محمد فوزي
على الرغم من مرور ما يزيد على الـ 11 عام على اندلاع الأزمة الليبية، إلا أن البلاد لم تعرف حتى الآن طريق الانتقال السلمي للسلطة، والخروج من متوالية الحرب الأهلية المستمرة منذ 2011. ومع بعض الهدوء النسبي الذي شهدته الساحة الليبية خلال الأشهر الأخيرة، إلا أن الساعات القليلة الماضية حملت العديد من المؤشرات التي عبّرت عن عودة البلاد إلى الوراء أو إلى ما يمكن وصفه بـ “عسكرة” الخلافات السياسية بين الفرقاء الليبيين.
في هذا السياق، شهدت العاصمة الليبية طرابلس في الساعات الماضية اندلاع مواجهات مسلحة في منطقتي باب بن غشير وشارع الزاوية وسط طرابلس بين قوى مؤيدة لحكومة الاستقرار المفوضة من البرلمان الليبي بقيادة “فتحي باشاغا”، وعلى رأسها الكتيبة 77 بقيادة “هيثم التاجوري”، وما يُعرف بقوات أو جهاز “دعم الاستقرار” بقيادة “عبد الغني الككلي”، وهي القوات المؤيدة للحكومة المنتهية ولايتها بقيادة عبد الحميد الدبيبة، ما أسفر عن سقوط العديد من القتلى، وإصابة العشرات.
وتُشير التقارير الواردة من ليبيا إلى أن المواجهات مستمرة، في ضوء سعي الطرفين إلى السيطرة على المقار الحكومية بالعاصمة طرابلس، وقد صعدت هذه المواجهات من التخوفات بشأن عودة البلاد إلى حالة الحرب الأهلية، والدخول في دوامة عدم الاستقرار الأمني من جديد، وهي الفرضية التي سيكون لها العديد من التداعيات الخطيرة التي ستتجاوز حتى الجغرافيا الليبية.
بوادر التصعيد
على الرغم مما شهدته الساحة الليبية في الأشهر الأخيرة من تراجع نسبي للتفاعلات الصراعية والنزاعات المسلحة، إلا أن المشهد طغى عليه في المقابل حالة التأزم والاستقطاب السياسي، وتعدد هيئات الحكم التي تتنازع الحكم فيما بينها، خصوصًا مع تفويض مجلس النواب الليبي في فبراير الماضي لوزير الداخلية الأسبق فتحي باشاغا من أجل تشكيل حكومة جديدة تقود البلاد، وهي الخطوة التي رفضها رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، والذي أعلن عن تمسكه بالسلطة، واتخذ العديد من الإجراءات التصعيدية ضد الحكومة الجديدة.
وفي ذات السياق، امتدت حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها البلاد لتشمل الجوانب التشريعية؛ ففي ظل الخلافات بين مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة، فشلت جهود ومحاولات بناء قاعدة دستورية مستقرة تُمهد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في ليبيا، بما يضمن تجاوز المرحلة الانتقالية.
ومع التسويف الذي حدث على مستوى إجراء الانتخابات التشريعية في ليبيا والتي كان من المقرر عقدها في يونيو الماضي، بدأت الأطراف المتنازعة في اللجوء إلى القوة العسكرية من أجل فرض رؤيتها. وفي هذا السياق، بادر عدد من القيادات الموالية للدبيبة إلى تفعيل ما كان يعرف باسم “مجلس طرابلس العسكري”، تزامنًا مع تحركات لأرتال تابعة للدبيبة بهدف تأمين مداخل ومخارج المدينة الجنوبية والغربية والشرقية، بالإضافة إلى إغلاق الطرق المؤدية إلى مطار طرابلس المغلق.
وبدأت الميليشيات المسلحة الموالية لـ “الدبيبة” والتي يرأسها عبد الغني الككلي، والتي يُطلق عليها “قوات حماية الدستور”، في التمركز على طريق مطار طرابلس الدولي. ولفتت تقارير إلى أن هذه الميليشيات شنت هجمات استباقية على المعسكرات الخاصة بالمجموعات المسلحة المؤيدة لـ “باشاغا” في محيط العاصمة طرابلس، وذلك كإجراء استباقي ضد أي محاولات من قبل هذه المجموعات لدخول طرابلس، وهي المجموعات التي تشمل الفرقة 77، واللواء 217، وقوات غرفة العمليات المشتركة بالمنطقة الغربية، بقيادة اللواء أسامة الجويلي.
ويُحتم تسليط الضوء على أطراف المواجهات العسكرية التي شهدتها العاصمة الليبية بيان السياق العام في البلاد، والذي أدى إلى الانتقال من مرحلة التجاذبات والصراعات السياسية، إلى مرحلة استخدام العنف، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- الأزمة السياسية: أدت حالة الانسداد السياسي التي تشهدها البلاد في الأشهر الأخيرة، والمرتبطة بشكل رئيس برفض “الدبيبة” لفكرة تسليم السلطة إلى الحكومة الجديدة المفوضة من قبل البرلمان، إلى تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، وزيادة حالة الجمود السياسي. وفي ضوء هذه الأزمة السياسية، سعى كل طرف من طرفي الأزمة إلى استقطاب الفاعلين النظاميين والميليشيات العسكرية المسلحة؛ من أجل توظيف هؤلاء في “لحظة الانفجار” بما يخدم مشروعه السياسي.
2- العامل الخارجي: أحد الاعتبارات الرئيسة التي يمكن في ضوئها قراءة تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، وكذا أوضاعها الأمنية، تتمثل في الدور أو العامل الخارجي؛ فالمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية لم يعترف بحكومة “باشاغا” حتى اليوم، وهو الموقف الذي يمثل دعمًا ضمنيًا لـ “الدبيبة”. ويبدو أن موقف القوى الخارجية في ليبيا يشهد في الفترة الحالية ما يشبه “السيولة” بمعنى أن الأطراف الخارجية تعجز بالأساس عن إحداث أي اختراق للأزمة> وفي أبريل من العام الجاري، أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن ما أسماه “استراتيجية أمريكية عشرية لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار”، وهي الاستراتيجية التي استهدفت ليبيا وعددًا من الدول المأزومة الأخرى، ومع تأكيد هذه الاستراتيجية على دعم جهود إعادة الاستقرار إلى ليبيا، إلا أنها عكست وفق تقديرات أن الولايات المتحدة باتت تنظر إلى الأزمة في ليبيا على أنها صراع ممتد تسعى الإدارة الأمريكية إلى إدارته لا لتسويته.
3- العامل الاقتصادي: تعد ليبيا دولة ريعية، بمعنى أن حكومتها تعتمد في تمويل ميزانيتها بشكل كبير على إيرادات تصدير النفط. ومع إدراك الحكومة منتهية الولاية لأهمية قطاع النفط الوطني، سعى “الدبيبة” إلى السيطرة على المؤسسة الوطنية للنفط، وأصدر في 12 يوليو الماضي قرارًا بإقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، والذي يقود مؤسسة النفط الليبية منذ عام 2015، وتعيين مجلس إدارة جديدة للمؤسسة الوطنية للنفط برئاسة فرحات بن قدارة، الذي شغل سابقًا منصب محافظ البنك المركزي.
وقد أدى هذا التوجه الذي استهدف “الدبيبة” منه زيادة وزنه النسبي، والسيطرة على مورد حيوي واستراتيجي، إلى بدء مجموعات مسلحة في الاحتشاد في العاصمة طرابلس من أجل فرض رؤيتها تجاه إدارة مؤسسة النفط، في مؤشر عكس دخول مؤسسة النفط الليبية على خط الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد.
4- عوامل مركبة: بشكل عام، تشهد ليبيا منذ العام 2011 أزمة عميقة ومركبة ترتبط بشكل رئيس بغياب مفهوم الدولة الوطنية، وأزمة الشرعية والهشاشة التي تعاني منها الحكومات المتعاقبة، فضلًا عن انتشار أنماط وأنواع متعددة من الميليشيات والفصائل المسلحة، التي تكون مصالحها ورؤاها الأيديولوجية هي المحدد الحاكم لتحالفاتها، فضلًا عن أزمة انقسام الجيش وعدم القدرة على توحيد المؤسسة العسكرية للبلاد. ومع هذه الأزمات البنيوية العميقة، وفي ظل عدم وجود أي مبادرات تسوية شاملة للأزمة السياسية في البلاد، تدخل ليبيا بين الحين والآخر في متوالية الحرب، وهي الحرب التي تؤدي توازنات القوى إلى عدم قدرة أي طرف على حسمها، ما يُطيل من أمد عمليات الاحتراب، ويزيد من تداعياتها السلبية على الدولة ككل.
مآلات محتملة
يمكن تلخيص مشهد السابع والعشرين من أغسطس بالقول إن “بعض الميليشيات المسلحة التي طالما طالبت العديد من الأطراف بتفكيكها، حاولت التخديم على رؤية رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبد الحميد الدبيبة، واختطاف العملية السياسية برمتها في ليبيا”، ويبدو أن الساحة الليبية قد تشهد المزيد من التصعيد العسكري في الأيام المقبلة، بل إننا ربما نكون أمام سيناريو أسوأ يتمثل في امتداد المعارك إلى مساحات خارج العاصمة طرابلس، خصوصًا في ظل رهان “الدبيبة” على خيار القوة من أجل فرض واقع سياسي يتسق ومصالحه ومشروعه السياسي.
لكن نتيجة هذه المواجهات سوف تتوقف على بعض المحددات، وعلى رأسها توازنات القوة في ساحة المواجهات، وهي التوازنات التي قد يحسمها موقف الجيش الوطني الليبي –الذي تبنى الحياد حتى الآن– وكذا موقف الفصائل القبلية والاجتماعية. وبالإضافة إلى ذلك سيكون الموقف الدولي عاملًا محددًا لمآلات الأوضاع في ليبيا، وفي هذا السياق يبدو أننا أمام أحد السيناريوهات التالية:
1- يتمثل السيناريو الأول في استمرار التصعيد، واحتمالية تفاقم الأزمة، وتوسع هذه المواجهات لتشمل فضاءات خارج العاصمة طرابلس، خصوصًا مع إدراك “الدبيبة” أن توازنات القوى السياسية الداخلية في المرحلة المقبلة قد تكون في صالح “باشاغا”، والذي يدعمه كل من: مجلس النواب الليبي – غالبية أعضاء المجلس الأعلى للدولة – المجلس الرئاسي الليبي – بعض قيادات النظام السابق – تكتل “المضطرين” الشعبي – هذا فضلًا عن بعض الأطراف الإقليمية. وبالتالي ربما يرى “الدبيبة” أن سلاح العنف والقوة وحسم المعركة ميدانيًا هو الضامن الوحيد حاليًا لإطالة أمد الأزمة واستمرار بقائه.
2- يتمثل السيناريو الثاني في احتواء الأزمة بضغوط وجهود داخلية وخارجية، كما حدث في منتصف عام 2020 عندما تم إنهاء مرحلة تصعيد عسكري كبيرة بجهود الدولة المصرية، لكن هذا السيناريو يواجه عددًا من التحديات المرتبطة بحسابات الأطراف الداخلية وخصوصًا “الدبيبة”، وعدم القدرة على الضبط المحكم لسلوك الميليشيات المسلحة وتفكيكها.
وختامًا، يمكن القول إن الأوضاع في ليبيا بدأت في الانتقال من مرحلة “الاستقطاب السياسي”، والعودة إلى “العنف المسلح”، وهو المتغير الذي يزيد من فترة غياب الدولة الوطنية في ليبيا، وعجز مؤسساتها، ومعاناة اقتصادها، بما يفتح الباب أمام العديد من التهديدات على كافة المستويات في المرحلة المقبلة.
.
رابط المصدر: