الأزمة الأوكرانية وفشل نظرية الاحتواء المزدوج الأمريكية

 لواء \ محمد قشقوش

 

ارتبطت تلك النظرية بهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية خلال الفترة الرئاسية الأولى من عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما ونائبه جو بايدين (يناير2009- يناير2017)، واستمر ذلك لاحقًا في كتاباتها وأحد محاور برنامجها الانتخابي الرئاسي الديمقراطي حيث خسرت أمام الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وإن ظلت فلسفتها تعرف بنظرية أو استراتيجية كلينتون للاحتواء المزدوج. وكانت النظرية تُعنى باحتواء كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية في آن واحد، على الأقل خلال العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وهنا نلاحظ أن الاحتواء الدفاعي السوفيتي هو احتواء يابسي في مجمله، بينما الصيني هو بحري في مجمله.

ظل الاحتواء الأمريكي الغربي منفردًا ضد الاتحاد السوفيتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، ثم ضد روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي منذ تفككه في ديسمير1991؛ إذ كانت الصين الشعبية خلال تلك الحِقَبْ الزمنية تصنف ضمن مقدمة الدول النامية اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيًا، دون تأثير سياسي فعّال في القضايا الدولية المهمة -خارج مجالها في هونج كونج وتايوان- بما في ذلك قضية فلسطين.

الاحتواء اليابسي للاتحاد السوفيتي

انتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا فى8/9مايو 1945 بانتصار الحلفاء بقيادة الاتحاد السوفيتي شرقًا والولايات المتحدة غربًا، على دول المحور بقادة ألمانيا واستسلامها دون قيد أو شرط، وانتحار هتلر، واقتياد معظم قياداته السياسية والعسكرية إلى محكمة نورينبيرج كمجرمي حرب، وقُسّمت ألمانيا إلى شرقية وغربية بما فيها العاصمة برلين. وهنا وُلد هاجس التخوف من الاتحاد السوفيتي لدى دول غرب أوروبا التي خرجت منهكة من الحرب والخسائر واحتلال معظمها بما فيها نصف فرنسا! بما عُرف بفرنسا الحرة، فكان الاحتواء الغربي بِتَشكٌل منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) حيث أتت التسمية من وجود أوروبا الغربية شرقًا والولايات المتحدة وكندا غربًا في النصف الشمالي من المحيط الأطلسي.

رد الاتحاد السوفيتي باحتواء أوروبي شرقي مضاد بتشكيل حلف وارسو بزعامته، واختيرت وارسو عاصمة بولندا لما عانته في الحرب سواء بالاجتياح الألماني الافتتاحي أو الهجوم المضاد الشرقي الكبير عبر أراضيها المتاخمة لألمانيا والقريبة من برلين. ولكن الناتو فكر في تمديد الاحتواء إلى جنوب الاتحاد السوفيتي؛ فتم ضم تركيا للسيطرة على حوض البحر الأسود، ثم إلى الجنوب الشرقي لاحتواء دول آسيا الوسطى السوفيتية فكان التفكير في حلف بغداد. ونظرًا إلى ضعف إسرائيل الناشئة، فقد تم عرض قيادة الحلف على مصر بعد ثورة 1952، وهو ما رفضه الرئيس عبد الناصر، وكان هذا الرفض أهم أسباب فشل ذلك الحلف، كما كان مولد العداء الغربي تجاه مصر.

بلغت الحرب الباردة مداها بتفكك الاتحاد السوفيتي وورثته روسيا الاتحادية بتداعياته السلبية حيث تفكك حلف وارسو وانضمت معظم دوله إلى حلف الأطلسي الذي انتقلت حدوده الشرقية إلى الحدود الروسية عدا بيلاروسيا وأوكرانيا، وانضم العديد من دول شرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. وزاد من تراجع مرحلة ما بعد التفكك تولي قيادات روسية ضعيفة (بوريس يلسين) وإن اعقبها جيل من الشباب تبادل المواقع الرئاسية العليا للرئيسين بوتين وميدفيديف بتوجه إعادة بناء روسيا القوية عسكريًا واقتصاديًا بخطة طموحة منذ عام 2015، أي بعد عام من اجتياح واقتطاع القرم، ثم الوجود العسكري في سوريا، مما أتاح موضع قدم جوية وبحرية مهمة في شرق المتوسط المفتوح للأسطول السادس الأمريكي، وبديلًا للانزواء في قاعدة سيفاستوبول في أقصى شمال البحر الأسود شبه المغلق.

وفي التوازن العسكري الاستراتيجي، حافظت روسيا على المركز الثاني في القوة العسكرية والصادرات العسكرية -بعد الولايات المتحدة- خاصة الطائرات والدفاع الجوى. واقتصاديًا، طورت من قوتها البترولية والغازية الهائلة، بما مكنها من التحكم في السوق الأوروبية والصينية. وتطورقطاع البيتروكيماويات والأسمدة والآلات ارتباطًا بتطور القطاع الزراعي وخاصة المنتجات الغذائية الاستراتيجية.

الاحتواء البحري للصين

ظلت الصين لعقود طويلة تعاني كلها أو أجزاء منها من الاستعمار البريطاني والياباني وحرب الأفيون؛ لإضعافها في ظل انفجارها السكاني، وظلت معظم القرن الماضي تصنف ضمن الدول النامية حتى ثورة ونهضة حقبة ماوتسي تونج وما تلاها، حيث تزامن الصعود الصيني الرئيس مع التراجع والتفكك السوفيتي والضعف الروسي، وإن ظل التقارب الشيوعي فيما بينهما في وجه الغرب.

ذلك رغم أن الولايات المتحدة -وبدعم بريطاني- هي من هزمت اليابان في جنوب شرق آسيا واضطرتها إلى الانسحاب من منشوريا الصينية وشبه الجزيرة الكورية قبل تقسيمها، وكانت قنبلتا هيروشيما وناجازاكي هما الفصل الأخير لاستسلام اليابان -آخر دول المحور- دون قيد أو شرط، ونهاية الحرب العالمية الثانية رسميًا في 2سبتمبر 1945. ولاحقًا قفزت الصين في التوازن الاستراتيجي إلى المركز الثالث عسكريًا والثاني اقتصاديًا.

كان الموقف الجيوستراتيجي الدولي في بداية القرن الحالي مواتيًا للولايات المتحدة أن تبدأ في مد خيوط الاحتواء جنوب وشرق الصين، إلا أن زلزال 11سبتمبر2001 المفاجئ أربكها (وشيطن) قيادتها وأحرجها أمام شعبها وأصابها (السعار السياسي العسكري)، فغزت العراق وتسببت في انتشار الإرهاب الذي تم تفريخه من القاعدة، ثم كان كان ما سُمي بالربع العربي، ليتم تأجيل الاحتواء الامريكي للصين، وإن زادت عليه أنه يجب جعل القرن الجديد للمحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك) قرنًا أمريكيًا بالاحتواء الصيني من الجنوب والشرق.

بدء الاحتواء الاستراتيجي السياسي والدفاعي للصين

شرعت الولايات المتحدة عام 2007 في تأسيس الحوار الأمني الرباعي (كواد) ضم معها الهند واليابان وأستراليا، ولكنها لاحقًا وفي سبتمبر2021 ارست تحالف (أوكوس) ضم معها بريطانيا وأستراليا، وأخذ الطابع العسكري ببيع 8 غواصات نووية أمريكية متطورة إلى أستراليا وهو ما أثار حفيظة الصين، وزاد التوتر في بحر الصين الجنوبي الذي تراه الصين حوضها وفناءها الجنوبي، بما يحتويه من حساسية هونج كونج تجاه بريطانيا، وتايوان تجاه الولايات المتحدة، خاصة مع زيادة النشاط البحري الأمريكي والبريطاني في خليج تايوان المتاخم للصين، والتدفقات العسكرية البحرية الأمريكية من أسطولها السابع في المحيط الهادي والموجودة قيادته في اليابان على مقربة من بحر الصين الشرقى.

الأزمة الأوكرانية وانكشاف نظرية الاحتواء المزدوج

أثبتت الأزمة الأوكرانية التي بدأت بالحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير 2022 الماضي بوادر فشل نظرية الاحتواء الاستراتيجي الأمريكي المزدوج والمتزامن ضد كل من روسيا والصين، وخاصة في المجالين العسكري والاقتصادي، بل إن تلك الأزمة قد شجعت الطرفين الروسي والصيني لاتخاذ إجراءات لم تكن لتُتًخذ من قبل تلك الأزمة كتوجهات التوسع الروسي على حساب الأراضي والمياه الأوكرانية، أو الإجراءات الاستفزازية الصينية تجاه تايوان وعدم استبعاد غزوها لإعادتها (للوطن الأم) وهو نفس التعبير الذي استخدمه الرئيس بوتين في خطاب 9 مايو الماضي.

وكذلك استعراض الصين للقوة الجوية تجاه اليابان، أو تشجيع كوريا الشمالية على إطلاق صواريخ باليستية تجاه بحر اليابان حيث وصلت مؤخرًا إلى ثماني صواريخ خلال أقل من خمس دقائق!! في سابقة هي الأولى من نوعها في سلسلة التصاعد الكوري، أو توقيع اتفاق صيني أمني مع جزر سليمان جنوب المحيط الهادي في أبريل الماضي.

الاحتواء الأمريكي والغربي المزدوج منذ الأزمة الأوكرانية

أولًا تجاه روسيا: تقلص الاحتواء العسكري إلى مستوى الحرب بالوكالة بإمدادات تسليحية إلى أوكرانيا، تدرجت من الأسلحة الخفيفة إلى الثقيلة، ومن التقليدية إلى فوق التقليدية والسيبرانية، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها جيش نظامي للحرب بالوكالة بديلًا عن الميلشيات المسلحة كما فعلت الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان خلال ثمانينيات القرن الماضي. وانصرف الاحتواء الاقتصادي إلى العقوبات الاقتصادية التي طالت سلبياتها بعض الدول الأوروبية التي تعتمد كليًا أو جزئيًا على الغاز الروسي واضطرارها للدفع بالروبل الروسي بديلًا للدولار، مع توقع تفاقم تلك الأزمة مع قدوم الشتاء.

ثانيًا تجاه الصين: لم يُرصد أي احتواء عسكري أمريكي غربي أو حتى تفعيل لمحور وتحالف أوكوس، بل اقتصر النشاط العسكري على زيادة حجم ومعدلات التدريبات المشتركة مع كوريا الجنوبية واليابان، مع زيادة المرور البحري الأمريكي والبريطاني المتاخم للصين عبر مضيق تايوان، وأيضًا بحر الصين الشرقي. أما اقتصاديا فكان عكس الاحتواء بهدف كسر حدة التوتر ومحاولة إبعاد الصين عن روسيا قدر الإمكان.

نخلص إلى أنه ثبت فشل نظرية (كلينتون) للاحتواء الأمريكي المزدوج لكل من روسيا والصين في آن واحد في أول اختبار لوضع النظرية موضع التنفيذ خلال الأزمة الأوكرانية؛ فقد تقلص الاحتواء لروسيا إلى حرب بالوكالة باستخدام الجيش الأوكراني، مع عقوبات اقتصادية أثّر جزء منها بالسلب على الحلفاء الغربيين. وأدت الأزمة إلى تقارب روسي صيني أجبرت الولايات المتحدة على عدم القدرة على تفعيل تحالفاتها السياسية والعسكرية في (الإندوباسيفيك) الذي سبق أن تناولته النظرية بأنه قرن أمريكي، بل باتت تتحسب لعمل عسكري صيني لضم تايوان (فورموزا) إلى الوطن الأم، وهو ذات التعبير الذي استخدمه الرئيس بوتين عن التوسعات الروسية في جورجيا والقرم وأخيرًا في أوكرانيا، وهو ما قد يدفعه شمالًا صوب فنلندا وبحر البلطيق.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/70776/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M