فردوس عبدالباقي
شهد يوم 6 ديسمبر 2021 زيارة للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى الهند لحضور القمة المشتركة الحادية والعشرين بين البلدين مع رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي”. وتعد هذه هي الزيارة الخارجية الثانية لـ”بوتين” منذ اندلاع جائحة كورونا بعد زيارته إلى جنيف في يونيو 2021 لحضور القمة الثنائية مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، في الوقت الذي لم يحضر فيه قمة المناخ الأخيرة، أو اجتماع مجموعة الدول العشرين، وأرجأ لقاءه مع نظيره الصيني. ورغم ما شهدته الهند من تفشٍّ كبير للجائحة في الأشهر الماضية، فإنه ذهب لهذه الزيارة التي اعتبرتها تحليلات أنها تخدم أهدافًا مشتركة لكلا البلدين. فما هي هذه الأهداف؟ وكيف يمكن أن تؤدي هذه الزيارة إلى موازنة روسيا بين كل من الهند والصين من جانب؟ وموازنة الهند لعلاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة من جانب آخر؟.
مجالات التعاون بين البلدين
اختتمت الزيارة ببيان مشترك عنوانه “الهند وروسيا: شراكة من أجل السلام والتقدم والازدهار”، واتفق البلدان على تعزيز التجارة البينية لتصل إلى 30 مليار دولار (التي تبلغ حاليًا حوالي 10 مليارات دولار) واستثمار 50 مليار دولار (الذي يبلغ حاليًا حوالي 38 مليار دولار) بحلول عام 2025. لكن يمكن القول إن تحقيق هدف التجارة البينية أصعب من هدف الاستثمار المشترك في تلك الفترة القليلة، كما يجدر الانتباه إلى أن العلاقات الاقتصادية الهندية الروسية لا تزال تعتمد على الاتفاقيات بين الحكومات رغم أن حوالي 85% من الاقتصاد الهندي في يد القطاع الخاص.
ومن أهم المجالات التي أعلن الجانبان تقوية علاقتهما فيها، كان من بينها: الدفاع والطاقة النووية، والوقود الأحفوري، ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، والفضاء، والصحة. كما شهدت هوامش القمة التوقيع على 28 اتفاقية على المستويين الحكومي والخاص، كما عُقد حوار (2+2) بين وزيري الدفاع والخارجية من البلدين للمرة الأولى.
وبالنسبة للقطب الشمالي الذي تُعد روسيا إحدى الدول ذات السيادة فيه، فقد سبق أن قدمت دعوة للهند للتعاون في تلك المنطقة في عام 2019، خاصةً أنها باتت تواجه توجه للصين التي باتت تعتبر نفسها “دولة قريبة من القطب الشمالي” بما سيسمح لها بالسعي لمزيد من استكشافات الموارد وطرق التجارة الدولية.
ويعد التعاون الدفاعي أحد أسس العلاقات بين روسيا والهند، فقد تم الاتفاق على تمديد اتفاقية للتقنيات الدفاعية لمدة 10 سنوات أخرى حتى عام 2031، وتم إبرام اتفاقية للإنتاج المشترك لأكثر من 600 ألف بندقية كلاشينكوف AK-203، ونقل التكنولوجيا للهند في إطار مبادرة “صُنع في الهند”. جدير بالذكر أن الهند حصلت على المعدات العسكرية الأساسية التي طلبتها خلال زيارة وزير الدفاع الهندي في سبتمبر عام 2020 رغم مطالبة الصين بتأخير ذلك. كما استوردت نيودلهي خمس وحدات من نظام الدفاع الصاروخي S-400 بقيمة تتجاوز 5 مليارات دولار في عام 2018 والتي من المقرر البدء في تسليمها نهاية عام 2021. ويشير هذا إلى أنه برغم تنويع الهند شركاءها التجاريين الدفاعيين، لا تزال روسيا تلعب دورًا هامًا لأنها تهيمن على حوالي 70% من المخزون الدفاعي الهندي، لكن في الوقت نفسه تم تأجيل توقيع اتفاقية Relos التي تهدف لتقاسم الخدمات اللوجستية العسكرية.
دوافع مشتركة للحفاظ على التقارب
هناك علاقات شخصية تجمع “بوتين” و”مودي”، فقد حصل الأخير على وسام القديس أندرو الأرفع في روسيا، وهو واحد من أربعة زعماء حصلوا عليه. ووصفت استراتيجية الأمن القومي الروسية الصادرة في يوليو 2021 العلاقات مع الهند بأنها شراكة استراتيجية مميزة، وهذا في نفس الفقرة التي تناولت العلاقات الروسية الصينية.
تأتي الزيارة خلال ما تشهده روسيا من استمرار في ارتفاع حالات الإصابة (32 ألف حالة) والوفيات (1200 حالة) من فيروس كورونا يوميًا، بالإضافة إلى كثرة التوقعات حول المواجهة على الحدود الروسية مع أوكرانيا. لذا فإن “بوتين” يحاول عبر هذه الزيارة تسليط الضوء على الأهمية الاستراتيجية للهند بالنسبة لروسيا، وإثبات أن العلاقات بين البلدين لا تزال قويةرغم التكهنات حول ضعف تلك العلاقات.
كما يبدو أن هناك قلقًا روسيًا من تنامي التواجد الصيني في دول آسيا الوسطى (المجال الحيوي لروسيا)، خاصةً في الجانب الاقتصادي، حيث دخولها في مبادرة “الحزام والطريق”، بالإضافة إلى الجانب العسكري حيث أنشأت الصين قاعدة عسكرية مصغرة في طاجيكستان في عام 2016، وهي التي شهدت توسعًا إبان سيطرة طالبان على أفغانستان في أغسطس عام 2021. واستنادًا إلى ذلك، فقد تستعين روسيا بالهند للتعاون مع دول آسيا الوسطى، بما سيعود بالنفع على جميع الأطراف، حتى دول آسيا الوسطى نفسها التي ترغب في حماية سيادتها من الهيمنة الصينية.
أما على الجانب الهندي، فالزيارة تفتح الباب أمام العديد من المنافع للهند، ومنها الاستثمار الهندي في شرق روسيا الأقصى الذي يُغطي حوالي 40% من المساحة الروسية، وتزدهر بالموارد الطبيعية والمعدنية. في عام 2019، قدم “مودي” تسهيلًا ائتمانيًا بقيمة مليار دولار لاستكشاف فرص المشاركة الهندية في تلك المنطقة، وتزداد تلك الفرص في فترة ما بعد الجائحة.
من ناحية أخرى، يخيّم على الهند الاعتقاد بأن مشاركتها في الحوار الأمني الرباعي لم توفر لها الفوائد المرجوة، لأنها اشتركت فيها رغبةً في تواجد أمريكي أكبر في البحار الآسيوية لمراقبة الصين؛ لكن يتضح أن المساعدة الأمريكية على الحدود البرية الهندية محدودة، فهي لم تقم بخطوات كبيرة لإلهاء الصين عن المواجهة في لاداخ. لذا فإن الهند تريد التوازن في أن تكون شراكتها مع الولايات المتحدة على المستوى البحري، وأن تكون شراكتها مع روسيا تقدم لها موازنة مع الصين على المستوى البري نظرًا للحدود البرية الطويلة المشتركة مع الصين. كما تعتقد الهند أنه تم تجاوزها بعد اتفاق “أوكوس”، على اعتبار أن “كواد” ليست مجموعة عسكرية، لكن ستتولى اتفاقية “أوكوس” هذا الأمر.
وهناك اختلاف في فهم منطقة المحيطين الهندي والهادئ بين الهند والولايات المتحدة؛ إذ ترى الولايات المتحدة أن الامتداد الجغرافي للمنطقة ينتهي عند الساحل الغربي للهند، بينما يشمل المفهوم الهندي كلًا من غرب آسيا وشرق إفريقيا، وتعطي الولايات المتحدة المزيد من الأولوية للمحيط الهادئ، بينما تكمن أولويات الهند المباشرة في المحيط الهندي.
وبالإضافة للحديث عن أن الزيارة أضفت مناخًا وديًا في علاقة الدولتين، فقد شهد شهر ديسمبر الجاري أيضًا توافقًا مشتركًا بينهما في رفض قرار الأمم المتحدة خلال عام 2021 باعتبار تغير المناخ من القضايا المهدِّدة للسلم والأمن الدوليين، واعتبر ممثلو البلدين أن القضية يجب أن تظل ضمن الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، وأن إضافة القضية لاختصاصات مجلس الأمن لن يؤدي إلا لتعميق الانقسامات العالمية، وتحويلها من قضية علمية واقتصادية إلى قضية سياسية.
ويتطلب القرار المذكور دمج المعلومات المتعلقة بالآثار الأمنية لتغير المناخ في استراتيجيات المجلس لإدارة النزاعات وفي عمليات حفظ السلام والبعثات السياسية، بالإضافة إلى جعل المخاطر الأمنية المتعلقة بالمناخ أحد المكونات المركزية في جهود منع الصراع والإبلاغ عن كيفية معالجة تلك المخاطر.
عوائق منظورة
أكثر ما يمكن ملاحظته من الزيارة هو أن “بوتين” أراد إعادة بعض التوازن في العلاقة، لكن بالرغم من الإشارات الإيجابية التي تمت الإشارة لها خلال هذه الزيارة حول الرغبة في تعزيز وتقدم علاقتهما؛ فلا تزال هناك العديد من نقاط التناقض التي تحتاج للنظر، منها:
- القلق من العلاقات مع الصين: تثير الزيارة تساؤلًا عما إذا كان لها تأثير في المستقبل على علاقة روسيا مع الصين التي قدمت لروسيا العديد من المساعدات في ظل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. وتُعد الأسواق الصينية مجالًا كبيرًا لمصادر الطاقة الروسية، كما وصلت التجارة الثنائية بين الصين وروسيا إلى حوالي 100 مليار دولار، وهو ما لا يمكن للهند أن تضاهيه في المستقبل القريب.
تَعتبر الهند أن الصين تهديد رئيسي مما دفعها لتطوير علاقتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول مثل اليابان وأستراليا في الحوار الأمني الرباعي بسبب التصور المشترك بينهم حول الصين، كما أن الهند أعربت عن رغبتها في أن تكون جزءًا من البناء الاستراتيجي الجديد وفقًا لمبادرات منطقة المحيطين الهندي والهادئ واتخاذ الخطوات الخاصة بتطورها. وكل ذلك ساهم في تراجع في علاقة الهند مع روسيا، وإلغاء القمة التي كان من المفترض عقدها في عام 2020، وقيل إن الإلغاء بسبب انتشار الجائحة.
ومن الأمور المثيرة للقلق بالنسبة للهند أيضًا هو بيع روسيا أسلحة متطورة ومنصات دفاع رئيسية للصين، فخلال السنوات القليلة الماضية قدمت روسيا للصين غواصات متطورة من طراز “Kilo”، وطائرات مقاتلة من طراز Su-35 التي يمكنها التأثير على الميزان العسكري في المنطقة لصالح الصين. لكن بالنسبة للصين ذاتها، فقد يكون تقارب الهند مع روسيا أفضل من تقاربها تجاه الولايات المتحدة.
رفض روسيا لمفهوم المحيطين الهندي والهادئ: تعتبر روسيا أن مبادرة المحيطين الهندي والهادئ التي تنضم لها الهند وتقودها الولايات المتحدة تستهدف كلًا من الصين وروسيا، ورأت أن محاولة صياغة نظام جديد قائم على القواعد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إنما هي استراتيجية تتجاوز القانون الدولي ومن ثم مجلس الأمن، وأنها تعيد بذلك تشكيل الهياكل الإقليمية القائمة وعلى رأسها “الآسيان”. وفي عام 2019 أعلن “بوتين” رفض المفهوم لأن بلاده لا تؤيد إنشاء تكتلات جديدة مثلما حدث في المنطقة الأطلسية الأوروبية. كما ترى روسيا أن النطاق الجغرافي للمنطقة بمفهومها الجديد يشمل أجزاء قد شهدت تزايد التواجد الاستراتيجي الروسي مؤخرًا، ومن ثم مساعيها لاستعادة مكانتها الدولية وإقامة شراكات إقليمية متنوعة خاصةً مع أعضاء الحوار الأمني الرباعي.
احتمالية وقوع الهند تحت طائلة العقوبات الأمريكية: على الرغم من عقد الهند مع الولايات المتحدة اتفاقيات استراتيجية لا توقعها الولايات المتحدة إلا مع حلفائها الأساسيين؛ فقد تواجه الهند تهديدًا أمريكيًا بفرض عقوبات وفقًا لقانون “كاتسا” بمواجهة أعداء الولايات المتحدة بسبب شرائها منظومة الدفاع S-400 الروسية، لكن قد تأمل الهند في أن تغضّ الولايات المتحدة الطرف عن هذا نظرًا لعدم تقديم عون بري لها على الحدود بين الهند والصين.
اختلاف فهم كل دولة للأخرى: على الجانب الروسي، لا تزال النخب الروسية ذات توجه أوروبي رغم التمحور المعلن تجاه آسيا، ناهيك عن أن الشركات الروسية المملوكة للحكومة تجد أنه من الأسهل والأكثر ربحية التواصل التجاري مع الصين أكثر من الهند. كما أن وسائل الإعلام الروسية لا تذكر الكثير عن الهند مما يقلل دراية الجمهور الروسي بالسياسات الهندية رغم تعزيز الثقافة والعلاقات السياحية بين البلدين التي حدّت الجائحة منها بشدّة. واللافت للنظر أن النخب الهندية ذات ميول غربية أيضًا بالتركيز الأساسي على الولايات المتحدة وبريطانيا التي تنتقد روسيا.
التصعيد الروسي على الحدود الأوكرانية: خلال الصراع الذي حدث عام 2014 بين روسيا وأوكرانيا، عبّرت الهند بوضوح عن تأييد الموقف الروسي، وصوتت الهند في عام 2020 ضد قرار في الأمم المتحدة بإدانة حقوق انتهاكات حقوق الإنسان في شبه جزيرة القرم. ومع بوادر تجدده مرة أخرى هذا العام 2021، كان التوجه الهندي أكثر ترحيبًا بالجهود المبذولة للتهدئة. في الوقت نفسه، إذا اتخذت الهند موقفًا منحازًا ضد روسيا، فإنها تخاطر باتفاقية التقنيات الدفاعية التي تم تجديدها خلال زيارة “بوتين”، وسيكون أمام الهند تحدٍّ كبير في الوقت الحالي لإرضاء جميع الأطراف في حالة اشتداد النزاع.
ختامًا؛ رغم تراكم العلاقات الوثيقة بين روسيا والهند على مدار العقود الماضية دون ضرر متبادل وتطوير للتعاون العسكري التقني، هناك العديد من القضايا الجديدة التي تفرضها تطورات السياسة الدولية التي يجب على كل منهما أخذها في الاعتبار، وعلى رأسها ارتباطهما بقوتين عظميين متنافستين هما الصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى حجم التجارة الثنائية القليل رغم النية بتعزيزه، فضلًا عن رؤية روسيا المعارضة لمفهوم المحيطين الهندي والهادئ الذي تتبناه الهند مع دول أخرى.
كل هذه القضايا وغيرها تعد أكبر من أن يتم حلها بعد زيارة واحدة، لكن يمكن لإقامة حوار استراتيجي بين الدولتين أن يضع أسسًا لتفاهم أعمق، بل قد يؤدي أيضًا لحدوث استقرار جيوسياسي في منطقة أوراسيا إذا تم الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وكل من الصين والهند، سواء على المستوى الثنائي أو الثلاثي بينهم، وهو ما ظهر في دعوة “بوتين” لإقامة حوار يجمع الدول الثلاث RIC لكسر الجمود في العلاقات الهندية الصينية. كما أن التقارب بين روسيا والهند قد يساعد موسكو على الانخراط بشكل عملي في القضايا المرتبطة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ أو استخدام نيودلهي للتأثير الدبلوماسي على أجندة تلك المنطقة.
.
رابط المصدر: