجح روسيا في إعادة نفوذها إلى منطقة آسيا الوسطى؟”.
(22) أوغلو، العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ص536.
(23) مهدي، لبنى خميس، “الأهمية الإستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى ومستقبل التنافس الإقليمي والدولي”، مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، (العدد 58، 2017)، ص 146.
(24) هاشم، فراس عباس، حميد، علي حسين، ارتدادات الجيوبوليتيكيا: الدلالات النظرية المواجهة لمسارات التأثير الإيراني في الشرق الأوسط، (القاهرة، المكتب العربي للمعارف، 2020)، ص 291.
(25) بيرس، “دول آسيا الوسطى بين التغلغل الإسرائيلي ومحدودية الحضور العربي”.
(26) لبنى خميس مهدي، “الأهمية الإستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى..”، ص 146.
.
رابط المصدر: