سيف إبراهيم
عندما تكون السياسة أعلى من القانون وأسمى من الدستور، فإن هذا ينذر بالفوضى والخراب، ذلك أن السياسي الماسك حينها بالسلطة سيجعل من الدستور أداة لتنفيذ غاياته بما يشاء ويرغب دونما رقيب، ضاربا عرض الجدار كل الثوابت والأعراف، وأبرز غاية من هذا التطويع هو محاولة البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة ولو كان متاحا له يبقى إلى حين فناءه (الحاكم)، وهذا ليس بمستغرب في بلدان العالم الثالث المتخلفة والعراق من ذلك ليس ببعيد.
فعندما تسلّلت السياسة في عراق ما بعد ٢٠٠٣ نحو كل جوانب الدولة أفرادا ومؤسسات، لم يكن القضاء بمعزل عن هذا التأثر، فأصبح تابعا لا متبوعا على غير ما درج عليه الدستور في أنه (القضاء) سلطة مستقلة، استغلال القضاء سياسيا من طرف السلطة الحاكمة كان واضحا في العام ٢٠١٠ وتحديدا فيما يخص تفسير المحكمة الاتحادية بشأن مفهوم الكتلة الأكبر بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية حينها وحصول القائمة العراقية على عدد المقاعد الأكبر، تم الضغط على قرار المحكمة فجاء التفسير بما يقضي على آمال الفائز (القائمة العراقية) ويعيد السلطة إلى أحضان حزب الدعوة بقيادة المالكي ليحظى بولاية ثانية، نعم لقد انتصرت السياسة على القضاء هنا، لكن في ذات الوقت قد خسرنا عراق مستقرا آمنا.
ما لبث العراق يمضي باتجاه التقدم والنمو حتى استيقظنا على سقوط ثلث العراق بيد داعش بين ليلة وضحاها، وهذا لعله آمر متوقع جدا، لأن النتائج غير الشرعي لانتخابات ٢٠١٠ أربكت المشهد السياسي وزادت من حدّة الخلافات والتناقضات داخل المنظومة السياسية وجعل إدارة الحكم غير مستقرة وتشكيل حكومة غير منتجة، فالاختيار كان على أساس الولاء (بناء سلطة لا أكثر)، ولم يكن على أساس الكفاءة والنزاهة والمهنية (حيث مفهوم بناء الدولة)، جل همهما قد كان هو في كيفية إرضاء الفرقاء من أجل السكوت على هذا الخرق الدستوري ومشاركتهم في المغانم.
2018 العام سيئ الصيت أطل برأسه مجددا في انتخاباته، فلم تستطع كتلة الإصلاح بقيادة سائرون ولا البناء برئاسة الفتح، إثبات أنها الكتلة الأكبر القادرة على تكليف رئيس وزراء وتشكيل الحكومة، وظل الصراع محتدما وكل طرف يستند على حجج ومبررات تدعم موقفه لكن دون جدوى، حيث المحكمة الاتحادية ملتزمة الصمت بشكل مطبق، رغم أن الطرفين قد وجها كتب رسمية يطالبانها بإبداء الرأي، وتبقى السياسة حاكمة حيث لا سبب آخر يدعوها للسكوت والتخلي عن مسؤولياتها.
عدم إبداء أي رأي، جعل مشروع عبور المحاصصة وإنهاء التوافق مجرد وهم، فسرعان ما انفرط عقد الكتلتين وتشظّت الكتل، فتم تشكيل الحكومة بالتوافق ما بين سائرون (مرغمة من اجل إيجاد توازن على مستوى مسؤولية الحكم) والفتح تحديدا، لتنهار محاولة التأسيس لمفهوم جديد بإدارة الدولة بين كتلة تحكم وتختار كل الرئاسات الثلاث وأخرى تذهب نحو المعارضة وكل طرف يتحمل مسؤولياته، جعل العراق يعود للخلف مجددا بشكل متسارع، فتشكيل الحكومة بالتوافق مجددا يعني مزيدا من الفساد وضعف إدارة الدولة ووصول المؤيد لا الكفؤ، هي سلطة مغانم وتقاسم حصص ليس إلا، فماذا أنتجت؟! تذمر وسخط شعبي واحتجاجات وصدامات بعد مرور سنة واحدة فقط على عمر الحكومة برئاسة عبد المهدي، والسبب هو ذاته حيث حكومات التوافق تأتي لتحقق مصالح الأحزاب والكتل ولا علاقة لها بالشعب ومتطلباته في شيء.
فما الحل؟ وهل سيتم تكرار السيناريو كما العادة؟! أظن أن الكل قد أتعض والكتل الشيعية قد تلّقت الدرس بشكل قاسي، والعراق أمام منعطف تاريخي بين الوجود موحدا أو ذهابه نحو التقسيم، فإعادة تشكيل حكومة توافقية يعني بشكل جازم أن الشعب سيعلنها ثورة لكنها الأشد والدم عمادها! الحل هو بعودة إنتاج تجربة الكتلتين العابرة للطائفية التي تم وأدها عام ٢٠١٨، فلا جدوى إلا بأغلبية حاكمة وأقلية معارضة حيث الشكل الحقيقي للنظام الديمقراطي بجزأه الانتخابي، فمن القادر على تنفيذ هذا المشروع في المرحلة المقبلة؟.
بقراءة واقعية نستطيع القول: إن التيار الصدري هو القادر على ذلك، لأنه وعلى مر التجارب الانتخابية، من يستطيع مجاراة التيار انتخابيا في الوسط الشيعي يكون على نوعين، الأول هو رئيس الوزراء الطامح لولاية أخرى حيث يدخل الانتخابات بقوة وبذلك يكون على قدر المنافسة مع التيار كما حصل مع العبادي في نموذج كتلة النصر عام ٢٠١٨، وبل قد يتعداه أحيانا فيما لو أوغل في استغلال سلطاته استغلالا غير مشروع وهذا الذي عمد إليه المالكي بتأسيس كتلة دولة القانون ودخول الانتخابات عام ٢٠١٤، أما المنافس من النوع الثاني للتيار، فهي الكتل التي تعتمد في صعودها على متغيرات الأحداث وطرق تعاطيها معه وبالشكل الذي يخدم مصالحها مما يجعلها في مراكز متقدمة على مستوى حصاد عدد المقاعد وهذا النموذج أشبه بمصطلح الفقاعة في الاقتصاد، حيث أن هذا العدد أقرب ما يكون إلى الحالة الاستثنائية صعبة الثبات والتكرار ولا تنم عن الحجم الحقيقي أبدا، وهذا نموذج واضح في تجربة الفتح لعام ٢٠١٨.
لذا، المتغير في الانتخابات القادمة هو على صعيد النموذجين أيضا، حيث تعتبر هذه المرة الوحيدة منذ انتخابات ٢٠٠٦ حتى الآن، التي يتعهد فيها رئيس الوزراء الحالي بعدم تشكيل حزب أو كتلة وبالتالي عدم مشاركته في الانتخابات وبذلك سقط المنافس الأول للتيار، أما المنافس الثاني وهي الكتل التي تتصاعد حظوظها وفقا للأحداث، فقد كانت هذه المرة الكتل المعبرة عن احتجاجات تشرين ولكنها في مدى تنظيمها وخبرتها لا تقارن أبدا بما حققته الفتح في الانتخابات الماضية، مما يعني أنها لن تقوى على تحقيق مكاسب جيدة ولن ترقى إلى مستوى يمكّنها من المنافسة حتى مع الكتل الأدنى من حجم التيار، ومن يعوّل على قلب الطاولة من خلال زيادة نسب المشاركة فهو واهم أشد الوهم، فالترشيح الفردي هو الفخ الذي سقطت فيه الكتل الجديدة، حيث لا قيمة للمشاركة الواسعة ما لم يوازيها تنظيم توجيه الأصوات بشكل يضمن صعود أكثر من مرشح وهذا ما تفلح به الكتل التقليدية صاحبة الخبرة.
هذا يعني أن الفتح بالانتخابات القادمة لن يستطيع الحصول على ذات عدد المقاعد التي حصل عليها في انتخابات عام ٢٠١٨ مما يعني أنه لن يكون منافسا للتيار على تشكيل الأغلبية، وباقي الكتل الشيعية الأخرى ستضعف أيضا، ولأسباب منها عودة زعيمها إلى حجمه الطبيعي بعد زوال السلطة وهذا ما يقصد به كتلة النصر بزعامة العبادي، والسبب الأهم هو ظهور أحزاب تمثل خط تشرين ومسيرات الاحتجاج وهذه ولدت في عمق المحافظات الشيعية مما يجعلها منافسة للأحزاب الأخرى التقليدية وبالتالي ستأخذ عدد مقاعد لا بأس به. بينما التيار الصدري سيبقى محافظا على مكانته وعدد مقاعده دونما تراجع اعتمادا على قاعدته الجماهيرية التي تتميز بالولاء والطاعة لزعيمها السيد الصدر ونوعية قانون الانتخابات الجديد الذي قد يجعل التيار حاصدا لعدد مقاعد تزيد على تلك التي حصل عليها في الانتخابات السابقة.
مما يؤكد أن نواة الكتلة الأكبر ستكون ممثلة بقائمة التيار ومن ثم التحالف مع بعض الكتل من المكونات الأخرى والتي تتقارب في توجهاتها، معلنة الأغلبية السياسية العابرة للتوافق والمحاصصة، حيث يكون التطبيق الفعلي لمفهوم الحكم الديمقراطي والقاضي بحكم الأغلبية وفصل السلطات، وقد يكون المرشح الأبرز لقيادة تلك المرحلة هو السيد محمد توفيق علاوي الذي تم رفض خلافته للمستقيل عبد المهدي ذلك الوقت لأنه أبى أن يكون جزءا من نظام المحاصصة وأصرّ على تشكيل حكومة من اختياره تحديدا دون تدخل الكتل.
رابط المصدر: