من شأن الاكتشافات الغازية أن تشكل إحدى أهم الأسباب في إحداث تغيرات جوهرية وجذرية في موازين القوى على المستويين العالمي والإقليمي، وقد تعمل على تغير التوجهات العامة للسياسات الدولية؛ وذلك على خلفية التحول الذي قد ينتج عن التفاعلات الاقتصادية الدولية في منطقة شرق المتوسط والرامية إلى تحييد سوريا وتركيا كدول عبور ومتحكمة في نقل وتوريد الغاز الطبيعي إلى القارة الأوروبية.
ومع تسارع وتيرة عمليات البحث والتنقيب في مياه شرق المتوسط، يتضح أن الشركات التي تقوم بأنشطة الاستكشاف تتبع معظمها لدول كبرى وشركات تمتلك العديد من حقول النفط والغاز في العالم، نظرًا للحاجة المتزايدة لتلك الدول إلى تنويع مصادرها الاقتصادية، ومحاولتها تقليل اعتمادها على البترول، مقابل زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي.
وقد تدخل اعتبارات حفظ الأمن البيئي وتقليل التكاليف الاقتصادية وزيادة المصادر الطاقوية ضمن أولوية المحددات المهمة في السياسات الخارجية والدولية لتلك الدول الكبرى، لاسيما أن البعض منها قد ينجح مع الوقت في التحول من دولة مستهلكة للغاز الطبيعي إلى دولة مصدرة له.
ومع احتدام الصراع الروسي الأوكراني، أدرك قادة الدول الأوروبية أنهم ارتكبوا خطًا فادحًا وكبيرًا باعتمادهم الشديد على الغاز الروسي، حيث تعتمد أوروبا حاليًا على موسكو فيما يقرب من أكثر ٤٠٪ من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وعلى سبيل المثال، فقد اعترفت الحكومة الألمانية مؤخرًا بأنها ارتكبت خطأ عندما أصبحت معتمدة بشكل كبير على إمدادات الغاز الروسي، ولذلك تحاول الدول الأوروبية بشكل محموم تأمين الإمدادات الآن من الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، حيث بات أمن الطاقة أحد أهم أولويات القارة الأوروبية.
مقدمة
رغم أن تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط قد أرسى أسس إطار إقليمي جديد للتعاون الفعال في مجال صناعة الغاز الطبيعي في هذه المنطقة الاستراتيجية، إلا أنه، وفي ظل هذه المستجدات، تبقى تساؤلات مهمة تطرح نفسها من قبيل كيف ينظر بلدان المنطقة المستبعدون من هذا الإطار إلى ديناميكيات الطاقة المتغيرة في المنطقة؟ وما هي السياسات التي قد تتبناها هذه الدول لموازنة الآثار السلبية للتهميش؟
تحمل مصالح أمن الطاقة للدول في طياتها إمكانات التعاون والصراع في آن واحد، ولا شك في أن منطقة شرق المتوسط تشكل نموذجًا جيدًا يعكس هذه الازدواجية، والتي أصبح فيها شرق المتوسط ساحة صراع مصغرة للمعارك الإقليمية والعالمية تجسد احتمالات التوتر والتحديات المتعددة التي تواجهها المنطقة.
وقد شكل اكتشاف الغاز الطبيعي في هذه المنطقة في الآونة الأخيرة محورًا للتعاون والتنافس بالنظر إلى حجم الاحتياطيات البحرية الكبيرة المكتشفة منه خلال السنوات الماضية، وتأثيرها الكبير على أجندة أمن الطاقة الإقليمية والدولية. ومنحت هذه الاحتياطيات المكتشفة حديثًا لبلدان المنطقة أمل تحقيق اكتفائها الذاتي، إلى جانب احتمالات انخراطها في أعمال تصدير مربحة للغاز.
مدخل
يُمثل وضع تركيا المتعطشة للطاقة والغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط في هذا السياق نموذجًا مثيرًا للاهتمام، وتحديدًا بحكم علاقاتها المتوترة مع العديد من بلدان المنطقة. وبالرغم من ذلك تسعى أنقرة إلى الاستفادة من موقع المنطقة الذي تعزز بوصفها محورًا لأمن الطاقة.
وتتخذ الدعاية التركية فكرة التعمد في عزل تركيا عن البحر المتوسط ذريعة للمضي بشتى المواقف والتحركات السياسية والعسكرية، ويومها كان تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واضحًا لتركيا بضرورة التوقف عن البحث والتنقيب عن الطاقة في شرق البحر المتوسط من خلال أطماع توسعية تتعلق بدول بعينها. وفي مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية الألماني آنذاك هيكو ماس، لوح رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بإصبعه قائلًا نحن لا نشارك في حوار، سنطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على تركيا.
الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة شرق المتوسط
تحتل منطقة شرق المتوسط موقعًا استراتيجيًا مهمًا؛ إذ تُشكل مركزًا للنقل التجاري، وتؤمن الوصول إلى المحيط الهندي عبر قناة السويس، وتُمثل مجالًا للتجارة البحرية بنسبة حوالي ٣٠٪، ومن أبرز نقاط عبور النفط والغاز الطبيعي من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي، بواقع ما يقدر بحوالي ٣٥٪ من للغاز الطبيعي وحوالي ٥٠٪ من البترول.
وتمثل المنطقة أيضًا مركزًا حيويًا للدعم الأمني، حيث تقف كجدار صد وعازل ضد التهديدات الإرهابية العابرة في اتجاه الدول الأوروبية. وتحتوي المنطقة على كميات هائلة من الثروات الطبيعية من النفط والغاز الطبيعي، وفقًا لهيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية والتي أصدرت تقريرًا في مارس من عام ٢٠١٠ يشير إلى أن منطقة حوض بلاد الشام، والتي تشمل الأجزاء البحرية لغزة وإسرائيل ولبنان وسوريا وقبرص، يمكن أن تحتوي على أكثر من ١٢٠ تريليون قدم مكعب (أي ما يعادل حوالي ٣٬٤ مليار متر مكعب) من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج، وحوالي ١٬٧ مليار برميل من النفط، تتراوح قيمتها ما بين حوالي ٧٠٠ مليار دولار، و٣ تريليونات دولار.
وأصدرت الهيئة ذاتها في مايو من عام ٢٠١٠ تقييمًا آخر يتعلق بحوض دلتا النيل وقبالة السواحل المصرية في البحر المتوسط، بوصفها تحتوي على ما يقرب من ٦٬٣٢٠ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي غير المكتشف، وحوالي ٧٬٦ مليار برميل من النفط؛ وهذا ما أكده اكتشاف حقل ظُهر العملاق في عام ٢٠١٥ في المنطقة الاقتصادية لمصر، وقدرت موارده بنحو حوالي ٣٠ تريليون قدم مكعبة، وسبقه اكتشاف حقلي تمارا وليفياثان في إسرائيل بموارد قدرها ٣٠ تريليون قدم مكعبة، فيما تمتلك قبرص موارد غازية تقدر بنحو حوالي ١٠ تريليون قدم مكعب.
شرق المتوسط صراع تاريخي مُعقد
زادت الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط مع الاكتشافات التجارية الهائلة والضخمة من الغاز الطبيعي، ما أدى إلى حدوث توترات وصراعات عكست تضارب مصالح القوى الدولية والإقليمية والمحلية، وذلك مع تشابك العديد من العوامل الأخرى والتي بالتبعية ساعدت في زيادة وتيرة تلك التوترات، والتي يأتي في مقدمتها الإرث التاريخي الطويل والممتد للصراعات بين كل من تركيا مع اليونان وقبرص، واشتدت هذه التوترات مع تنامي مساعي مطامع وطموحات تركيا لتصبح قوة إقليمية ليس في شرق المتوسط فقط، بل وفي الشرق الأوسط بصفة عامة.
وقد اتخذت هذه التوترات مظاهر عدة من بينها إرسال تركيا سفن الاستكشاف والتنقيب في مناطق مُتنازع عليها مع اليونان وقبرص وهو ما أنذر بنشوب مواجهات عسكرية كان من الممكن أن تتطور إلى حرب شاملة. وبصفة خاصة، فإن علاقات تركيا على مدار العقد الماضي شهدت تراجعًا كبيرًا في مستواها وتوترًا في طبيعتها مع العديد من دول شرق المتوسط، وهو مما تسبب في المزيد من التعقيد لطموحات أنقرة في مجال الطاقة.
وعلى سبيل المثال، ضعف مستوى علاقاتها مع إسرائيل عام ٢٠١٠ إثر واقعة السفينة مرمرة، وساءت علاقاتها بمصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان عام ٢٠١٣. وعلى الرغم من أن تركيا هي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، إلا أن التوترات بينها وبين اليونان تفاقمت أيضًا، وآخرها كان في أوائل مارس من عام ٢٠٢٠ بسبب قرار اتخذته تركيا بفتح حدودها الغربية، مما ساعد على فتح الباب أمام آلاف اللاجئين الراغبين في دخول الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي ردت عليه اليونان بتعزيز حماية حدودها، وأفضى إلى محاصرة اللاجئين في المنطقة الحدودية.
ولكن تبقى في ظل كل هذا العلاقة التركية القبرصية الأكثر تأزمًا على الصعيد الإقليمي بسبب الخلاف الممتد بين البلدين منذ عقود على إثر ما شهدته الجزيرة التي يسكنها يونانيون وأتراك من تطور حاسم في عام ١۹٧٤ عندما قام ضباط في الجيش اليوناني بانقلاب عسكري وطالبوا بضم الجزيرة إلى اليونان، ما دفع تركيا إلى التدخل عسكريًا في الجزيرة وبسط سيطرتها على قرابة حوالي ٣٧٪ منها وتقسيمها بحكم الأمر الواقع. وما زاد من حدة تأزم العلاقات التركية القبرصية أيضًا هو ما أقدمت عليه تركيا عام ١۹۸٣ بعد إعلانها قيام جمهورية شمال قبرص التركية المعترف بها أحاديًا في الداخل التركي في وقت لا تعترف فيه بجمهورية قبرص التي تسيطر على بقية الجزيرة بوصفها دولة ذات سيادة، وعلى هذه الخلفية ظلت التوترات قائمة منذ ذلك الوقت، وإلى الآن باءت جميع الجهود الساعية إلى توحيد جزيرة قبرص بالفشل.
وبالنظر إلى هذه التحديات والتي تواجه السياسة الخارجية التركية في منطقة شرق المتوسط، فإن السعي إلى الحصول على الغاز الطبيعي في هذه المياه الغنية بالثروات الطبيعية والتي تموج بالاضطرابات تُمثل مهمة شاقة وصعبة. وقد منح تعاقب الاكتشافات البحرية للغاز الطبيعي على أيدي مصر وقبرص وإسرائيل خلال السنوات الماضية تلك البلدان أملًا في تلبية طلبها المحلي على الغاز الطبيعي، وكذلك فرصةً الارتقاء بإمكاناتها التصديرية.
ولم يحرك اكتشاف حقل ليفياثان للغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة بإسرائيل وذلك في عام ٢٠١٠ (٦٠٥ مليار م٢)، وحقل ظُهر للغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة بالدولة المصرية وذلك في عام ٢٠١٥ (۸٥٠ مليار م٢)، وحقل غلوكوس للغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص في عام ٢٠١۹ (١٤٢-٢٢٧ مليار م٢)، إضافة إلى حقول أخرى، أجندات أمن الطاقة الإقليمية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تعديل تركيا لحساباتها الاستراتيجية بما يضع في الحسبان المنافسة الإقليمية على الطاقة.
أهداف الغاز للدولة التركية
الوضع الجيوسياسي المتفرد لتركيا ينبثق من حقيقة أن احتياطاتها من النفط والغاز الطبيعي محدودة، بينما تمتلك دول الجوار موارد وفيرة. ويفرض هذا الوضع على أنقرة واجبًا يقضي بضرورة سعيها إلى إقامة علاقات مستقرة وقوية في مجال الطاقة والغاز الطبيعي مع بلدان شرق المتوسط أو المناطق الغنية بالنفط والغاز الطبيعي في جوارها. واتساقًا مع الطلب المحلي الذي يزداد في تركيا وبشكل واضح، صارت الجهود المدفوعة بأمن الطاقة وسلامتها جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية لأنقرة خلال العقدين الماضيين؛ فالبحث عن الموارد الطبيعية، لا سيما الغاز الطبيعي، أصبح هدفًا جيوسياسيًا وجغرافيًا اقتصاديًا رئيسيًا لتركيا.
وفي إعلان واضح يكرس التوترات بين تركيا واليونان، تخطط أنقرة لأنشطة تنقيب وبحث جديدة عن النفط والغاز شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي هذا السياق قال الرئيس التنفيذي لشركة استكشاف البترول التركية، ميليه هان بيلجين، إن منصة الحفر الرابعة التي تم شراؤها في عام ٢٠٢١ ستصل إلى تركيا في غضون أيام قليلة لبدء أنشطتها في شرق البحر المتوسط، وأضاف بمجرد اكتمال أعمال الإصلاح ستكون جاهزة للعمل في البحر الأبيض المتوسط وذلك في أوائل يوليو المقبل.
في الوقت ذاته، دافع المتحدث باسم الحزب الحاكم في تركيا، عمر جليك عن مذكرة الحدود البحرية التركية الليبية غير القانونية، موضحًا أن تعاون أنقرة مع طرابلس كان من أجل حماية حقوق تركيا في المنطقة. وتثير أنشطة تركيا فى التنقيب عن الغاز فى البحر المتوسط توترات إقليمية شديدة؛ وفى وقت سابق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه منذ عام ٢٠١۸ استطاع أسطول التنقيب التركي حفر ١٤ بئرًا في أعماق البحار، بواسطة سفن التنقيب الثلاث التي يمتلكها منذ عام ٢٠١٠.
الدوافع وراء السياسات التركية المتعلقة بالغاز الطبيعي
سعت تركيا كثيرًا إلى تثبيت أقدامها في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط تلك المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والغاز الطبيعي، واعتمدت على دبلوماسية البوارج الحربية مع كل من اليونان وقبرص فأخفقت، وسعت إلى الوجود العسكري في ليبيا وعقد اتفاقيات أمنية واقتصادية مع حكومتها السابقة ولم تحقق أغراضها، وحاولت تطبيع العلاقات السياسية مع مصر، وقررت أخيرًا اللجوء إلى إسرائيل على أمل أن تتمكن من تطوير الشراكة معها وتجد مدخلًا جيدا يعوضها عن أدواتها التي لم تمكنها من الوصول إلى أهدافها.
وهو الأمر الذي كان أحد الملامح الرئيسة التي حملتها زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوج إلى أنقرة في مارس الماضي، وشهدت حفاوة بالغة من المسؤولين في تركيا. لكن الحرب في أوكرانيا تزيد من الأمور تعقيدا بالنسبة إلى تركيا، والتي تعتمد على روسيا من حيث العائدات السياحية وموارد الطاقة، فكانت أنقرة تتوقع أن يوفر الموسم السياحي موارد مهمة تسهم في تحسين مالية الدولة، لكن تم تقويض هذا الأمر كذلك، فالنزاع الدائر يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية التي تستوردها تركيا مثل الغاز الطبيعي والقمح، ما سيغرق البلاد بشكل أعمق في أزمة تضخمية.
وفي ظل هذا السيناريو، قد يوفر التعاون مع إسرائيل حبل نجاة غير متوقع لتركيا، فللبلدين تاريخ مثمر من التبادل التجاري والسياحة، وناهيك عن أن إسرائيل أصبحت في السنوات الأخيرة من الدول المصدرة للغاز الطبيعي، ويمكنها بالتالي تزويد تركيا بمورد أساسي للطاقة، ويتماشى ذلك مع هدف أنقرة الرامي منذ فترة طويلة إلى تخفيف اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي، ولهذا السبب، أشار أردوغان أكثر من مرة إلى أن التعاون على مستوى الغاز والطاقة هو دافع أساسي وراء تحسين علاقات بلاده مع إسرائيل.
ويمكن وصف الدوافع وراء السياسات التركية المتعلقة بالغاز الطبيعي في الإطار الثلاثي التالي:
- تهدف أنقرة إلى تعزيز وزيادة اندماجها في بنية أمن الطاقة الإقليمية عن طريق تعظيم دورها بوصفها دولة معبر للطاقة، ومحورًا أساسيًا محتملًا للإمدادات المتجهة نحو القارة الأوروبية.
- الهدف الأساسي لتركيا، انطلاقًا من كونها دولة تعتمد على الواردات، هو تأمين وصولها إلى إمدادات الغاز الطبيعي لتلبية الطلب المحلي.
- تسعي تركيا إلى تنويع هيكل إمداداتها الحالي وموازنة الدور الاستراتيجي لروسيا في حافظة الطاقة الخاصة بها.
ومن الناحية الجغرافية، من الضروري دراسة وتتبع التطورات الحالية بشأن البحار وأحواض البحار الثلاثة المتاخمة والقريبة لأنقرة متى تعلق الأمر بتقييم التحديات والطموحات التركية والفرص التي تلوح لها في توازن أمن الطاقة الإقليمي.
أولًا يُشكل البحر الأسود محورًا أساسيًا للطاقة بالنسبة لتركيا، حيث ينقل عبره خط أنابيب بلو ستريم، وخط أنابيب ترك ستريم، المنشأ حديثًا، الغاز الطبيعي من روسيا، وثانيًا يُعد بحر قزوين الغني بالمواد الهيدروكربونية مصدرًا أساسيًا لإمدادات الغاز الطبيعي والنفط لتركيا، حيث ترتبط الدولة بأذربيجان عبر ممر الغاز الجنوبي، وكذلك خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان. وفي الجوار الجنوبي لتركيا، ظهرت منطقة شرق المتوسط كمصدر أساسي واستراتيجي للغاز الطبيعي، وذلك نظرًا للاكتشافات التجارية الضخمة والتي تحققت في السنوات الماضية، وبالتالي فقد أدى ذلك إلى زيادة اهتمام تركيا بالمنطقة خلال السنوات القليلة الأخيرة وتوجه سياستها الخارجية نحوها.
ولكن هناك مشكلتان أساسيتان تقفان عقبة وحائط صد منيع أمام النهج والطموح التركي في تحقيق استراتيجيتها الخاصة بالوصول لاحتياطات غاز منطقة شرق المتوسط، وهما التناقضات التي ينطوي عليها تعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط، والعلاقات المتوترة حاليًا بين تركيا وقبرص وتركيا واليونان. وهنا يجب الإشارة إلى أن قبرص وقعت اتفاقيات خاصة بترسم حدودها البحرية مع الدولة المصرية (الاتفاقية الاطارية لتقاسم مكامن الهيدروكربون بين مصر وقبرص، هي اتفاقية وقعتها الحكومتان المصرية والقبرصية في ديسمبر من عام ٢٠١٣، وتدور حول تنمية خزانات الهيدروكربون على أساس خط المنتصف الذي تم إرساؤه في اتفاقية ترسيم الحدود في عام ٢٠٠٣).
ووقعت مع إسرائيل في عام ٢٠١٠، ولبنان في عام ٢٠٠٧ في حين أنها لم تُبرم أي اتفاقية في هذا الشأن مع أنقرة؛ وفي مقابل هذا وقعت تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع جمهورية شمال قبرص التركية (غير المعترف بها دوليًا) في عام ٢٠١١ والتي تزعم بموجبها الأخيرة امتلاكها حوالي ٤٤٪ من المنطقة الاقتصادية وهو الأمر الذي ترفضه قبرص رفضًا قاطعًا.
وعلاوة على هذا، لم تصدق تركيا على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام ١۹۸٢، وتزعم أن قبرص بوصفها جزيرة لا يحق لها امتلاك منطقة اقتصادية خالصة. وتدعي تركيا بالتالي، على هذا الأساس، ملكيتها جزءًا من المناطق البحرية التي تدعي قبرص ملكيتها وفقًا لقانون البحار، ولا تعترف تركيا باتفاقات الحدود البحرية التي أبرمتها قبرص مع مصر وإسرائيل، ولقد بدأت حدة التوترات السياسية تتزايد خصوصًا مع تزايد جهود البحث والتنقيب عن احتياطات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.
ففي عام ٢٠١١، وبعد فترة قصيرة من إبرام اتفاقية بين تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية بخصوص الحدود البحرية، بدأت تركيا في البحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي في المناطق البحرية المتنازع عليها، وفي هذا السياق ذكر عمر شليك، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم آنذاك أن بعثة استكشاف ترافقها سفن حربية قد بدأت العمل، وتابع بالقول لقد أظهرنا للجميع بوضوح أننا لن نسمح لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أن تصبح هدفًا (يونانيًا قبرصيًا إسرائيليًا).
وبعد ذلك بعام واحد، بدأت تركيا عمليات التنقيب البرية عن النفط والغاز الطبيعي في جمهورية شمال قبرص التركية، وهو الأمر الذي أثار توترات مع حكومة قبرص والتي رأت أن تلك الأعمال بمثابة انتهاكات سافرة وواضحة لسيادتها على ترابها، ونشرت تركيا في أعقاب ذلك سفنًا بحرية لمرافقة سفن الحفر التابعة لها أو لمنع الملاحة البحرية لسفن الحفر التابعة لدول أخرى، في إشارةٍ واضحة مفادها أن تركيا لا تعترف بالحدود البحرية لقبرص، وأنها مستعدة لإثبات قدراتها العسكرية بعد إرسال سفينتين حربيتين وغواصة لمراقبة سفينة تقوم بالحفر والتنقيب لصالح قبرص في يوليو من عام ٢٠١٧.
وأعلنت الخارجية التركية أن تركيا عازمة وجادة على حماية حقوقها ومصالحها في جرفها القاري، ومواصلة دعمها للجانب القبرصي التركي. وبعد ستة أشهر، أوقفت البحرية التركية في فبراير من عام ٢٠١۸ حفارة في طريقها إلى تنفيذ عمليات حفر لصالح قبرص مما أدى مرة أخرى إلى مواجهة دبلوماسية بين تركيا وقبرص، وبالتوازي مع هذه التوترات، شهد التعاون بين قبرص، وإسرائيل، واليونان تطورًا ملموسًا إلى درجة أنه أطلق عليه اسم مثلث الطاقة في شرق المتوسط، وقد ناقشت الدول الثلاثة بشكل مكثف خططًا لبناء خط أنابيب موجه إلى الأسواق الأوروبية.
وفي مقابل هذا بحثت تركيا من جانبها إمكانات الشراكة مع إسرائيل لإبرام صفقة بخصوص خطوط الأنابيب، لكن توتر العلاقات العامة بين البلدين حال دون تنفيذ الخطة، وفي ظل هذه المحددات شهد عام ٢٠١۹ أحداثًا عصيبة كانت بدايتها في يناير الذي عرف تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط الذي تسبب في زيادة عزلة تركيا في منطقة شرق المتوسط، ثم ما أقدمت عليه تركيا في شهري مايو ويونيو بإرسالها حفارات إلى المياه القبرصية، الأمر الذي عُد ردًا على استبعادها من التعاون الموجه نحو التصدير. وقد أدان الاتحاد الأوروبي تصرفات أنقرة، ووضع تدابير عقابية ضدها شملت تأجيل المحادثات الجارية ووقف بعض المساعدات. وردًا على ذلك، ذكرت الخارجية التركية أن هذه التدابير لن تؤثر بأي شكل من الأشكال على تصميم بلادنا على مواصلة الأنشطة الهيدروكربونية في شرق البحر الأبيض المتوسط،
وتصاعدت حدة التوتر في أوائل أكتوبر من عام ٢٠١۹ عندما أكدت تركيا أنها سترسل واحدًا من حفاراتها إلى المياه قبالة جنوب قبرص حيث منحت السلطات القبرصية بالفعل شركات أخرى حقوق التنقيب؛ ما ردت عليه قبرص، والاتحاد الأوروبي، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية بتحذير تركيا من مغبة مواصلة أنشطتها غير القانونية. ولممارسة ضغوط على تركيا، تبنى الاتحاد الأوروبي إطارًا للعقوبات ضد تركيا في نوفمبر من عام ٢٠١۹. وقررت تركيا، في ذلك الوقت وردًا على هذه الإجراءات، التصعيد أكثر بإبرامها اتفاقيتين مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في ذلك الوقت والتي كانت تتخذ من طرابلس مقرًا لها؛ تتعلق إحداهما بالتعاون العسكري والأمني، مما أسفر عن نشر القوات التركية في ليبيا، والأخرى عن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين ما زاد من تعقيد مسألة الحدود البحرية المتنازع عليها في المنطقة بأسرها.
ويشار إلى أن طموح تركيا من هذا الاتفاق الأخير هو تعزيز موقفها للمطالبة بمناطق بحرية من منافسيها في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ الأمر الذي أوضحه الرئيس أردوغان بالقول “سيسمح الاتفاق لتركيا أيضًا بالقيام بعمليات حفر في الجرف القاري لليبيا بموافقة طرابلس، وفي ظل هذا الاتفاق الجديد بين تركيا وليبيا، يمكننا القيام بعمليات استكشاف مشتركة في هذه المناطق الاقتصادية الخالصة التي حددناها دون أدنى مشكلة”.
وزعمت أنقرة، في ضوء الاتفاقات الجديدة، أن بلدانًا إقليمية أخرى مثل قبرص، ومصر، وإسرائيل، واليونان لا تستطيع مواصلة التنقيب عن احتياطيات الغاز أو مد خطوط الأنابيب دون موافقتها، رُغم الآثار الواضحة لهذا الأمر على مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط المخطط له وبعد الاتفاق مع طرابلس، قال أردوغان إن تركيا ستستخدم حقوقها النابعة من القانون البحري الدولي والقانون الدولي في البحر المتوسط حتى النهاية.
وبينما أكدت تركيا على الشرعية الدولية لأعمالها، أدان الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة مشيرًا إلى أن الاتفاق التركي الليبي حول ترسيم الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط ينتهك الحقوق السيادية لدول ثالثة، ولا يمتثل لقانون البحار، ولا يمكن أن ينتج عنه أي تبعات قانونية بالنسبة لدول ثالثة. وفي ظل هذه التطورات أعربت تركيا، في ديسمبر من عام ٢٠١۹، لإسرائيل عن رغبتها في التفاوض بشأن احتمال مد خط أنابيب لنقل الغاز الإسرائيلي مرورًا بتركيا إلى أوروبا ما سيُمكن تركيا من تعزيز دورها كمركز ناشئ للطاقة في المنطقة؛ وردا على هذا خرج وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتز بتصريح قال فيه” نحن مستعدون لمناقشة صيغة للتعاون، تعاون في مجال الطاقة مع الأتراك أيضًا؛ ونحن لسنا ضد الأتراك لكننا نساند مشروع خط أنابيب غاز شرق البحر المتوسط”.
وتماشيًا مع ذلك، وقعت إسرائيل مع قبرص واليونان في يناير من عام ٢٠٢٠ اتفاقًا لإقامة خط أنابيب شرق البحر المتوسط تحت البحر “إيست ميد” بطول حوالي ١۹٠٠ كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي من حقول الغاز في شرق البحر المتوسط إلى أوروبا، وكان من المقرر الانتهاء منه في عام ٢٠٢٥، إلا أن الولايات المتحدة أعلنت مطلع العام الجاري وقف دعمها له.
وكانت تركيا تعارض خط أنابيب شرق البحر المتوسط، وتدعي أن مثل هذا المشروع لا يمكن أن يستمر دون موافقة أنقرة، ولا ترى فيه إلا أداةً لإقصاء تركيا من المشهد، وقد تفاقمت التوترات أكثر في يناير من عام ٢٠٢٠ بعد أن أدانت رئاسة قبرص استمرار تركيا في أنشطة الحفر في المياه المتنازع عليها قائلة إن تركيا تتحول إلى دولة قراصنة في شرق البحر الأبيض المتوسط، كما بدأت، خلال الشهر نفسه، إسرائيل تصدير الغاز إلى الأردن، ثم إلى مصر بعدها بأسبوعين، مما شكل معلمًا بارزًا آخر في سياق علاقات الطاقة الإقليمية.
خلاصة القول، أصبح ضمان الحصول على موارد الطاقة المتعلقة بالغاز الطبيعي هدفًا محوريًا في السياسة الخارجية التركية، فقد تفاوضت تركيا بشأن علاقات طاقة شاملة مع أكبر مصدرين للغاز لديها، وهما روسيا وإيران، وكانت التفاعلات المرتبطة بالغاز الطبيعي تُدار دومًا سلميًا فيما بينها. والتعاون في مجال الطاقة له أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للعلاقات الأذربيجانية التركية، حيث تُعد أذربيجان أحد أقرب حلفاء تركيا وثالث أكبر موردي الغاز لها.
ولكن، لماذا يختلف الوضع في شرق المتوسط إلى هذا الحد؟ وما الجديد في النهج التركي؟ أولًا، مصالح تركيا في مجال الطاقة في شرق المتوسط تصاحبها إمكانية استعراض أنقرة قدرات القوة الصلبة، ولتفسير السياسات الخارجية التركية، وفي هذه الحالة، يمكن تعريف مفهوم قوة الطاقة كما رسم ملامحها مايكل تي كلير بأنها استغلال لمزايا دولة ما في إنتاج الطاقة والتكنولوجيا لتعزيز مصالحها العالمية وتقويض مصالح منافسيها؛ وأوضح كلير كيف يمكن أن يُعزز نوع محدد مدفوع بأمن الطاقة من ممارسة السلطة السردية للقوة الصارمة القوة الناعمة الكلاسيكية؟
وفي الوقت الحالي، لا تزود منطقة شرق المتوسط أنقرة بالغاز الطبيعي، باستثناء صفقات السوق الفورية بين الحين والآخر مع مصر. ومع ذلك، تتجلى هذه المسألة بوصفها نقطة حاسمة على جدول أعمال السياسة الخارجية التركية، طالما أن أنقرة لا تنظر إلى المنطقة من منظور أمن الطاقة فحسب، بل أيضًا من خلال صراعها الطويل الأمد مع قبرص واليونان وفي السياق الأوسع للمنافسة الإقليمية الكبرى على السلطة ومفاتيح شرق المتوسط.
وفي الأخير؛ وبينما تُمثل الدول الأعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط نوعًا جديدًا من التحالف الإقليمي، فإن إقصاء تركيا عن المنتدى إما قد يزيد من رغبتها اليائسة في فرض نفوذها على الآخرين وإما يجبرها على السعي إلى شكل أكبر من أشكال التعاون في المنطقة.
.
رابط المصدر: