من الصعب تقدير وتقييم مدي جسامة الأزمة الفرنسية الحالية وتوقع مسارها، لاختلاف تحليلات المراقبين ذوي الخبرة الواسعة، هناك اتفاق بل إجماع علي وجود رفض شعبي واسع ومتواصل لقانون اصلاح المعاشات الرافع لسن الخروج إليه، وهو القانون الذي فجرها، ورفض واسع لأسلوب تمريره، إذ هناك مادة في الدستور (المادة ٤٩/٣) تتيح للحكومة أن تقول لمجلس الأمة، إما قبول هذا القانون دون مناقشة وإما اسقاط للحكومة، وطبعا من المتوقع إن تم اسقاط الحكومة أن يقوم الرئيس بحل المجلس وبتنظيم انتخابات تشريعية جديدة وهناك في المعارضة من يخشي العودة إلي الناخبين، فلم يصوت لإسقاط الحكومة رغم اعتراضه علي القانون، الذي مر دون مناقشة كافية ودون تصويت عليه، وهناك أيضا إجماع – قد يكون ظالما- علي أن إدارة الرئيس ماكرون للأزمة اتسمت برعونة باتت معتادة فجاءت أغلب تصريحاته القليلة استفزازية لتزيد من حدة الأزمة، الخلاف في التحليلات يدور حول تحليل الاحتجاجات وأعمال العنف ومسار الأزمة، هناك يري أن المظاهرات حاشدة و”عابرة الطبقات والأجيال” أي جامعة لناس مشاربها واتجاهاتها وأعمارها مختلفة، وهناك من يري أن المليون أو المليون ونصف الذي يتظاهر مكون من نفس الناس وأن الأغلبية العظمي لا تتظاهر، هناك من يري أن الحشد ضعف مع مرور الوقت ومن يري أنه من المبكر القفز إلي استنتاجات حول استمرارية الأزمة أو انتهائها،
هناك من يري أن أعمال العنف المتزايدة تدل علي ازدياد حدة الرفض، وتنامي تطرف المتظاهرين، وهناك من يري أن هذا العنف لا يدل علي أي شيء فعدد المنخرطين في أعمال التخريب والاعتداء علي الشرطة محدود نسبيا لا يزيد عن عشرة ألاف علي أسوأ الفروض، ينتمون كلهم إلي “البلاك بلوك” وإلي تنظيمات أقصي أقصي اليسار وربما أقصي أقصي اليمين، ولا يوجد أي دليل علي تغيير في سلوك الأغلبية الساحقة للمتظاهرين، وهناك من يري أن أعمال العنف تصب في مصلحة الرئيس لأنها تخيف الغالبية الغالبة من المعترضين ومن الشعب وتظهره كممثل الاستقرار والسلام الاجتماعي الحامي للممتلكات والملكية الخاصة، بل الضامن لسلامة المتظاهرين السلميين، وهناك من يحذر من هذا التحليل والتنبؤ، لأن كل استطلاعات الرأي تشير إلي ارتفاع كبير في نسبة من يتفهم العنف ضد الدولة أو يؤيده، أصبح هذا الرأي رأي أغلبية السكان وأغلبية ساحقة من الشباب، ويتهم البعض الإعلام بمنافقة هذا الاتجاه وتغذيته لارتفاع نسبة اليساريين المتطرفين بين العاملين في مجاله، ويشير بعض الخبراء إلي أن الرئيس – علي عادته في مسك العصا من النصف وفي تصوره أن هذا المسلك قمة الذكاء- له تصريحات ومواقف سابقة تدين عنف الشرطة في حين أن الشرطة ضحية مع عدد محدود من الاستثناءات، ويذكر البعض أن الحزب الحاكم مني بهزيمة ساحقة في الانتخابات التي نظمت في دائرة الأسبوع الماضي، وتقول أغلب استطلاعات الرأي أن خيار حل المجلس ليس متاحا للرئيس أو لأحزاب الحكم، فهي تقول أن حزبي التجمع الوطني (حزب مارين لوبن/أقصي اليمين) وفرنسا العصية (حزب ميلانشون/أقصي اليسار) سيحصلون معا علي ٥٢٪ من الأصوات (٢٦٪ لكليهما) ليسبقا التحالف الحاكم (حزب الرئيس وأحزاب مؤيدة له) الذي لا يحصل إلا علي ٢٢٪ من الأصوات، ويعني هذا أن الرئيس مضطر حاليا وفي المستقبل المنظور إلي التعامل مع مجلس أمة لا يملك فيه أنصاره إلا أغلبية نسبية ما لم ينجح في الاتفاق مع حزب معارض، ولا يوجد حاليا ما يشير إلي إمكانية هذا، فالرئيس لا يتمتع بالمرونة الكافية، ولا مصلحة لأي حزب في تقوية رئيس مكروه من الأغلبية الشعبية. لا نقول أن هذا مستحيل إن قدم ماكرون علي غير عادته ما يسمح لحزب معارض أن يزعم أن المكاسب التي حصل عليها تبرر دعم الرئيس.
إصلا المعاشات
وتقتضي الموضوعية أن نقر أن إصلاح المعاشات كان ضروريا نظرا لعجز المنظومة وتطورات التركيبة السكانية مع ارتفاع نسبة المسنين والتحسن الكبير في أحوالهم الصحية وقلة عدد المواليد، وتأخر الإصلاح كثيرا، وإدارة الكوفيد أدت إلي ارتفاع الديون وبلغت حدا مقلقا، وتقتضي ألموضوعية أن نقول أن الأرجح أن الحوار كان سيؤدي إلي تعطيل كبير دون جدوي لأن فكرة رفع سن المعاش مرفوضة رفضا تاما من الجمهور الفرنسي لسبب معلن – الدولة تسرق منا سنتين من عمرنا- ولأسباب أعمق سنتعرض لها لاحقا، أما اللجوء إلي أسلوب التمرير شبه القسري الذي تنظمه أحكام المادة ٤٩/٣ فأمر خلافي يضعف قليلا شرعية القانون الذي تم تمريره بهذا الشكل ولكنني أعتقد أن المجازفة باتباع المسار العادي كانت مخاطرة الرئيس في غني عنها، وكانت ستضعف موقفه التفاوضي مع حزب الجمهوريين فدون تصويت نوابه لن تكون هناك أغلبية توافق علي القانون، وحاليا يعجز الحزب الجمهوري عن فرض انضباط حزبي علي أعضائه وعدد كبير منهم لا مصلحة له في تأييد الرئيس. وأخيرا وليس آخرا أي تراجع جزئي لم يكن ليؤدي إلي تهدئة خصومه بل إلي فقده لتأييد خمس أو ربع الرأي العام الذي يؤيده
من السهل نسبة الأزمة الفرنسية إلي رعونة أحد الأطراف أو تطرف غيره، أو إلي ضعف الثقافة الاقتصادية لبعض فئات المجتمع الفرنسي، أو إلي سوء أداء النخب، أوإلي تدهور الظروف المعيشية للطبقات الشعبية- وقطعا لعبت كل هذه العوامل وغيرها دورا هاما، شأنها شأن تراكم الضغائن والمشاعر السلبية، ولكننا نميل إلي اعتبار الأزمة فصلا جديدا من فصول أزمة شاملة وممتدة وجذورها بالغة العمق، أزمة هي في آن واحد أزمة نظام وأزمة سياسية وأزمة مجتمع وأزمة اقتصاد وأزمة مالية وأزمة ثقافية، أزمة تطرح بقوة سؤال الأفول ويتطلب حلها والعودة إلي انطلاق شروط لا تتوافر حاليا وعندما يسعي أحد أو بعض الفاعلين إلي إيجاد أحدها يعرقلهم غيرهم.
أسباب الأزمة
مظاهر وأسباب الأزمة لا تعد ولا تحصي. تأملوا مثلا شعار الجمهورية: حرية ومساواة وأخوة، لا توجد لا مساواة ولا أخوة، ثقة الرأي العام في نظامه السياسي وفي نخبه وفي الإعلام في تراجع مستمر منذ سنة ١٩٧٤، أداء الرؤساء لا يحظى برضاء الرأي العام ويمكن اعتباره سيئا في أغلب الأحوال، انهار العامود الفقري الضامن لتماسك وتجانس المجتمع، مستوي التعليم فيما يخص اللغة الفرنسية والرياضيات مزري مقارنة بمستواه في بداية القرن العشرين، منظومة الرعاية الصحية في أزمة، تراجعت مساهمة الصناعة في الناتج القومي، الميزان التجاري يعرف عجزا ويعكس تراجعا، انهارت أحزاب الحكم التقليدية (الاشتراكي والجمهوري) وتحصل القوي الشعبوية والمتطرفة علي أكثر من ٦٠٪ من أصوات الناخبين، الأمن الداخلي نراجع ومعدلات الجريمة ترتفع، ديون فرنسا بلغت حد الخطر، الوسائل التقليدية للصعود الاجتماعي في حالة عطب علي أحسن الفروض، الهرم السكاني ينقلب تدريجيا بسبب ضعف معدلات الإنجاب، الحرب الروسية علي أوكرانيا فضحت مستوي الجيوش الأوروبية وتفرض شأنها شأن التهديدات الجديدة في الساحل والصحراء وفي المحيطين الهندي والهادي زيادات ضخمة في الانفاق العسكري، السياسة الخارجية الفرنسية تجد صعوبات في التأقلم ومسار النظام الدولي ولا يوجد إجماع عليها، العضوية في الاتحاد الأوروبي حماية في جوانب عديدة وقيود تشل في جوانب أخري، مثلا الدولة لا تتحكم في سياساتها النقدية، التحول إلي اقتصاد بيئي وتوفير الطاقة تحديات كبيرة، تتعدد الكفاءات الفرنسية والمواهب الرفيعة للطبقات الوسطي ولكن الكثير منها يهاجر والموجود يعجز عن ترجمة قدراته إلي ما يسمح بنهضة كبري، وباستثناء تراجع البطالة وأداء أحسن من المتوقع أثناء أزمة الكوفيد لا توجد مؤشرات إيجابية، رغم وجود إمكانيات بشرية هائلة ونخبة من كبار الموظفين وأخري من المثقفين تثيران الإعجاب شأنهما شأن قطاعات كبيرة من الطبقات الوسطي.
يؤرخ كل محلل بداية الأزمة متأثرا بميوله السياسية ونوعية الملفات التي تهمه، ويمكن القول أن الكل علي حق إلي حد ما وأن التراجع مر بمراحل، وأن التطورات الاجتماعية وأخطاء السياسيين لعبت دورا كبيرا في هذا المسار، اليمين المحافظ سيقول أن التراجع بدأ مع انتفاضة ٦٨ أو قبلها بقليل، انتفاضة ٦٨ هي انقلاب علي الأنماط السلطوية التي توجد في كل العلاقات الاجتماعية – في البيت والجامعة والمدرسة ومحل العمل وأدوار العبادة والشارع – ودعوة إلي توسيع دائرة الحريات دون أي اعتبار لمتطلبات التماسك الاجتماعي والأمن، وقبل الانتفاضة بقليل بدأ تراجع المنظومتين الكاثوليكية والماركسية (كنائس/مقرات الحزب- مدارس- منظمات شبابية- أندية- مطبوعات) التي كانت تضمن نقل الثقافة من جيل إلي آخر وتقوم بالتهذيب، ومنذ هذا التاريخ تتراجع منظومة التعليم من ناحية ويعمل كل السياسيين علي توسيع دائرة الحقوق وهو أمر نراه محمود في حد ذاته ولكنه أثر علي التماسك الاجتماعي وعلي الإحساس بواجبات تجاه الدولة.
وهناك من يري أن الأزمة بدأت ما بين ٧٣/٧٤ مع “الصدمة البترولية” التي أنهت حقبة تنموية دامت أكثر من ربع قرن، ووفاة آخر رئيس حظي بشرعية لا تناقش فالرئيس جيسكار ديستان فاز بأغلبية شديدة الضآلة، والرئيس ميتران كان مرفوضا من قطاعات واسعة، الخ، وحاليا الرئيس ماكرون انتخب مرتين لا لاقتناع الفرنسيين به بل لرفضهم لمرشحة أقصي اليمين المتطرف مارين لوبن، وعلي عكس الرئيس شيراك الذي انتخب للمرة الثانية بعد انتصاره علي مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبن والد مارين، لم ينتبه الرئيس ماكرون إلي أن انتخابه ليس تفويضا ولا تأييدا لبرنامجه بل انتخابا لأخف الأضرار رغم وضوح الأمر بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة حيث لم يحصل علي أغلبية مطلقة.
وسمعت في مجالس نقدا شديدا للرئيسين ميتران وشيراك -حكما فرنسا ٢٦ سنة- لأنهما بثا خطابا يفهم منه ضمنا أنه من الممكن تقليل ساعات العمل وتخفيض سن المعاش مع رفع الدخول لأن الإنتاجية المرتفعة للفرنسيين ستعوض تناقص عدد ساعات العمل، بينما الحقيقة في ظل العولمة أن مع دخول الصين حلبة المنافسة لم يكن هذا ممكنا، حاول الرئيس ساركوزي تغيير هذا المفهوم ليقول – نعمل أكثر لنكسب آخر- وحقق بعض النجاحات، ولكن هناك نسبة من الفرنسيين تري أن العمل عقاب لا يستحقونه ولكنه ضروري، وتبنت بعض القوي السياسية – أقصي اليسار- خطابا يدافع عن ” الحق في الكسل”.
وهناك من يري أن فرنسا لم تحسن التعامل مع تبعات العولمة وانهيار الاتحاد السوفييتي والوحدة الألمانية، فسعت إلي الحد من حركة المارد الألماني بالإسراع في تحقيق الوحدة الاقتصادية لأوروبا وفرض علي ألمانيا عملة واحدة، ونجح الألمان في فرض شروطهم – انضباط مالي وعملة مرتفعة القيمة- التي تلائم ظروف الاقتصاد الأوروبي وتؤذي الاقتصاد الفرنسي الذي فقد أداة هامة وهي السياسة النقدية، وزاد من الطين بلة التخفيض الكارثي الجديد لساعات العمل الذي أقرته حكومة جوسيان أثناء الولاية الأولي للرئيس شيراك. كل هذا أدي إلي عجز الميزان التجاري وإلي فقدان فرنسا لجزء كبير من قاعدتها الصناعية، ومع ثورة الاتصالات وظهور القنوات الفضائية والانتقال إلي اقتصاد المعلومات وتراجع الصناعة زادت صعوبة إدماج المهاجرين… في الولاية الثانية له لم يفعل الرئيس شيراك إلا أقل القليل لإنه أدرك كما أسلفنا أنه لا يملك تفويضا، وأثناء رئاسته الممتدة حاول مرتين القيام بإصلاحات هامة واضطر إلي التراجع في المرتين
وهناك من يري أن المشكلة في فشل الرؤساء الثلاثة الذين خلفوا الرئيس شيراك في التعامل مع الأزمات الهيكلية منها والطارئة، أزمة الاقتصاد العالمي سنة ٢٠٠٩ وأزمة انهيار الاقتصاد اليوناني وغيرها، ولعب كل منهم دورا هاما – غير مقصود فيما يخص ساركوزي وهولاند- في انهيار أحزاب الحكم في فرنسا وارتفاع أسهم الأحزاب المتطرفة في الشارع الفرنسي، و ضمن أخطاء أخري خفض الرئيس ساركوزي ميزانية وأعداد رجال الشرطة والجيش مما فاقم من حدة الأزمة الأمنية، والرئيس هولاند كان شديد البطء في عملية الإصلاح لأنه كان يدرك حدة أزمة الشرعية والأزمة الاجتماعية، وعجز علي فرض الانضباط الحزبي علي كوادر حزبه الذين سمموا جو رئاسته وعرقلوا كل خطواته، والرئيس ماكرون انتخب انتخابا لا يمكن اعتباره تفويضا، وسعي إلي اسراع كبير في وتيرة الإصلاحات التي تأخرت، وأسلوبه ومنهجه السلطويان وتصريحاته المستفزة للفقراء وتجاهله لضيق قاعدة مؤيديه أدوا إلي انفجار الموقف سنة ٢٠١٨.
.
رابط المصدر: