بقلم: جان فيرنر مولر
برلين ــ كان المؤتمر الوطني الذي عقده الحزب الجمهوري مؤخرا فاضحا لأسباب عديدة ــ من إساءة استخدام البيت الأبيض كداعم للحملة الانتخابية (في انتهاك لقانون هاتش والأعراف القائمة منذ أمد بعيد) والأكاذيب الوقحة التي يدلي بها المتحدثين باسم الحزب، إلى مواكب أفراد أسرة ترمب. ووسط المشهد المبهرج لتحول الحزب الجمهوري إلى مؤسسة تابعة لمنظمة ترمب، برز جانب واحد صادم: فلم يعرض الحزب أي برنامج. من الواضح أن الغرض الوحيد للجمهوريين يتلخص في “دعم أجندة الرئيس المتمثلة في شعار أميركا أولا بكل حماس”.
على أحد المستويات، يمكن قراءة تجنب تقديم برنامج سياسي على أنه استراتيجية ذكية لعزل الحزب عن دونالد ترمب الشخص. ففي حال هزيمة ترمب في نوفمبر/تشرين الثاني، يستطيع أعضاء الحزب الجمهوري أن ينفضوا أيديهم من هزيمته، بدعوى أنه لم يكن سوى زعيم غير محبوب خسر الانتخابات؛ أما مبادئ الحزب الراسخة فإنها تظل سليمة.
لكن التفسير الأقرب إلى المعقول هو أن المزيج السام الذي يتألف من الاستقطاب والحزبية المفرطة في أميركا بلغ مستوى جديدا من التركيز. بعد إفراغه بالكامل، لم يعد حزب واحد على الأقل من الحزبين السياسيين الرئيسيين في البلاد يلبي شروط وظيفته الديمقراطية الأساسية.
تتطلب هذه الوظيفة من الأحزاب ليس فقط عرض الاختيار على الناخبين، بل وأيضا تحديد كيفية خوض المعارك السياسية. من خلال مغازلة بعض المجموعات أكثر من غيرها، ترسم الأحزاب خطوطا على الرمال؛ ومن خلال التركيز على بعض خطوط الصدع السياسية أكثر من غيرها، تجمع الأحزاب التحالفات التي كانت لتبدو مختلفة تماما لو كان التركيز منصبا على قضايا أخرى عديدة بارزة بذات القدر.
ليس الهدف من الديمقراطية صياغة الإجماع حول كل قضية، بل إدارة المصالح والالتزامات المتضاربة. لكن الديمقراطية قد تنهار عندما تلجأ الأحزاب أو الساسة صراحة إلى شيطنة المنافسين الآخرين أو إنكار شرعية تنافسهم على السلطة. كانت مثل هذه التكتيكات لفترة طويلة من اختصاص الشعبويين اليمينيين، الذين يشنون الحروب الثقافية في محاولة لاختزال كل الصراع السياسي في مسألة الانتماء. وعلى هذا، فبدلا من محاولة فهم حجج خصومه والتعامل معها، يلجأ ترمب ببساطة إلى تشويه سمعة كل المنتقدين على أنهم “غير أميركيين”.
كما أوضح العالمان السياسيان جاكوب س. هاكر وبول بيرسون، فإن ميل الحزب الجمهوري إلى خوض الحروب الثقافية يرجع في قسم كبير منه إلى حقيقة مفادها أن أجندته السياسية الاقتصادية تفتقر إلى الشعبية بشكل عميق. وبعد خفض الضرائب المفروضة على الأثرياء والفشل المطلق في مواجهة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، يحتاج ترمب وحزبه إلى تشتيت انتباه الناخبين المحتملين بعيدا عن مخاوف مادية حقيقية.
يوضح هاكر وبيرسون أن هذه “الشعبوية الأرستقراطية” كانت نتيجة لعجز الحزب الجمهوري التام عن توليد أفكار سياسية جديدة. لقد ضاعف الجمهوريون ببساطة جهودهم على مسار التخفيضات الضريبية وإلغاء الضوابط التنظيمية على نحو متهور، بينما أثبتوا عدم قدرتهم على تقديم أي بديل متماسك لقانون الرعاية الميسرة (“أوباما كير”) لعام 2010، الذي يؤكدون دوما على أنهم على وشك استبداله بـ”شيء رائع”.
وكما أسند الحزب الجمهوري هويته إلى محاربي الثقافة على شبكات التلفزيون والمواقع اليمينية المتطرفة، فقد قام بتسليم العمل الفكري إلى مؤسسات الفكر والرأي، التي يدين أغلبها بالفضل للمانحين بدلا من الالتزام بصياغة مقترحات سياسية فَـعّـالة وتحظى بشعبية واسعة النطاق.
هذه ليست مشاكل خاصة بأميركا فقط بطبيعة الحال. ففي مختلف بلدان الغرب، واجهت الأحزاب التقليدية تحديات من قِـبَـل أحزاب ناشئة تميل إلى عدم إجراء مناقشات داخلية جادة، ناهيك عن تبني عملية صنع القرار الديمقراطي. في هولندا، يضم حزب خيرت فيلدرز الشعبوي اليميني المتطرف عضوين رسميين فقط: فيلدرز ومؤسسة هو العضو الوحيد فيها. على نحو مماثل، في المملكة المتحدة يتباهى حزب أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي بأكثر من 110 ألفا من “المؤيدين الذين يدفعون الاشتراكات”، لكنه في حقيقة الأمر أقرب إلى شركة ذات مسؤولية محدودة تضم أربعة مسؤولين وشخص واحد فقط مسجل “يتمتع بقدر كبير من السيطرة”: نصير الخروج البريطاني المنتشر في كل مكان ورائد الاستقطاب المحترف نايجل فاراج.
من المؤكد أن الأحزاب السياسية لا تناقش المجتمعات. لكنها من المفترض أن تنتج أفكارا وخططا سياسية جديدة، ومن غير المرجح أن يضطلع حزب يتحكم فيه رجل واحد أو مؤسسة أسرية بمثل هذه المهمة. في حين تحتاج الأحزاب إلى تمثيل بعض المبادئ التي يتقاسمها أعضاؤها، فإن اتخاذ القرار بشأن مثل هذه المبادئ سيكون دوما محل نزاع، ولا يأتي التمسك بها تلقائيا.
ذات مرة، قال الرئيس الأميركي ليندون جونسون: “إن ما يريده رجل الشارع ليس مناظرة كبرى حول قضايا جوهرية؛ بل يريد القليل من الرعاية الطبية، وبساطا على الأرضية، وصورة على الجدار”. ولكن كما تعلم حزب جونسون الديمقراطي بالطريقة الصعبة، فإن حتى “القليل من الرعاية الطبية” من الممكن أن يتحول إلى مسألة صراع حول المبادئ.
تتمثل أفضل طريقة للتعامل مع مثل هذه التحديات في استعراض تفاصيلها ليس فقط مع الخصوم الحزبيين بل وأيضا في مناقشة داخلية مفتوحة وتعددية. عندما تسوى المنازعات بهذه الطريقة، من المرجح أن يكون الخاسرون أكثر ميلا إلى قبول الهزيمة والبقاء على ولائهم للحزب. على النقيض من هذا، غالبا ما تتسبب الهتافات الجماهيرية من ذلك النوع الذي ينظمه الحزب الجمهوري لترمب في دفع بعض أعضاء الحزب إلى الخروج.
تتمثل السمة المميزة للحزب العامل على نحو جيد في قدرته على اجتذاب الأشخاص من ذوي الالتزامات الحزبية الثابتة بمرور الوقت. ومن عجيب المفارقات هنا أن الحزب الذي يسمح للأعضاء بعرض انتقاداتهم دون وصمهم بالخيانة يغرس في أعضائه قدرا أعمق من الولاء في نهاية المطاف.
الهدف هنا ليس إضفاء الطابع المثالي على الديمقراطية التشاركية داخل الحزب. ومع ذلك، هناك سبب يجعل دساتير ألمانيا، وإسبانيا، والبرتغال، على سبيل المثال، تفرض التعددية الحزبية الداخلية. ومن خلال تعويد الناس على المناقشة الديمقراطية وإجبارهم على أن يضعوا في اعتبارهم أن الجانب الآخر ربما تكون وجهة نظره صحيحة، يجسد هذا النموذج ما فُـقِـد في عصر الاستقطاب.
الواقع أن الأحزاب الاستبدادية داخليا أكثر ميلا إلى الحكم وفقا لذلك. إن النظام الذي يتألف من أحزاب سياسية تعمل على النحو اللائق لا يكفي للديمقراطية، لكنه ضروري. ورغم أن الدولة لا تستطيع أن تطلب من الأحزاب إجراء مناقشات داخلية نشطة، فينبغي للقوانين أن تضع مبادئ توجيهية أقوى للتعددية الداخلية والمساءلة. لا شك أن الشركات ذات المسؤولية المحدودة والمؤسسات الأسرية لها مكانها في المجتمع؛ لكن صياغة السياسات العامة ليست من مهامها.
رابط المصدر: