نشر المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية الجزء الأول من الندوة الأولى التي نظمها منتدى الحوار الاستراتيجي، التابع للمعهد المصري للدراسات، حول الأزمة الأوكرانية في 1 مارس 2022 ، أي بعد حوالي خمسة أيام من بداية الأعمال العسكرية، وذلك تحت عنوان “الأزمة الأوكرانية – قراءة أولية ومداخل تأسيسية“، وقد تعرض هذا الجزء لأهداف ومسارات هذه الأعمال، وأبعاد السياسات الغربية، والأزمة وتحولات النظام الدولي، والمداخل الحضارية للأزمة، وصراع المشروعات، والمداخل الاقتصادية للأزمة.
أما الجزء الثاني من الندوة الأولى، وباتباع قواعد (تشاتام هاوس) في المناقشات كما يقضي نظام المنتدى، فقد تناول مستويين، الأول التأثيرات المباشرة على عدد من الدول الأساسية في المنطقة وعلى المنطقة بشكل عام وما يحدث فيها، مثل تركيا والإمارات، ومصر وسوريا واليمن، أما المستوى الثاني فقد سعى للوقوف على انعكاسات ما يحدث الآن على مستقبل الثورات العربية أو مشاريع التغيير المنشودة في المنطقة؟ وهل هذا التأثير هو تأثير سلبي أم إيجابي؟ وهل يتوقف هذا التأثير على ما نقوم به من أفعال وأعمال القوى الساعية للتغيير في المنطقة كلها بشكل عام، والاستفادة من الفرص وتفادي التهديدات؟ وكيف تتحول هذه الأزمة إلى فرصة نستفيد بها للدفع بملف التغيير في المنطقة؟ وما هو الخطاب الذي ينبغي أن تتبناه هذه القوى؟
وإذا كان نموذج المقاومة الأوكرانية، ملهماً للشعوب التي تسعى للتغيير، فهل يكون موقف القوى الفاعلة للتغيير هو دعم هذا المجهود الأوكراني؟ وهل هذا النموذج يمكن التفاعل معه بشكل إيجابي كنموذج مرغوب بشكل عام دون التورط في القول بدعم المنظومة الغربية؟ أم أن دعم الشعب الأوكراني هو في الحقيقة إدانة للمنظومة الغربية التي استدرجت روسيا لهذا الغزو على حساب سلامة واستقرار الشعب الأوكراني، وإدانة لروسيا التي تم استدراجها إلى هذا الفخ وترتكب هذه المجازر في حق الشعب الأوكراني؟
وهنا يأتي السؤال الحضاري عن الفرص التي يمكن أن تتيحها الازمات التي تعيشها جميع المشروعات الموجودة على الساحة؟ وهل يمكن أن تشكل فرصة للمشروع الحضاري الإسلامي، إذا وجد له من يقوم عليه كما ينبغي، بحيث يوفر حلولاً للمشاكل التي يمر بها العالم لأنه مشروع للإنسانية جمعاء.
الغرب والأزمة الأوكرانية ـ حدود الدور:
ذهب فريق من المشاركين في الندوة إلى أنه من الصعوبة أمام المحلل أن يخرج من قاعدة النمطيات والقوالب في فهم صراع أو حدث كما يحدث في الجامعات، ويكون أحد أهداف المناقشات محاولة الخروج بأفكار جديدة، لذلك مع تفهم والاتفاق حول قضية الصراع الحضاري والصراع الديني التي غطاها الجزء الأول، إلا أنه من المفيد أحيانا أن نفكر خارج إطارها. حتى يمكن الوقوف على بعض السيناريوهات الاضافية التي بالإمكان أن تحدث.
إن صراع الكبار أحيانا مع الدمار الذي يخلفه، قد يفتح بعض الثغرات للاعبين الثانويين أو الصغار، ويحرك الملفات ويخلط الأوراق. وكذلك يتيح الحديث وفق سردية جديدة مستحدثة. فاليوم عندما نتكلم عن أوروبا وخطابها العنصري، أوروبا التي تتغنى بقيم الإنسانية؛ والمساواة والإنسانية والبشرية، تتكلم الآن بشكل واضح عن العنصرية والموقف من اللاجئين الأوكرانيين مقارنة بغيرهم من اللاجئين، وهذا يمكن أن تترتب عليه ثغرات، إما على الأرض بالميدان أو على مستوى الخطاب الذي ينبغي على الشعوب العربية والإسلامية أن تحاول استثماره.
وذهب فريق إلى أنه من المسائل التي ربما يتم فيها نوع من الخلاف في الرؤية هي قضية الحسابات وراء الأفعال ومدى دقتها، بمعنى هل الغرب حسب حساباً دقيقاً لقوة ترسانة بوتين العسكرية، وإلى أين هو مستعد أن يذهب؟ وهل بوتين حسب حساب الاستدراج الذي تم له؟ بحيث أنه دخل وهو يعلم ما الذي سيواجهه؟ أم أن هناك نوع من التقدير الخاطئ للخصم مما سيفضي إلى نتائج غير متوقعة؟
أكثر المحللين ذهبوا إلى أن بوتين انتهى، ووقع في الفخ، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، بوتين ليس إنساناً عادياً، فهو تردج في دولاب الدولة لعدة عقود وعنده من الخبرات الكثير، ويحكم منذ نحو 23 عاماً، وهو يحسب حساب هذه اللحظة. لذلك الأمر ليس بذلك الوضوح. بل حتى يمكن الميل إلى ما ذهب إليه البعض أنه على المدى البعيد قد يترتب على هذه الأزمة أن روسيا أو الشرق بشكل عام يبرز ويتقدم.
فقضية الحسابات الدقيقة، ليست فقط كم يملك بوتين من الترسانة العسكرية؟ لكن إنما إلى أين هو مستعد أن يذهب؟ وما هو الأفق؟ ما هو البعد؟ كلها أمور تستدعي التفكير والتركيز.
المسألة الأخرى المهمة وفي أي معركة هي قضية مواقف الشعوب، وهذا الزخم الإعلامي والزخم الشعبي، والشعور العام بأنه لا توجد رغبة في الدخول في حرب بين الشعوب الأوروبية، نعم هي غاضبة من روسيا، لكنها ليست مستعدة تدخل حرب. الحرب مكلفة، والشعوب الأوروبية تتذكر الصراع والأثمان التي تدفع غير الاقتصادية، أثمان باهظة، لذلك فالمزاج العام ليس مع الحرب والحكومات يصعب عليها أن تحشد لمواجهة شخص مثل بوتين، ليس هو صدام، وليس العراق المهلهل عام 2003 بعد حصار 13 سنة.
ذلك الزخم الشعبي الذي يتيح للحكومات بأنها تجهز الجيوش وتبدأ في هجوم، ثم الاستعداد لتلقي صواريخ روسيا وهي ليست بعيدة عن أي دولة أوربية.
الأمر الآخر المهم هي قضية الصين والقطب الشرقي. الصين الآن تجد فراغاً تتمدد فيه. الاهتمام الآن بما يجري في أوكرانيا منحها فرصة، لذلك الحركة إزاء المياه الإقليمية التايوانية ربما يستتبعه شيء آخر، وهذا يعني، بغض النظر عن أهمية تايوان، لكنه إعادة تموضع يعيد النظر في الخارطة الاستراتيجية، ويتيح شيئاً جديداً يمكن قراءته وفهمه، ففي حال تم حصار روسيا، ولم يعد لها خيارات مفتوحة، كيف ستتحرك الصين من ناحية، وكيف ستتحرك روسيا من ناحية ثانية؟
وهذا بطبيعة الحال، سيؤثر على العديد من الملفات في منطقتنا، ولا سيما في الملفات التي هي في مناطق أقرب إلى اهتمام الغرب مثل الملف السوري والملف الليبي، وهذا الأمر سيؤثر حتما على الملف الفلسطيني، وعلى الملف المصري، وعلى الملف العراقي.
هناك سيناريوهات مختلفة، ولكن في حال وجد الروس أنفسهم في زاوية حرجة، قد يتجهون لاستخدام كل الأوراق لأجل النيل من الخطوط الخلفية للخصم، وخلق حالة من الفوضى، هذه الفوضى قد تكون فوضى سياسية، وفوضى ميدانية، وفوضى اقتصادية تنجم عنها تحولات مجتمعية، وقضية حصول الفوضى أمر ينبغي الاستعداد له، لأن الانهيار في السوق المالية في موسكو سيتبعه انهيار في أسواق أخرى، وقضية السويفت وإخراج روسيا منها البعض يقول عنها إنها بمثابة القنبلة النووية الاقتصادية.
إن قضية أوروبا وأمريكا وعلاقتهما بأوكرانيا، هذه علاقة غير طبيعية. يعني ليس من الواضح أن أمريكا قدمت أوروبا لتكون بالخط الامامي في هذه المواجهة، والأوروبيون سيتلقون، في حال أي نوع من الهجوم، الضربات الأولى، لأنها على حدودهم، كما أن مئات الآلاف يوميا من المهاجرين الأوكرانيين الذين يُقبلون الآن في بعض الدول الأوربية، يمكن تحملهم مع وجود هذا الزخم العاطفي، لكن مع الوقت يمكن أن يشكلوا عبء من الصعب تحمله في العديد من هذه الدول، ويمكن أن تصبح أوكرانيا القربان الذي دفعته الولايات المتحدة والدول الأوربية من أجل استدراج روسيا واستهدافها سياسياً واقتصادياً.
وإذا كان الغرب اليوم أكثر اصطفافا وأكثر تماسكا وأكثر تلاحما، وأكثر قدرة على إدارة المشهد، فإنه مع تعقد الأزمة واستمرارها، قد تظهر حالة من التشقق، في العلاقات الأوربية ـ الأوربية، ثم الأوربية ـ الأميركية، نتيجة تعاظم المخاطر وتفاقمها وعدم القدرة على وقف نزيفها.
أطروحات التحول الدولي وتداعياتها على الشرق الأوسط:
من الأطروحات المهمة في فهم المشهد الحالي، أطروحة “بريجينسكي”، التي تقوم على القول بالاتجاه نحو تعدد الأقطاب، فخلال آخر عشرين سنة هناك عالم يتجه باتجاه القطبية التعددية أو متعدد الاقطاب، وليس هيمنة القطب الواحد، خاصة إذا نظرنا إلى أكبر عشر اقتصادات في العالم سنجد أن أربعة منهم على الأقل في آسيا، من حيث الحجم والتأثير، منهم الصين حيث الناتج المحلي الإجمالي “GDP” حوالي 17 تريليون دولار، والفرق بينها وبين أمريكا حوالي ستة تريليون دولار فقط، أي أن الفجوة تتقلص بشكل كبير جدا كما العالم جميعا. ثم تأتي الهند واليابان وكوريا الجنوبية.
التحدي هنا إلى أي مدى يمكن لهذه الدول تحويل البعد أو القوة الاقتصادية إلى بعد سياسي استراتيجي (بما يؤدي لتعدد الأقطاب). وهذا هو التحدي الذي طرحه “بريجينسكي”، ويقول إن بعض هذه الدول ليس لديها الرغبة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أما الهند فعندها مشاكل داخلية وصراعات اجتماعية وعدم مساواة اقتصادية هائلة، وتعاتي من أزمات ضخمة في تجانس مجتمع نتيجة للعرقيات الموجودة فيها والصراعات الداخلية الموجودة فيها خاصة مع صعود اليمين المتطرف هناك، وقد تكون الصين نوعا ما هي الخطر الذي يراه البعض أو يحاول تصويرها على أنها الخطر فيما يتعلق بهذه المسألة.
روسيا ليست من بين هذه الاقتصاديات الكبرى، وبالتالي هناك من يرفض فكرة أن روسيا قد تكون لاعب مؤثر جدا في هذا النظام متعدد القطبية، هي لها وضع مهم وخاصة من الناحية العسكرية، ومن ناحية الطاقة والغاز، وهذا يعزز من وزنها الاقتصادي، ويعطي لها دور مهم جدا في التفاعلات الدولية في هذه اللحظة.
الأمر الثاني المهم، أن هناك منطقين للتعاطي بين هذا النظام متعدد الأقطاب؛ إما منطق التعاون والشراكة أو منطق الصراع بكل أشكاله. حتى هذه اللحظة الاقرب هو منطق تنافسي أقرب للمنطق الصراعي، ليس منطق تعاون ولا شراكة، وهذا جزء منه متعلق بوجود أزمة أخلاقية حقيقية إنسانية، وأزمة تبرز تمثلاتها في تصريحات هنا وهناك. فيما يتعلق بالتعاطي مع البشر كبشر. وهذا عنصر مهم جدا، لكنه غائب عن حسابات الفاعلين الدوليين.
نحن نتكلم عن علاقات دولية، الأصل فيها هو الصراع وليس التعاون، ترسيخ مقولات “هانز مورجانثو” أن القوة هي الأساس، وهذا يعني أن النظرية الليبرالية للعلاقات دولية تضعف، مع صعود منطق الصراع والقوة. فالذي يحدد شكل النظام هذا هو أيهما، أي منطق سيغلب؟ هل منطق التعاون والشراكة؟ أم منطق الصراع والتنافس الذي قد يؤدي لبعض الأوقات إلى احتكاكات بشكل أو بآخر؟
إن الحروب لم تعد حروب تقليدية، ولذلك الحرب الروسية الأوكرانية أو غزو بوتين لأوكرانيا، ليست حرباً بالمعنى التقليدي، فالحروب الاقتصادية تعمل وحروب الفضاء موجودة. والحروب على مصادر الطاقة خاصة مع التغير المناخي موجودة ستكون هي المستقبل. يعني مستقبل الحروب أو الصراعات هو صراع على الموارد، والطاقة جزء من هذه الموارد.
نحن أقرب إلى نظام عالمي فوضوي بالفعل، نظام ليس لديه قواعد حتى على الأقل في هذه المرحلة التي هي مرحلة سيولة حتى يتشكل شكل هذا النظام أو النظام العالمي الجديد. أيضا لا يجب أن ننسى المحركات الداخلة في هذا الصراع. مثل شركات ومافيا للسلاح ومن مصلحتها استمرار الصراع الدولي، وهذه موجودة في معظم الدول الكبرى، يعني موجودة في أمريكا وفي أوروبا وفي الصين وفي روسيا، ولها دور مهم في الضغط على السياسيين، ولمصلحتهم أن يظل النظام الدولي في حالة صراع وحالة اشتعال، لأن حالة الاشتعال هذه تدر مليارات الدولارات إلى خزائنهم.
كذلك البعد التاريخي والديني، الذي ذكر في الجزء الأول من الندوة، مهم، ولا يمكن التقليل منه، لكن باعتباره أداة تعبوية، وليس أداة استراتيجية، يعني كلام بوتين حول الترابط التاريخي وحول البعد الثقافي والبعد اللغوي هذا كله مهم. لكن الخطاب تعبوي موجه لفئات معينة وليس خطاب استراتيجي، بمعنى أنه يعمل “Framing” أو تأطير للصراع من أجل اعطائه شرعية، ووضعه في صراع أكبر وفي صراع ديني وصراع تاريخ وما إلى ذلك. وذلك ما قام به من هتلر، الذي تكلم عن العنصر الآري وعلى الأمة الألمانية والامبراطورية الألمانية حتى يبرر به سلوكه الحربي أو السلوك العسكري. صدام حسين نفس الوضع، عندما غزا الكويت تحدث عن بعد تاريخي وأمة واحدة ومحافظة من دولة، لذا يكون من المهم فهم السياق العام، كمحددات للسلوك حالياً.
بالنسبة لتداعيات الأزمة على المنطقة العربية، يجب التمييز بين مستويين، مستوى الأنظمة ومستوى الشعوب، لأنه لا يمكن القول مثلا إن مصلحة الشعب المصري هي نفسها مصلحة نظام السيسي. أو مصلحة الشعب السوري هي مصلحة النظام السوري. أكيد هناك فرق بين المستويين، وبالتالي كل حرب فيها رابحون وخاسرون في المنطقة العربية بشكل عام.
على مستوى الأنظمة يبدو ظاهريا أن هناك هامش للمناورة أو هكذا تقرأ بعض الأنظمة العربية هذا الصراع على أن هناك مساحة للمناورة مع أمريكا من أجل ابتزازها سياسياً واستراتيجيا. بمعنى أنه دولة مثل الإمارات هي دولة وظيفية كما أسماها دكتور المسيري، ونظام يؤمر فيطيع بشكل أو بآخر، لكن ما تفعله الآن هو حسابات تكتيكية. ولذلك التعاطي مع روسيا سواء كان من ناحية الإمارات أو من ناحية مصر أو غيرهما. ليس تحول استراتيجية في العلاقة مع الغرب، لأنهم في النهاية يعلمون أن روسيا أو بوتين لا يعتمد عليه بشكل كامل. فاستغلالهم للمسألة قد يكون في إطار المناورة. وهذا لن يستمر بالمناسبة، قد تكون الإمارات أكثر وضوحا في موقفها من نظام السيسي مثلا. فالسيسي يتمنى أن ينتصر بوتين بلا شك لأنه سيقوي شوكته، وسيقوي شوكة كل الدكتاتوريين في العالم، لكنه لا يمتلك القدرة على حسم موقفه، هل يدعم روسيا بشكل كامل، أم يدعم الغرب.
في الأول من مارس صدر بيان مهم جدا من ممثلي الـ G7 في مصر. بيان نشرته السفارة الأمريكية على موقعها، كأنه يقول للنظام المصري خذ موقفاً نحن نراقب موقفكم.
بالنسبة لإيران فهي مستفيدة من زاويتين، الأولى تقليل الضغط الواقع عليها بحيث لا تقدم تنازلات أكثر في الملف النووي، والثاني محاولة الاستفادة بأكبر قدر من التنازلات الأمريكية في هذا الملف، وتستفيد لو بوتين كسب هذه الحرب، وتعزيز ما تسميه محور الممانعة بالمعنى الدولي، الذي يضم إيران والصين وروسيا، كما أنها مستفيدة من ناحية ارتفاع اسعار الطاقة، رغم العقوبات المفروضة عليها.
من بين الرابحين أيضاً دولة قطر. ليس فقط باعتبارها من أكبر مصدري الغاز، لكن أيضا كدور سياسي ودبلوماسي مهم.
أينما تكون الموارد تكون القوة السياسية من الآن فصاعدا. أين توجد الموارد؟ لو هناك دولة عندها موارد هذا يعني أن عندها قوة أو وزن على الساحة الدولية. والعكس صحيح. ألمانيا مثلا رغم قوتها الاقتصادية والعسكرية مقيدة من ناحية الطاقة. نفس الوضع مع تركيا.
الإمارات تنفذ صفقة تكتيكية من خلال موضوع الحوثيين، والعمل على تصنيف الحوثيين من قبل مجلس الأمن باعتبارهم جماعة ارهابية، حيث كانت تسعى ألا تستخدم روسيا حق الفيتو، وتم الاتصال بين محمد بن زايد وبين بوتين، ليس من باب تحول استراتيجي إماراتي باتجاه روسيا، لكن مجرد نكاية في إدارة بايدن تحديدا وليس في أمريكا، لأن الإمارات لا يمكنها الاستغناء عن الولايات المتحدة، مع وجود 4000 جندي امريكي في قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، ووجود قاعدة عسكرية في الإمارات، فالإمارات من المعتمدين على أمريكا بشكل أو بآخر في إطار المظلة الأمنية للحماية.
الانعكاس على سوريا وليبيا انعكاس مهم جدا. إذا كُسر بوتين قد نشهد تفاعلات في هذه الصراعات، فالذي أبقى نظام الاسد على حاله هو الدعم الروسي غير المحدود في 2015، حيث كان على وشك السقوط، فلو عاد بوتين بخفي حنين من هذه الحرب سيؤثر على تفاعلات الحرب داخل سوريا.
نفس الوضع في ليبيا وفي أفريقيا حيث يوجد تمدد في الانتشار الروسي في السنوات الأخيرة، هذا النفوذ الروسي في العالم سيتأثر بشكل أو بآخر حتى في ظل العقوبات التي قد تكون مؤلمة للنظام الروسي.
فيما يتعلق بالمستوى الثاني، مستوى الشعوب، من ناحية التداعيات المباشرة على الشعوب ستكون التداعيات سلبية جدا وسيئة جدا. ففي الحالة المصرية على سبيل المثال، بشكل عام ماليا واقتصاديا ستتأثر بشكل سلبي، حيث تبرز 3 ملفات أساسية بتتأثر بهذه الأزمة العالمية. موضوع القمح، مصر تعتمد على الأقل 80% من استهلاكها من القمح يأتي من الخارج، نحو 85% من هذا المستورد يأتي من أوكرانيا وروسيا.
الملف الثاني موضوع السياحة، قبل اسقاط الطائرة الروسية في 2015 كان هناك نحو 3 إلى 3.5 مليون سائح روسي سنويا. العدد انخفض بعد ذلك، ثم استمر الانخفاض مع تداعيات كورونا، وعندما تم فتح المجال منذ حوالي سبعة أشهر وصل 500 ألف تقريبا وكان المستهدف هذا العام مليون سائح. لو استمرت العقوبات الاقتصادية على روسيا، المواطن الروسي لن يخرج، وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة جدا مستوى قطاع السياحة الذي يعتبر أحد المداخل الرئيسية للدخل القومي في مصر، حيث تشكل السياحة الواردة من روسيا وأوكرانيا نحو ثلث حجم السياحة في مصر.
الملف الثالث، موضوع محطة الضبعة النووية. التي من المفروض أنها ستنتج طاقة سلمية، محطة الضبعة بتكلفة 30 مليار دولار، 85% من هذا المبلغ عبارة عن قرض روسي، مع العقوبات على روسيا، قد تجد صعوبة في الاستمرار في المشروع لاعتبارات تقنية من ناحية، أو لاعتبارات تتعلق بفرض ضغوط على مصر في الالتزام بالعقوبات على الجانب الروسي، أو لإمكانية توافر التمويل الروسي في حد ذاته.
أما فيما يتعلق بتداعيات الأزمة الأوكرانية على قوى التغيير في العالم بما فيها منطقتنا، من منظور تاريخي نجد أنه بعد كل أزمة عالمية تكون هناك تداعيات داخلية، بعد الحرب العالمية الأولى اندلعت مجموعة من الثورات والانتفاضات منها مثلا ثورة 19 في مصر. ثورة العشرين في العراق. ثورة 36 في فلسطين.
بعد الحرب العالمية الثانية انتشرت حركات التحرر في العالم كله، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكان هناك تحول في النظام القائم وتفاعلاته، والانتقال من الدولي إلى الإقليمي والمحلي. أي أن أية أزمة عالمية لها تداعيات على المستوى الإقليمي والمحلي. كذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كانت هناك آثار ضخمة إقليميا ومحليا وعالميا. من خلال التحول الديمقراطي في بلدان أوروبا الشرقية بشكل أو بآخر، كذلك غزو العراق للكويت 1990، كانت له تبعاته حيث حدثت تحولات في البيئة الجغرافية السياسية في الخليج العربي. في ظهور برلمانات وحركات تغيير تضغط من الداخل.
كذلك الأمر بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والضغوط التي صاحبتها من أجل التغيير السياسي في المنطقة، وكانت مقدمة لما حدث في 2011، وكذلك بعد غزو العراق 2003، والذي كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة.
الآن بعد الأزمة الأوكرانية ستكون هناك فرص أخرى للتغيير، وهنا يكون السؤال عن الخطاب المفترض لقوى التغيير السياسي في العالم العربي؟
الخطاب الأساسي يجب أن ينطلق من التأكيد على أن الاستبداد هو أكبر خطر يهدد السلم والأمن الدوليين، ونموذج بوتين حالة صارخة، وأن الصمت على الاستبداد يعني حروب مؤجلة، سواء استبداد كان مصدره بوتين أو السيسي أو الاسد أو أي حاكم في المنطقة العربية، لأنه في النهاية تكون قراراته دون ضابط ولا رقيب عليه.
كذلك من الأهمية التأكيد على مسألة الديموقراطية، وأن هذا الغزو الروسي هو انتهاك لأبسط حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، وأنه عندما تقوم دولة بغزو دولة أخرى. فهذا ضد مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ العدالة والحرية، وأننا نعاني منها كدول عربية لعقود ممتدة.
إن جزء من الصراع هو الخوف الروسي من انتشار العدوى الديموقراطية داخل روسيا، يعني جزء من مشكلته مع أوكرانيا. التي كانت من أكبر دول الاتحاد السوفيتي من ناحية المساحة والتأثير، فعندما تكون دولة ديمقراطية على حدود روسيا هذا أخطر من القنبلة النووية بالنسبة لروسيا، وبالنسبة لبوتين شخصيا. فخطاب الديموقراطية مهم وخطاب حقوق الإنسان، وخطاب حق الشعوب في اختيار من يحكمها، خطاب مهم جدا في هذه اللحظة التاريخية.
إن منطقتنا ستشهد فترة احتقانات داخلية، فالأنظمة والسلطات في العالم العربي الآن في مأزق كبير جدا وهذا يفرض على قوى التغيير أن تكون مستعدة، ويكون عندها مشروع استراتيجي للتغيير، مشروع بديل يكون موجود، لأنها إذا استمرت في مرحلة رد الفعل لن تستفيد كثيرا من هذه الفرصة التاريخية التي نشهدها الآن.
مآلات الصراع واللعب في المناطق الرمادية
لا يمكن الفصل بين احتمالات مآلات الصراع الآن والاتجاهات المتعلقة بمنطقتنا لأنه حسب وجهات النظر المختلفة، بالنسبة لمن يرى أن هذه نهاية بوتين وصعود الغرب أكيد ستكون نظرته لطريقة تعامل المنطقة تختلف عمن هو مقتنع بأن ما نراه هو تحول في صالح القوة الشرقية الكبرى على حساب الغرب الآفل، بالتالي صعب التمييز بين المنطقتين.
إن التفوق الإعلامي والاقتصادي الغربي لا يعنيه كسبا استراتيجيا على المدى البعيد ولا ينبغي أن يشغلنا عن التحولات العميقة تحت السطح، إن الإعلام يضع الجميع في حالة نفسية رهيبة بحيث أنه يجعل المتابع غير قادر أن يبتعد عن تفاصيل الحدث قليلا حتى يتأمله. وكأننا نعيش اليوم تحت تأثير هذا القصف الإعلامي والكلام عن العقوبات في كل شيء حتى سحب الحزام الاسود من بوتين يعني كل شيء، يمتلئ الذهن بالجزئيات فيضيع الحديث عن الكليات.
ويرى بعض المشاركين في الندوة أن الأزمة هي جزء من صراع بين القوى السائدة والقوى الصاعدة وهي معادلة قديمة وعقدة من العقد في الدراسات الاستراتيجية العلاقة بين القوى السائدة والقوى الصاعدة، والقوى الصاعدة اليوم هي الصين وروسيا السلافية وليست روسيا السوفيتية، وتركيا وألمانيا، هذه القوى هي القوى الصاعدة في عالمنا في النظام الدولي الآن، الصين أولا قبل كل شيء ثم بعد ذلك روسيا وتركيا وألمانيا أما القوى السائدة والتي تقريبا استنزفت طاقتها إلى حد كبير سواء من منظور القوى المادية أو من المنظور المعنوي الحضاري.
أمريكا وأوروبا الغربية رغم التفوق التكنولوجي أصبحت قوة تكاد تفتقد القوة الدافعة فيها إلى حد كبير، كما أن الشعوب الأوروبية أصبحت محصنة ضد الحرب، خصوصا على الارض الأوروبية. يعني جراح الحرب العالمية الأولى والثانية لم تندمل. الشعوب الأوروبية لا تحتمل حربا ولا تقدر على الحرب. ربما باستثناء الألمان هم قوة مكبوتة، ولا تزال لديهم طاقة كامنة، إذا تحررت في يوم من الأيام تكون قوة حقيقية. الغرب أيضا يفقد وسائله بالإفراط في استخدامها، ويعني إذا افرطوا في استخدام الوسائل ومنها العقوبات تفقد أثرها على المدى البعيد.
نظام السويفت مثلا استعملوه اليوم بجدية للضغط على روسيا، ماذا لو الصين وروسيا بدأوا يفكرون شيء بديل عن السويفت؟ بالمناسبة بدأت بالفعل محاولة على هذا الطريق. ماذا لو ازداد التعامل الدولبي بغير الدولار؟ دول كثيرة بدأت تسعى لذلك. إذا أيضا الوسائل إذا أفرط في استخدامها تضيع ويبدو أن هذا ما يحدث. الصين مستمتعة بالصراع الحالي وهي طبعا تستثمر الانشغال الغربي وكما انشغل عنها الغرب منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وعلى مدى عشرين عاما، والصينيون فرحوا جدا بهذا الانشغال، ربما الآن ينشغلون في بوتين أيضا عشر سنوات قادمة، فلا يصحون من سكرة بوتين الا والصين قد أصبحت القوة الأولى في العالم. وروسيا مجرد ابن أصغر يعني أو أخ اصغر للصين وسائرة أيضا في فلكها بحكم الصراع مع الغرب.
إذا أردنا الحصانة في هذه المنطقة ما عندنا الا عنصرين الإسلام والديمقراطية. هذه هي الحصانة الحقيقية التي يمكن أن تحصن هذه المنطقة من الزحف الصيني والروسي القادم. الغرب لم يعد خطراً، وهو مدبر على كل حال. الخطر هو القوة المقبلة، وهذه القوة المقبلة جدار الصد الوحيد الذي يستطيع أن يوقفها هو الاسلام كهوية وفكرة وعقيدة واعتزاز، والثاني هو الديموقراطية أن تصبح حكوماتنا تعكس وجدان الشعوب ومطامح شعوب ومصالح الشعوب في المنطقة.
لو كان الغرب لا يزال يتمتع بحاسته الاستراتيجية حكمته القديمة، الحكمة الإنجليزية والذكاء الإنجليزي القديم. لكان الآن مع الإسلام ومع التحول الديمقراطي في منطقتنا، من أجل تحصين هذه المنطقة وبناء جدار صاد للقوى الصينية والروسية، تماما كما استغلوا الجهاد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي وغيره، وكما حاولوا أن يبنوا جدارا من الدول المتدينة حول الاتحاد السوفيتي سابقا. باكستان وبغداد والسعودية وكل الكلام عن الدين كان طبعا من أجل احتواء الشيوعية. يستطيعون وبمنطق براجماتي بحت اليوم أنهم لو انحازوا لثورات الشعوب العربية وانحازوا للتصالح مع القوى السياسية الإسلامية، لحلوا خمسين في المائة من التحدي الذي يواجهه الغرب من جهة روسيا والصين. لكن لا يبدو أن الغرب سيتوب توبة نصوحا مما اعتاد عليه من الانحياز ضد الشعوب للأسف لأنه هذه حالة إدمان على الحلول السهلة على حساب الشعوب.
نحن جزء من منطقة الارتطام والدكتور جمال حمدان يعني اشاد بهذا المفهوم وربما وسعه كثيرا ليشمل منطقتنا أيضا منطقة الارتطام هي حقيقة كل ما يسميه علماء الجغرافيا السياسية ريم لاند (حافة الارض)، يعني السواحل المحيطة بأوراسيا عموما. أوروبا الغربية ومنطقة البحر المتوسط والبحر الاحمر وبحر العرب، هذا كله إلى بحر الصين الجنوبي. هذا كله من الريم لاند. نحن جزء من هذه المنطقة وهي المنطقة التي تصارع عليها تاريخيا القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى منذ القدم إلى اليوم.
إذن ماذا نعمل؟
رأى بعض المشاركين أن السياسة هي كما يعرفها اساتذتنا المتخصصون هي فن تحقيق الممكن من خلال بناء المساحات المشتركة. هي فن تحقيق ممكن فعلا لكن أداتها بناء مساحات مشتركة. هذه هي السياسة. نحن الآن امامنا خيار اللعب في المناطق الرمادية. العالم لم يعد عالم الحقيقة يعني التحالفات الأيديولوجية الكبرى أنت إما معنا أو ضدنا. إما دولة اشتراكية تقدمية مع الاتحاد السوفيتي أو دولة رجعية أو ليبرالية وديمقراطية لا.
يمكن الآن اللعب في المناطق الرمادية دون أن ترهن نفسك إلى طرف من الأطراف. هذا الذي تسعى اليه دول الآن مثل تركيا مثلا. على عكس الإيرانيين ما عندهم المرونة الذهنية التي عند الاتراك فهم منحازون بشكل كلي للصين وروسيا. بينما الأتراك مع الغرب ومع روسيا ويبحثون عن مساحة مشتركة مع الصين ومع الجميع. وأعتقد أن منطقتنا تستطيع أن تحقق شيئا من اللعب بالمناطق الرمادية. لكن مهم جدا للسياسي ولقوى التغيير ألا نبقى على هوامش الصراعات. المواقف المبدئية الطهرية التي يجب أن يتخذها مثلا المناضلون الحقوقيون غير المواقف السياسية العملية الذي يتخذها الممارس السياسي.
إذا كنت ممارساً سياسياً سواء في السلطة أو في المعارضة، لا تستطيع أن تتخذ مواقف طهرية واضحة. يجب أن تكون مع الشعوب على طول الوقت في كل ارض ومع الديموقراطية في كل زمان وفي كل مكان. أنت لست مسئولا عن تحرير الشعب الأوكراني. أنت مسؤول عن تحرير الشعب المصري أولا. والشعب السوري والشعب العراقي. صحيح لا تستطيع أن تدعم سفاحا مثل بوتين. لكن أيضا في نفس الوقت ليس مطلوبا منك أن تكون حليفا للأوكران وأنت أصلا عندك عشرات الأزمات والتحديات (بالطبع اختلف عدد من المشاركين مع هذا الرأي كما سيأتي لاحقا).
النموذج على هذا ما حدث في منتصف القرن العشرين. كيف استفادت الشعوب من الحرب الباردة. لولا حالة الانشطار العميقة في النظام الدولي ما كانت كثير من الشعوب تحررت من الاستعمار. لماذا الثورة الجزائرية أعظم تجربة جهادية تحررية في عالمنا العربي والإسلامي في القرن العشرين؟ لو لم تجد معسكر الاشتراكي والسلاح السوفيتي والسلاح اليوغسلافي؟ لولا صوت المعسكر الاشتراكي في الأمم المتحدة وصوت دول عدم الانحياز ما كانت تحقق نجاحات حقيقة. ولذلك أي انشطار في المنظومة الدولية يفيد معاشر المستضعفين. إذا أحسنا اللعب في المناطق الرمادية. هل كان بوسع الثوار الجزائريين مثلا وهم يأخذون السلاح من السوفييت أن يستنكروا احتلال السوفييت أوزباكستان أو يقول لهم لا تضطهدوا إخواننا المسلمين في طاجيكستان؟
إذا كنت ممارساً سياسياً هناك أمور كثيرة تضطر إلى تجاهلها، طبعا لا تستطيع أن تدعم الظلم. لكن لا بد لك من أولوياتك في نهاية المطاف. في السياق إذا لم تظهر توبة نصوح من الغرب من دعم المستبدين واذا لم يظهر تفكير استراتيجي غربي جديد متصالح مع الاسلام ومع الديموقراطية في منطقتنا، إذا القوة الشرقية الصاعدة أفضل لنا بكثير (وهو ما لم يتفق عليه بعض المشاركين).
المجاهرة بالإذن عند القوى السياسية الشرقية أفضل بكثير من النفاق للغرب. كم من مستبد عندنا يستند إلى روسيا والصين وكم مستبد يستند إلى أمريكا وفرنسا مثلا؟ نحن ضحايا أمريكا أكثر مما نحن ضحايا الصين وروسيا. هذا رغم كل مصائب بوتين في سوريا طبعا. لكن سوريا هي دولة واحدة من دول كثيرة في مصائب. فالثاني هو أنه القوة الشرقية أقل خطرا علينا أيضا!
لماذا؟ لأنها لا تملك الأدوات التي يملكها الغرب، الغرب يملك مئتي عام من تراكم اختراق في بلادنا ويملك السياسي والعسكري والاقتصادي والقدرة على اللعب بالأوراق الداخلية. هذا لا تملكه الدول الشرقية. ربما روسيا مخترقة الجيش السوري والامن السوري. لكن كم دولة عربية أخرى تتحكم روسيا في ضباطها وتكون ضباطها أو مخابراتها؟ لا يوجد هذا، بينما أمريكا وفرنسا دول الغرب تخترقنا حتى النخاع. الخطر الغربي من منظور التغيير السياسي وآفاق الديموقراطية، النفاق الغربي والاختراق الغربي عائق أكبر بكثير للتغيير من المجاهرة الشرقية والعنجهية الشرقية.
وهنا يبرز السؤال: هل نموذج المقاومة الأوكرانية نموذج يحتذى؟
لا ليس نموذجا يحتذى. أولا لأنه مفتعل غربيا، وليس قوة ذاتيه. لو نحن كنا حصلنا على دعم غربي في حركاتنا التحررية وفي حركتنا الديموقراطية. كنا سنسعد ونفرح للأوكرانيين ونسير على الخطاب لكن الوضع مختلف تماما حتى اللاجئين بالمنطقة لا يعاملونهم بنفس الطريقة ولذلك لا فائدة من التأسي بأوكرانيا، لأنه ليس مقبولا لنا أصلا التأسي بأوكرانيا أو الحصول على الدعم الذي يحصل عليه الأوكرانيون.
نحو بناء نموذج حضاري للبشرية
في مقابل الرأي السابق، رأى الكثيرون من المشاركين أن النضال والجهاد من المفروض أن يكون هدفه إقامة أنظمة تراعي الشعوب وتحقق الحد الادنى من مطالبها السياسية، وتعدل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهذا لا ينفصل مطلقا عن جهادنا بقضايا جوهرية جدا في بقية حياتنا. يعني مثلا قضية أن الأسرة العربية تنهار أمام نموذج لا أخلاقي مثلا، هذه قضية جوهرية جدا ترتبط بفكرة النماذج الحضارية.
النموذج الحضاري الغربي واحد ينتج نسخاً وأنواعاً وتداعيات في المساحات المختلفة (شرقا وغربا)، ينتج منظومة معرفية غريبة جدا عندنا وكلنا نستهلكها وكلنا ابناءها. لكن الحقيقة أن جذورها الفلسفية ومنطلقاتها الفلسفية هي مفارقة بالتأكيد لمنطلقاتنا وهذه هي القضية الكبيرة.
الحديث عن حرية الشعوب وحقوق الشعوب وتحسين أوضاع الشعوب، رغم أهميته إنما في الحقيقة هو قضية جزئية جدا من الموضوع الأوسع الذي يرتبط بقوى تغيير جذري، قوى تغيير حضاري حتى تذكرنا بالقضية الأكبر بتكامل اجزاء القضية الأكبر هذه.
الاستبداد في بلادنا تسوء احواله والمجتمع تسوء احواله والمعرفة تسوء أحوالها والعمران المادي تسوء أحواله وهكذا وقس على ذلك الوظائف الوسيطة كلها، التعليم والصحة والتكافل والأمن، يعني الحالة الحضارية بمكوناتها المختلفة تسوء معا.
النقطة الأساسية أننا أمام خيارين، لو نظرت من منظور استراتيجي حضاري كبير، قوى التغيير الجذري، إما أن نتجه في اتجاه البناء الحضاري الجديد فعلا، يعني بناء قوة ذاتية مستوحاة بالدرجة الأولى من الرصيد الحضاري للأمة هذه وهويتها ودينها وإمكانياتها على الفعل، وهذا يعني الخروج من عقلية الاستضعاف، كما قال يوسف إدريس قديماً: الإشكال في مصر ليس في الفقر لكن في عقلية الفقر. أنا أفكر كإنسان فقير. وأفكر كمجتمع فقير. أفكر كأمة مستضعفة.
جزء كبير جدا من أزمة الحركة الاسلامية أن مشروعها السياسي منذ قرن يتوقف على فكرة تتمحور حول التموضع طبقا للفراغات المتاحة واللعب في المناطق الرمادية، وفي حالة مستمرة من العجز المكتسب، والتصور دائما أنك يمكن أن تعمل مكاسب قصيرة المدى.
الذي يريد بناء القوة الذاتية، عليه إدراك مقتضيات التدافع والبناء عليه. وهناك أشياء كثيرة جدا على المستوى الاستراتيجي يمكن أن تترتب على هذا الخيار الضخم جدا، يعني ليس انتحار، نحن نتحدث عن خيارات استراتيجية تأخذها قوى فاعلة تبني قوتها على مدى فترة معينة تعرف مقتضيات التغيير الحضاري، على كل مستوى من الفرد والجماعة الوطنية والمنظمات الصغيرة والكبيرة والأمم.
نحن نملك القدرة على ملء الفراغ من ناحية النماذج الحضارية لعدة أسباب، أولها، نوع النموذج الحضاري الذي يمكن أن نطرحه كمسلمين في علاقته بمشاكل البشرية، وهو أقرب ما يمكن أن يقدم حلولا للمشاكل الفعلية التي تعاني منها الأفراد في هذه الحياة.
العنصر الثاني المهم جدا، أن الأمة لديها طاقة هائلة وعبرت عن نفسها في الحالة الثورية، الحالة الثورية تعرضت لضربة قوية لكنها لم تهزم، وهذه طاقة هائلة، طاقة رفض وتمرد هائلة. ويمكن البناء عليها في تغيير الاتجاه كقوة فاعلة تبني تحولات جديدة.
العنصر الثالث، التاريخ، نحن لدينا ذاكرة حضارية عميقة، عندنا تراث تاريخي كمسلمين كأمة مسلمة عندنا مقومات صلبة في علاقتها باللحظة الفارقة التي عليها العالم الآن، وتدفعنا للتقدم.
الحرب الأوكرانية ليس شرطاً أن تكون فرصة ولا تهديد بتعبير مفكري الإدارة الاستراتيجية، هي في الأخير متغير ضخم جدا يحرك حالة تغيير ضخمة، هنا يكون الدور على الأطراف الثورية الفاعلة التي تعمل على تغيير في الأمة، وعندها رؤية وأدوات، وعقلية فاعلة، تمتلك قيادات فاعلة.
يجب أن نعيد تعريف الجهد الثوري الخاص بنا بمقتضيات النضال الأوروبي الذي حدث في العصور الوسطى، وأن نعمل حالة نضال ثوري عربي مسلم بمعطيات واقعنا وأزماته وفرصه وطموحنا كشعوب وعمقنا الديني وهويتنا.
نحن مهيئون جدا أن نطلق أفكاراً عظيمة لأنفسنا وللبشرية، وفكرة الأفكار العظيمة الراقية موجودة عند كل الأمم، ونحن لدينا أفكاراً لا حصر لها. وقبل الثورة في مصر قامت الدكتورة نادية مصطفى والدكتور عصام البشير من خلال مركز الحضارة بمحاولة حصر المشروعات النهضوية في عالمنا العربي والإسلامية، فتم رصد نحو عشرين مشروعاً نهضوياً، والافكار لا تنتهي. فماذا لو أدخلنا عليهم مالك ابن نبي والفاروقي والمسيري وغيرهم؟
نحن لا تنقصنا مثل هذه الأفكار من هذا النوع الراقي، لكن ينقصنا في الأمة أن تكون هناك قوة فاعلة تستطيع ترجمة الافكار لمشروعات تتفاعل مع أرضها وتبني على طاقتها وتقرأ واقعها، وهذا واجب الوقت، وهذا هو الخيار الأنسب، العمل على إنتاج مشروعات مستقلة حقيقية على الأرض تترجم الرؤى النهضوية المشار إليها، وغيرها، وتستثمر الطاقة الثورية الكامنة في تحقيق التقدم المنشود، بدلا من استمرار البحث فيما إن كان يجب أن ندعم هذا الطرف أو ذاك من طرفي الصراع الحادث الآن.