د. فاضل البدراني
مثل باقي الملايين من البشر تابعت قصة الطفل ريان، وعلى مدى الأيام الخمس من تواجده في قاع بئر يبلغ عمقه 32 مترا وقطره 45 سنتيمترا، حتى إخراجه وسط ذهول من حالة لاشعورية، ولهفة ضاغطة بأن يكون “ريان” حي يرزق لنفرح بعرس السلامة، والبدء باستكمال مشوار القصة المثيرة للمشاعر والثاقبة لقلوب الناس جميعا بالألم، ورغم ذلك فأني نظرت للقصة من زاوية إعلامية بمدى توافر الاخلاقيات الاحترافية فيها.
وعلى مدى تلك الأيام العصيبة، من ملحمة إنسانية سجلت باسم طفل “قرية شفشاون بالمغرب”، فإني وبجانب الأهمية الإنسانية التي كانت تسكنني بأن أرى ريان ينعم بالحياة، لكي يعيش حياته، ويحكي للجميع عن قصته المؤلمة في البئر، ونكتب جميعا عن ملحمته التي تحولت الى عالمية، وجدت من الأهمية بمكان أن أتحلى بصفتي كناقد اعلامي مختص بطبيعة التغطيات الإخبارية التي تمارسها وسائل الاعلام التقليدية والرقمية في مثل هكذا تغطيات نوعية مثيرة تتوافر فيها القيم الإخبارية.
وأراقب وسائل الإعلام كيف تقوم بنقل الأخبار، وهي تتحدث عن مستجدات معلوماتية ابتداء من نبأ السقوط بالبئر حتى انطلاق عملية البحث عنه محاولات انتشاله، وتغذيته بالغذاء والماء والأوكسجين، ثم المعلومات التي تداولت كما أثبتتها الكاميرا، بعدم امكانيته تناول الأكل والشرب بسبب الكسور في جسده.
وأهم ما يميز التغطيات الإخبارية لوسائل الإعلام، وكذلك المنصات الاجتماعية، مدى توافر خصوصية الاخلاقيات الإعلامية، هل خضعت للضوابط والتشريعات الإعلامية؟، ودون إساءة للطفل ريان الضحية، وهو يتواجد في قاع بئر يبلغ عمقه 32 مترا، وتضيق فتحته مع النزول إلى القاع، ما يحول دون نزول المنقذين لانتشاله، فالشهادة المهنية هنا ضرورية في هذا المجال الاعلامي، وما جعلني أتأكد بأن ريان ليس حيا على الأقل بعد اليوم الثاني من تواجده في البئر شحة المعلومات عن ما ترصده الكاميرا.
وانقطاع أية أنباء تتحدث عن حياته أو سماع صوته، وارسال الغذاء له بعد أن علمنا مسبقا بأنه يعاني كسور بجسده تعيق حركته وتمنعه من تناول الغذاء والشراب، الا أن جميع من استمعت لهم من مراسلي المحطات التلفازية لم يتطرقوا لهذه الحالة من مصير الطفل، وتركوا الأمر بيد المصادر الرسمية المغربية والمعنية بالحفر والمتابعة.
ما جعل الجميع يؤمل النفس بأن يكون ريان حيا حتى آخر لحظة من الوصول اليه، وانتشاله بعد جهد جهيد من العمل المضني الذي دام خمسة أيام بطريقة دقيقة، وفيها معالجة هندسية تأخذ بعين الاعتبار تجنب الحاق الضرر بحياته على فرضية انه كان حيا حتى اللحظة الأخيرة، وقد أكون ناقدا باحترام الطريقة الرائعة والإنسانية التي تعاملت بها السلطات المغربية، حتى لحظة إخراجه من الحفرة، وحتى المراسلين كانوا على قدر من الوعي الإعلامي والتعامل الإنساني والحرفية المتقدمة باحترام رأي المصادر التي لم تعطيهم خبر عن وفاته رغم ادراكها للنتيجة كما اتوقعه.
بينما قلوب المتابعين من مختلف بلدان العالم تنطق بلغات وأديان مختلفة بالدعاء الى الله بأن يجعل ريان حيا، ودموع الود والشوق والفرح والمعاناة سالت من عيون الملايين من البشر تعاطفا مع قصة، القدر جعل صاحبها طفل بريء بمستوى بطل دون ان يعلم بما جرى له انما هي قصة حقيقية مأساوية لكنها وحدت قلوب الجميع على المحبة والسلام.
ومن وجهة نظر إعلامية نقدية، أرى أن الاعلام حقق نجاحا في إيصال رسالته للمتلقي، وعلى الرغم من ذلك، فقد لمست بعض حالات التجاوز على الاخلاقيات الإعلامية، إذ أن كثيرا من الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، سجلت باسم ” أورام ” وهو والد الطفل، ما جعله يقول ” أنا في مصيبتي والناس تستغلني”.
إضافة الى حالات سلبية أخرى تتعلق باستضافة فضائيات ووسائل اعلام، لأطفال أستنطقتهم في محاولة استعطاف، وتعميق المأساة في قلوب المتابعين، ومحاولة زيادة دموع الناس، في حين لا داع لهذه الحالة بإظهار أطفال بملابس رثة ووجوه بائسة حزينة يتحدثون عن طفل يصارع من أجل البقاء حيا رغم عمق الحفرة وظلاميتها.
بينما تم رصد بعض الفضائيات والمواقع الإخبارية التي لم تراعي الخصوصية في النشر، ولم تتعاطى مع أخلاقيات المهنة وتشريعاتها عندما نشرت صورا للطفل في حالة حرجة دون موافقته، ودون ترخيص من أبويه، واستعمال الجروح والدم لدغدغة العواطف، في إطار فرجة إعلامية معكوسة، هو منافٍ للقيم والاخلاقيات الإعلامية، بل يعد خرقا للتشريعات الاعلامية.
قصة ريان شُدَّت الأنفاس، وانكربت القلوب بسببها، وأنهمرت الدموع في كل بقاع الأرض، وتوحَّد العالم، وأظهر الشعور الإنساني القوي لدى الكل. وبموازاة ذلك كان للإعلام قصة إخبارية جعلت المتابعين مع الفضائيات والاذاعات والمواقع والصحف والمنصات الاجتماعية، عكس حقيقة مفادها أن (الإعلام) يعني تدوين لقصة حياة الفرد والمجتمع، على أن تتوافر فيها شروط المصداقية والدقة والمهنية.
.
رابط المصدر: