آية الله السيد مرتضى الشيرازي
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
عوامل الإنتاج الثلاثة
البحث في هذه السلسلة يدور حول (الأرض) باعتبارها أحد أهم عوامل الإنتاج، ومن المعروف ان عوامل الإنتاج ثلاثة وهي الأرض والعمالة ورأس المال، وقد أضاف السيد الوالد عاملين آخرين، وأضفنا لها ثلاثة أخرى فصارت ثمانية، وسنبحثها بإذن الله تباعاً، وتمهيداً للدخول في البحث نقول:
الرباعي المشؤوم: الفقر والمرض والبطالة والتضخم
ان البشرية كانت ولا زالت تعاني من (الرباعي المشؤوم): الفقر والمرض والبطالة والتضخم(3)، والغريب ان أقوى الدول في العالم اليوم وأكثرها أموالاً وثروات (وهي الدول الغربية) لا تزال تعاني شرائح واسعة جداً من شعوبها من الفقر(4) ومن نسبة بطالة مرتفعة، ومن تضخم متواصل، كما سيأتي تفصيله، وسيتركز البحث على ان الإسلام وضع أفضل الحلول وأنجع البلاسم لحل تلك المعضلات الأربع، وان الحلول ترتكز على المنهج الصحيح في التعاطي مع عوامل الإنتاج الثلاثة المعروفة (ومع الأربعة الأخرى أيضاً).
(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) لا للحكومات!
أما الأرض فقد قال تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(5).
فالأرض بصريح هذه الآيات الكريمة خلقها الله تعالى للناس كافة (لَكُمْ) (لِلْأَنامِ) لا للحكومات! إلا ان الغريب ان كافة الحكومات حتى التي تدعي الإسلام وترفع رايته تعارض صريح الآيات الكريمة وتبني كافة قوانينها على ان الأراضي كلها للحكومة! وإن كانت تتنوع بين من ترى ان الأراضي ملك للحكومات، ومن ترى انها حق لها (الأولوية أو حق الاختصاص) ومن ترى ان أي تملك أو تصرف في الأراضي يحتاج إلى (إذن) من السلطات الحاكمة ولا بد ان يكون عبر قوانين ولوائح حكومية وعبر شروط ورسوم وروتين معيّن.
كافة الآيات تفيد حق الناس في الأرض، دون الحكومات
والغريب ان القرآن الكريم ذكر في الكثير جداً من الآيات (الأرض) واعتبرها ومنافعها كافة للناس، ولم ترد آية واحدة تقول ان للحكومة حقاً في الأراضي! ولو وردت آية واحدة بذلك لتسلحت بها الحكومات ضد الناس واعتبرتها سند شرعيتها! لكنها، ويا للعجب، تجد العشرات من الآيات تفيد ان الحق في الأرض هو للناس لكن الحكومات تتجاهلها تماماً وكأنها لم تر تلك الآيات الكريمة في القرآن الكريم أصلاً!
ويكفي ان نلقي نظرة سريعة على الآيات التالية:
(اللَّهُ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً)(6)
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً)(7)
(الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً)(8)
(الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً)(9)
(هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا في مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ)(10).
ولم يرد حتى في آية واحدة: الله الذي جعل الأرض للحكوماتِ قراراً/مهداً/فراشاً/بساطاً/ذلولاً..
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْري فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(11)
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً)(12)
ولم يرد حتى في آية واحدة: ان الله سخَّر للحكومات ما في الأرض أو ما في السموات والأرض!
وقال تعالى: (هُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(13)
(وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ)(14)
ولم يرد في آية واحدة: الله جعل الحكومات خلائف الأرض أو خلائف في الأرض!
وأوضح من ذلك قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(15)
(هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(16)
ولم يقل بتاتاً (والأرض وضعها للحكومات)! أو هو الذي خلق للحكومات ما في الأرض جميعاً!
الحكومة هي المتجاوزة المعتدية، لا الناس ساكني (التجاوز)!
ومع ذلك ترى الحكومات، بأفعالها وبقوانينها، ان الأرض لها قرار وفراش وذلول وبساط ومهد… وان الأرض بما فيها مسخَّرة لها.. وترى انها خليفة الله في الأرض! لذلك تعتبر الناس الفقراء الذين يبنون بيوتاً متواضعة على الأراضي الموات خارج المدينة أو في أطرافها أو في الصحراء، متجاوزين وتعتبر البيوت بيوت تجاوز! مع ان الحكومة هي المتجاوزة والظالمة والجائرة بمنعها خلق الله من بناء أرض الله وإحيائها أو حيازتها.
جريمة هدم بيوت (التجاوز) بالنجف وكربلاء
وقد شهدنا جميعاً ان عمّال الحكومة، وبقسوة قلب غريبة، بدأوا في النجف وكربلاء وغيرهما بهدم العشرات من بيوت الفقراء والأيتام والأرامل، بذريعة انها بيوت تجاوز! ويا عجباً ممن يغصب حقوق الناس ثم يملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً بان الناس متجاوزون غاصبون! وممن يصادر حقوق الشعب في وضح النهار ثم يدعي بانه المدافع عن المظلومين والمحافظ على حقوق الشعب والناس أجمعين!
والظاهر ان غضب الناس على هذه الحكومة الجائرة يعدّ مظهراً من مظاهر نقمة الله تعالى وغضبه على هؤلاء الظلمة الذين أرسلوا (شفلاتهم) لتهدم بيوت الأرامل والأيتام على رؤوسهم.. ولقد شاهد الكثيرون تلك المرأة العجوز التي جلست على بقايا جدران دارها المهدمة وهي تبكي وتحث التراب على رأسها بعد ان هدمها عمال الحكومة (الإسلامية ـ الوطنية!) محتجين بحجة انه بيت تجاوز! وكأنّ الحكومة حلّت كافة مشاكل الوطن والشعب وحلّت مشاكل سرقات المسؤولين لأموال الشعب بالمليارات والتي زكمت روائحها أنوف العالم، وحلّت مشاكل الكهرباء والماء والنظافة وغيرها.. ولم يبق إلا ان تهدم بيوت الفقراء على رؤوسهم!
ان ذلك هو الطغيان بعينه والذي هو كالطبيعة الثانوية للحكام، مسلمين كانوا أم كفاراً، شيعة أو سنة، كيف لا؟ وقد قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(17) والاستغناء تارة بالمال وأخرى بالسلطة والسلاح وثالثة بالإعلام وهكذا.
ومن هنا فان على الناس ان لا ينخدعوا بالحجج المنمقة التي تسوقها أقلام مرتزقة الحكومات من أشباه المثقفين والسياسيين ممن لا همّ لهم إلا ملأ خزائنهم بأموال الشعوب المغصوبة والمنهوبة.
حوار بين الوالد وعبد الكريم قاسم حول توزيع الأراضي للفقراء
ويكشف لنا الحوار الرائع التالي بين السيد الوالد قدس سره وبين عبد الكريم قاسم، عن جانب من النظرة الإسلامية – الإنسانية، للأراضي قال قدس سره: (وقمت بدعوة السيد سعيد الزيني وصهرنا السيد عبد الحسين القزويني وسافرنا إلى بغداد، والتقينا بعبـد الكـريم قاسم، وذكرنا له موقف الإسلام مـن قانون(الأحـوال الشخصية). وطلبنا منه إيقاف العمل بهذا القانون.
ولست الآن بصدد ذكر تفاصيـل هذا الأمر وأوكله إلى مكان آخر…
الشيء المهم الذي دار بيننا وبين قاسم هـو مطالبتنا بإعطاء الناس الحرية.
قال عبد الكريم قاسم: نحن أعطينا هذه الحرية للناس، فقد كان الشعب يعيش فـي العهـد الملكي حالة من الكبت والإرهاب.
ثم أضاف: نحن منحنا كل الحريات.
ثم سألني: أية حرية لم نمنحها برأيكم؟
قلت: لا وجود لحرية البناء والأعمار، غير مسموح للمواطن بناء دار في الأرض المتروكة أو حتى ترميم الدار التي يسكنها إلاّ بشقّ الأنفس.
ثم أردفت: منح الإسلام للفرد الحق في إحياء الأرض سواء في الإعمار أم الزراعة أم ما أشبه ذلك، وقد أسس الإسلام قاعـدة هامة وهي: ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(18)، وكان هـذا القانون مطبَّقاً من عهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم وحتى قبل خمسين عاماً).
ثم استشهد السيد الوالد ببعض التاريخ القريب إذ قال: (وإني أتذكر ـ مثلاً ـ انه كانت هناك محلتان أنشئتا في النجف الأشرف على هذا القانون:
المحلة الأولى: محلة (الجديدة) في جنوب النجف.
المحلة الثانية: محلة (الجبل) في شمالها.
وكان أهالي النجف وغيرهم يدفنون موتاهم في مقبرة (دار السلام) وبقية المقابر دون مقابل ودون ضرائب.
وقـد أتى الإسـلام بقانون (حيازة المباحات) وإني لأتذكر أن الناس كانوا يذهبون إلى مناجم الملح ليجمعوا هذه المادة ويبيعونها، كذلك بقيـة المعـادن كالنحاس وما أشبه ذلك.
وانتم وقفتم قبال ذلك، ومنعتم الناس من حيازتها، ثم قلتم بعد ذلك هناك أزمة سكن وهناك بطالة و…!!
ليست هناك أزمة في السكن إذا طبقتم قانون السماء، فالأرض الـتي حباها الله للإنسان واسعة، وبمقدور كل إنسان أن يؤمِّن لنفسه سكناً وفق قاعدة: (إحياء الأرض).
ويتم ذلك وفق شروط أهمها: أن لا تسبب حيازته للأرض ضرراً للآخرين، فقانون الإحياء محكوم بقانون(لا ضرر ولا ضرار)، وقد بحث الفقهاء هذا الموضوع وفصَّلوه في كتبهم، فعليكم أن تمنحوا هذا النمط من الحرية للناس حتى يؤمِّنوا سكناً لهم).
ثم كشف السيد الوالد عن بقية حواره مع عبد الكريم وأجوبته له فقال: (أجاب قائلاً: نحن نعمـل وفق ما قلتم، فقد وزعنا على الفقراء والمساكين الأراضي المتروكة وبأثمان زهيدة ليبنوا عليها مساكن لهـم، وأنشأنا بنكاً باسم (البنك العقاري) ليؤمَّن السيولة اللازمة لعمليات البناء هذه، عبر قروض وبفائدة رمزية لا تزيد عـن واحد ونصف بالمائة، وأمرنا أن يقسَّط الدفع إلى عشرين عاماً.
سبع اعتراضات على طريقة توزيع الأراضي للفقراء
قلت له: إن عملكم هذا مخالف للشريعة الإسلامية، وذلك لأمور:
أولاً: إنكم تأخذون واحداً ونصفاً بالمائة، وهذا هو الربا بعينه، وهـو محـرَّم بحسب القرآن الكريم، حيث يقول: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(19).(20)
ثانياً: أنتم تعطون المال بعنوان القرض، وهذا مخالف للشريعة، لأنّ المال هو مالهم، وإن وظيفة بيت المال هو إعانة المحتاجين حتى لو كان من أصحاب التجارة وأصحاب العمل(21)، ومطلق من يحتاج إلى المال سواء في البناء والإعمار أم في الكسب.
ثالثاً: لماذا حدّدتم مساحة الأراضي الممنوحة بمقدار (500 م) فقد تكون عائلة كبيرة، وإن هذه المساحة غير كافية لهم، فكان لابـد مـن أن تكون المساحة الممنوحة بموازاة حجم العائلة.
رابعاً: إنكم تأخذون في مقابل الأرض الممنوحة مبلغ عشرة دنانير، فلماذا تأخذون هـذا المبلغ مع أنكم قلتم ان هذه الأراضي ستوزع على الفقراء، والفقراء لا يملكون حتى الدينار الواحد؟.
خامساً: لماذا خصصتم هذه الأراضي للعرب فقط؟، فالمعروف تاريخياً أن العراق سكنته أقوام مختلفة من الهند وإيران والباكستان و…، هؤلاء كلهم مسلمون وشاركوا في بناء هذا البلد ودافعوا عنه دفاعاً مستميتاً في طرد المستعمر منه في ثورة العشرين وغيرها من الثورات والانتفاضات. كان من المفترض أن تنظروا إلى كل من يسكن هـذا البلد نظرة متساوية، والإسلام يرى جميع المؤمنين أخوة، وقد قرّر هـذه القاعدة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(22)، وليس إنما المؤمنون العرب أخوة!
سادساً: إنكم حصرتم العطاء بالعرب العراقيين فقط، واستثنيتم العرب في الكويت والحجاز وسوريا وما اشبه، وهذا خلاف للشرع ولمبادئ الاخوة.
وقد نصّ الإسلام على أن التفاضل قائم على التقوى دون غيره مـن المبادئ، يقـول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ…)(23).
سابعاً: ما الداعي لهـذا الروتين فـي الحصول على إجازة وعلـى (الطابو) الذي يكلف الحكومة والشعب وقتاً ومالاً، تستطيعون اختـزال هذه الإجراءات وإلغاء الروتين حتى لا يتعب صاحب الأرض بين هـذه الدائرة وتلك).
ثم قال السيد الوالد: (طرحنا هـذه الإشكالات وإشكالات أخـرى على مشروع توزيع الأراضي، فلم يُحِر قاسم جواباً واكتفى قائـلاً: إذا أردنـا أن نسير وفق ما تقول لعمَّتنا الاضطرابات والفوضى والهرج والمرج.
قلت له: لا مجال للفوضى!!
قال: كيف ذلك؟
قلت: أضرب لك مثالاً للتوضيح والتقـريب بمدينة كربلاء المقدسة: فلو قسمنا كربلاء إلـى أربعة جهات: جهة الحر الرياحي وجهة العباس (عليه السلام) وجهة بغداد وجهـة طويريج(24) لحصل لدينا مساحة فرسخ أو فرسخـين فـي الطول والعرض لكل جانب. ثم عيَّنا الأماكــــن العامـة كالمســـاجـد والمدارس والمستشفيات والحدائق والمتـــنـزهات ودوائر الدولـة وما أشبه ذلك، وخططنا الشوارع، ثم قسمنا بقية الأراضي إلـى (200م) و(300م) و(500م) و(1000م) وما أشبه ذلك.
وبعد تعيين هذه الأماكن يتم استدعـاء الناس لاختيار الأماكن.
مثلاً يختار البعض طـرف بغـداد ويطلـب أن تكون مساحة البيت الذي يريده (1000 م)، وهناك من يختار البيت الأصغر، وإذا حدث تزاحم ونزاع فيمكن ان تجري القرعة بين الأفراد حول البيوت التي تزداد الرغبة فيها(25)، فابتسم ولم ينطق بحرف.
وهذا هـو دأب المستبدين، فهم يفعلون ما تملي عليه أهواؤهم أو ما يشير به رفاقهم وحواشيهم بدون أن يعيروا اهتماماً لآراء الآخريـن وآراء الشعب، ثـم ينفذون ما يريدون بالقوة والحـديد والنار، ثم بعـد ذلك إذا جوبهوا بالحقيقة والواقـع أو عثروا على فكرة وطريقة أفضل مما عملوا به سابقاً لا يذعنـون إليها، لأن إذعانهم هو بمثابة انتكاسة لهم.
وقد قلت شبيه هذا الكلام بعد سنوات إلـى ولـي عهد الكويت بواسطة؛ والكويت تخـتلف عن العراق، ففيها قوانين خاصة، ومنهج آخر كما هو واضح). انتهى(26).
وسنذكر في بحث قادم بإذن الله تعالى ان المسلمين، ساروا طوال ألف سنة، على قانون الأرض لله ولمن عمرها، (ولو ببعض القيود أحياناً إلا انها كانت أخف من قيود الحكومات الحالية) ولم يكونوا يستأذنون الحكومة وعمالها في بناء دار أو تأسيس معمل أو مصنع أو مقر شركة أو تشييد مزرعة أو مرتع أو غير ذلك، ولا احتاجوا إلى (طابو) وإلى بذل رسوم للحكومة و… ولا… ولا… وكانوا بذلك أحسن حالاً، بما لا قياس من الناس في ظل هذه الحكومات التي تدعي ان قوانينها إنما وضعت لصلاح العباد والبلاد، مع انها لم تزد البلاد إلا تبابا ولم تزد الناس إلا فقراً والأوضاع إلا فساداً وخبالاً.
ولننتقل بعد هذه الإشارة الموجزة إلى بعض البصائر القرآنية على ضوء الآيتين الكريمتين:
بصائر قرآنية
في هاتين الآيتين الكريمتين بصائر كثيرة، نشير إلى واحدة منها في هذا اليوم:
معنى اللام في (لَكُمْ)
ان اللام في قوله (خَلَقَ لَكُمْ )و(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(27) يحتمل فيها بدواً الوجوه التالية:
لام الاستحقاق
أولاً: ان تكون اللام لام الاستحقاق ولام الاستحقاق هي التي تأتي بين ذاتٍ ومعنى، وذلك نظير (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي الحمد مستَحقٌّ لله أو الحمد حقّ لله أو الحمد يستحقه الله، وكقوله تعالى (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ)(28) أي يستحقونه، فهل معنى (خَلَقَ لَكُمْ) أي خلق الأرض لتستحقون ما فيها أو خلق لاستحقاقكم ما في الأرض؟ ومعنى (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) والأرض وضعها لاستحقاق الأنام؟ الظاهر بُعده.
لام الاختصاص
ثانياً: ان تكون لام الاختصاص وهي التي تأتي بين أسمين كل منهما يدل على ذات، مع عدم ملكية مَن (أو ما) دخلت عليه اللام، الآخرَ، وذلك مثل (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ)(29) و(إِنَّ لَهُ أَباً)(30) فان الأخ مختص بالأخ لا مالك ولا مستحق، وكقولك (ادوم لك ما تدوم لي) أي أدوم مختصاً بك أو خاصاً لك مادمت مختصاً بي أو خاصاً لي، وكقولك (الحصير للمسجد) و(الستارة للكعبة)، بناء على عدم ملكية غير الإنسان كما هو المشهور وان ارتأى السيد الوالد صناعياً ملكيته في الجملة (كملكية المسجد لما يوقف عليه مثلاً)، وكذا الجلّ للفرس والمنبر للخطيب.
وفي الآية الشريفة يحتمل ان يكون (خَلَقَ لَكُم) أي خلقه مختصاً بكم فكل ما في الأرض مختص بالناس، وليس للحكومات حق الاختصاص به أبداً، وكذلك (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي مختصة بهم، واما (الأنام) فقد فُسِّرت بتفسيرات عديدة، منها: الجن والإنس، ومنها كل ذي روح أي كل ما ينمّ ويدب، وعليه: فقد يقال بحق اختصاص الحيوان بما حازه قبل غيره فلا يجوز أخذه منه، عبثاً، وفيه تأمل، وسيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
لام الملك
ثالثاً: لام الملك كقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكينِ وَابْنِ السَّبيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)(31) فالخمس ملك للأصناف الستة على رأي مشهور، وكقوله تعالى (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(32) و(فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ)(33) فيحتمل في الآيتين الكريمتين ان اللام للملك (خَلَقَ لَكُم) أي خلقها ملكاً لكم (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي ملكاً لهم، والملكية اما فعلية واما شأنية. فتأمل
لام التمليك
رابعاً: التمليك كقولك (وهبت لزيد ديناراً) أي مملكاً إياه، وفي الآية: أي خلق ما في الأرض مملّكاً إياه لكم، وهذا المعنى أقرب من سابقه وأوفق بسياق الكلام، لو دار الأمر بينهما.
لام الصيرورة
خامساً: لام الصيرورة وتسمى لام العاقبة ولام المآل، وذلك كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(34) وكقوله: (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبيلِكَ)(35) ومن البعيد جداً كونها لام التعليل.
وكقول الشاعر:
(فَلِلْمَوْتِ تَغْذو الْوَالِدَاتُ سِخَالُهَا * * * كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى الْمَسَاكِنُ)
و(فَإِنْ يَكُنِ الموْتُ أفْناهُمُ * * * فلِلْمَوْتِ مَا(36) تَلِدُ الوالِدَهْ)
وفي الآية الكريمة يحتمل ان المراد من (خَلَقَ لَكُمْ) أي ليصير لكم، ووضعها لتصير للأنام.
وعلى كل الاحتمالات فان الارض بما فيها مستحَقّة للناس لا للحكومات، وهي مختصّة بهم لا بالحكومات، أو ملك لهم أو مُملَّكة لهم لا للحكومات، أو خلقت لتصير إليهم لا للحكومات. إذا عرفت ذلك نقول:
موجز الأدلة على ان للناس حق تملّك الأراضي والمعادن
وصفوة القول: انه تدل على حق تملك الناس للأراضي ولكافة المعادن التي فيها، بدون قيد أو شرط وبدون سلطنة للحكومات عليهم، الأدلة التالية: الفطرة، العقل، النقل، والتجربة، إضافة إلى ان ذلك هو الأصل الأولي (مقابل حق الحكومة في فرض قراراتها).
اما النقل: فالآيات الكريمة السابقة ونظائرها والروايات الشريفة وهي كثيرة جداً كقوله صلى الله عليه واله وسلم ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(37) والحديث متفق عليه بين الفريقين و((عَادِيّ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي فَمَنْ أَحْيَا مَوَاتاً فَهِيَ لَهُ))(38) والظاهر ان المراد بالعاديّ ما يقابل العامر فيراد مطلق الموات، والظاهر ان وجه التسمية انه قد تعداه العمرانَ وتجاوزه، وليس العاديّ مختصاً بقديم الأرض حيث فُسّر العادي بالقديم وكأنه نسبه إلى قوم عاد.
وأما العقل: فانه مستقل به كما سيأتي.
وأما الفطرة: فدونك الرجوع إليها، ويدلّك على ذلك انك لو ولدت في جزيرة منعزلة ولم تملأ اذنك فلسفة الحكومات في منع الناس من حيازة المباحات وتملك الأراضي والمعادن فيها بقدر حاجتك، فانك ترى وجدانك يشهد بان لك الحق في ان تزرع فيها ما تشاء وان تأكل من ثمراتها كما تشاء وان تستخرج من باطنها حيث تشاء. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين