محمد محفوظ
خلاصة الدراسة:
إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة..
ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر..
ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد..
فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة..
وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا..
والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني..
لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:
1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله..
2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن..
لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي..
والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي..
3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية..
والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي..
مفتتح:
ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن، تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم.. حيث مستويات التفتيت ودرجات التشظي. حيث الكيانات السياسية الكبيرة وما تسمى بالإمبراطوريات، التي قامت بالقوة واستمرت بالقهر والغصب والإرهاب. هذه الكيانات والتي تمتلك ترسانات عسكرية ضخمة بدأت بالتلاشي. حيث استيقظت كل الوطنيات والأثنيات والقوميات المقموعة خلال السنين المنصرمة وبدأت تبحث عن ذاتها وكيانها وخصوصياتها.
والذي يزيد المشهد قساوة ورعبا، هو تكاثر بؤر العنف الكامنة والصريحة والمفتوحة على كل احتمالات الفوضى وهوس استخدام القوة بلا وعي وبصيرة وعقل.
ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله، واستيقاظ كل التنوعات والخصوصيات، كل هذا من جراء العقلية الاستبدادية والعنفية، التي سادت في مناطق عديدة من العالم، واستخدمت كل قوتها وجبروتها وغطرستها لمحو خصوصيات الأمم والمجتمعات، ولطمس حقائق تاريخية ومجتمعية متجذرة في العمق الحضاري للأمم والأوطان.
– الاستبداد جذر الأزمة:
فالعنف والقهر والاستبداد، هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي، كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغّولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مواضع ومناطق عديدة من العالم.
وعلى هدى هذا نستطيع القول: أن كل الكيانات والوجودات، التي تأسست على قاعدة الوحدة القسرية والقهرية لتنوعاتها وتعدداتها، فإن مآلها الأخير هو التشظي والتفتت، والإمبراطوريتين السوفيتية واليوغسلافية نموذجان صريحان لذلك.
فالوحدة القهرية لا تفضي إلى استقرار مستديم، بل تؤسس لإحتقانات وانفجارات ونزاعات جديدة محورها التداعي والتآكل الوحدوي، واليقظة العنيفة لكل الخصوصيات والهويات المقموعة.
ولا ريب إننا بحاجة إلى حياة سياسية سليمة، تفسح المجال لكل التعبيرات والقوى بدل إقصائها وقمعها، وإلى فضاء عام حر، يساءل الواقع، وينقد الممارسات، ويحاسب المقصرين والمستهترين بالقانون. ونحتاج أيضا إلى مواطنة نشطة تعبر عن آمالها ومصالحها ونفسها بمشاركة سياسية وديمقراطية فاعلة، لبلورة الخيارات والرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية.
والتمييز بكل صوره وأشكاله، والتهميش بمجالاته وآلياته، لا يفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي، وإنما يؤسسان الظروف الذاتية والموضوعية معا لتشظي الواقع، واستيقاظ العصبيات بكل زخمها وعنفها وعنفوانها.
وإن منطق الاستبداد يؤبد الأنظمة، ولا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يفاقم العيوب، ويعمق التوترات، ويفجر الخصوصيات.
وإننا بحاجة إلى تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، يعمق خيار الديمقراطية في واقعنا، ويسعى نحو صناعة حقائقه ووقائعه، ويحارب كل موجبات الاستبداد وحالات التهميش والتمييز، ومواقع النبذ والإقصاء.
لهذا نحن بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الذاتية في المجالين العربي والإسلامي.. وهذا ما نحاوله في السطور القادمة..
– مفهوم الأقليات:
بعيدا عن المضاربات الأيــدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقليات بأنها: التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين ـ المذهب ـ اللغة ـ السلالة). وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر.
فالأقليات هي “أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة. ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة. فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة، وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي. لذلك فإن توصيف جماعة معينة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة. والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات (الدين ـ اللغة ـ الثقافة ـ السلالة) يضفي على مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية ـ اقتصادية ـ حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية” (1).
“والجماعة الأثنية تستخدم في العلوم الاجتماعية، لتشير إلى أي جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية” (2).
وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية.. ” ففي أفريقيا السوداء، التي يناهز تعداد سكانها اليوم (750) مليون نسمة، توجد (54) دولة، وتوجد في مقابلها (2200) أثنية تتكلم بمثل هذا العدد من اللغات. وفي آسيا أكبر قارات العالم من حيث تعداد السكان، يعيش اليوم (5ر3) مليار نسمة، يتوزعون بدورهم على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة ويعتنقون ديانات شتى.
فاندونيسيا مثلا، وهي رابع أكبر دولة في العالم، ويقطنها (215) مليون نسمة، يتوزعون على (300) أثنية وينطقون بـ (365) لغة. والفليبين، بلد الـ (100) أثنية ولغة. ويصل تعداد الأثنيات والأقليات الأثنية في لاوس إلى (70)، وفيتنام إلى (55)، وتركيا إلى (66)، وإيران إلى (21) وبنغلاديش إلى (52) والنيبال إلى (30).
وفي العالم اليوم (188) دولـــة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ولكن هناك في المقابل (8000) أثنية و (6700) لغة.
ولقد أقرت كندا في عام (1988م) لسكانهـــا الهنــــود (850) ألفا يتوزعون بين (600) قبيلة بوضعية ثقافية خاصة، وأفــــردت بندا خـــاصا من قانــــونها الاتحادي (البند 27) لتكريس حق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلية أثنية أو لغوية أو دينية في التمتع بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبممارسة شعائرهم الدينية والتكلم بلغاتهم الخاصة وتعليمها. ولقد أنشأت كندا أخيرا للهنود المعروفين باسم (الأينويت) من سكانها منطقة مستقلة ذاتيا لها برلمانها الخاص وعاصمتها الــخاصة ومدارسها الخاصة، وحتى شــركة طيرانها الخاصة، مع أن تعداد الهنود الأينويت لا يزيد عن (35) ألف نسمة. والسويد أباحت تعليم (265) لغة في مدارسها، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة كالعربية والسريانية والتركية. وأقرت ايطاليا في عام (1999م) قانونا تشريعيا لحماية الأقليات اللغوية، ومنحت وضعية إدارية وثقافية خصوصا لخمس من محافظاتها في جزيرتي صقلية وساردينيا وفي جبال الألب والتيرول” (3).
وإن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلى تمييز وتهميش من قبل السلطات، سيؤدي إلى المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية، وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام.
إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا وبعيدا عن العقلية الأمنية و ممارساتها وهواجسها وأعمالها، فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل.. فـ “ملاحظة التميز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة، وتباينها عن جماعات بشرية أخرى، ينطوي على عنصر ذاتي وعلى عنصر موضوعي. العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه (اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية). أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف. وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى ” (4). فدرجة الشعور بالتميز الذي يؤدي إلى تبني سياسات واتجاهات انفصالية يرتبط بشكل أساسي بطريقة التعامل السياسي والاجتماعي والقانوني مع هذه الأقليات.
فالسلطة النابذة والمستخدمة لكل أنواع القوة المادية الغاشمة لفرض الاندماج وتغييب التميز الطبيعي، تزيد بشكل أو بآخر من فرص بذور مشكلة الأقليات وعقدها الاجتماعية والسياسية.. أما السلطة التي تبحث عن نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات، نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار.
هذا النظام المرن والحيوي، هو الذي يزيل كل التوترات، ويحد من نزعات التهميش والتميز.. بل نستطيع القول: أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح، يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدى المجموعات البشرية، في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر.. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا، اندماجيا، بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة. فالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، يجعل كل المجموعات البشرية، تباشر دورها الإيجابي في الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته السياسية والاقتصادية والحضارية. وهذه المساواة لا تتأتى إلا بتحقيق المشروعية الدستورية والمؤسسية للاختلاف والتنوع والتعدد في الوطن الواحد.
ولا بد من القول: أنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من الاندماج والانصهار الوطني. حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز الخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط وإستراتيجياته المتجهة صوب فرض الانصهار وقهر الخصوصيات الذاتية.
إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة أما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ولعل من الأخطاء الكبرى أن ” تعالج الطائفية كما لو كانت إحدى ترسبات التاريخ الأيدلوجي العربي وتجلياته المرضية، وتفسر بقاءها ببقاء الجهل واستمرار الأميّة، أو تربط أحيانا بينها وبين الوعي الديني بشكل عام. وهي ترى أن الحل الوحيد لها هو مواجهتها بالوعي القومي والعلماني وبالتنوير الفكري والقضاء على من يمكن أن يتهم بنشرها والعمل على الترويج لها. وهي لا تجعل منها إذن قضية كبرى من قضايا التنمية والتطور السياسي و الاجتماعي العربي، وإنما قضية ملحقة بغيرها. وتنظر إلى التهابها الراهن في بعض المواقع كأثر من آثار تراجع الأيدلوجية القومية العربية. فبالتأكيد على هذه الأيدلوجية القومية والدعوة لها ونشرها يمكن في نظرها القضاء على الطائفية، وهذا يعني باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي، وأن هذا النقيض أصبح يعبّر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل، وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متى ما تم التأكيد على الوحدة والشعور القوميين وضرب على يد كل من يسعى إلى استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم” (5).
ولا نبالغ حين القول: أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبرى، كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع. وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول، بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والأثنيات، وغاب التضامن الداخلي على قاعدة المواطنة الواحدة، وبرزت كل النزعات الاستبدادية، التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة على الأطراف الداخلية الأخرى.
ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها، من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي، وتحتاج إلى قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلى بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي. ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول، أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية، كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي.
– نقد العلمانوية:
على المستوى التاريخي، نجد أن علمانية الحركة القومية، وعلمنة مشروع الوحدة، لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها على قدم المساواة في اجتراح دورها في مشروع الوحدة. وعلى المستوى الواقعي، نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي. لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية، لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة. فلا يزال المجال العربي إزاء علمانية مبدونة (إذا جاز التعبير). حيث تمارس الاضطهاد والاستغلال بمضامين موغلة في القدم. فالتجربة العلمانية العربية، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية.. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخرى.. وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها. فتحولت على مستوى التجربة العملية، إلى إضافة جديدة إلى الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا. وهذا يدفعنا إلى القول: أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية، تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة، إلى واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية.
فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البنى السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع.. كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات على أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة.. فالاستبداد والديكتاتورية، هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوى أو طابع طائفي أو قومي محض.وبهذا غابت المواطنية، وسادت البنى الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن..
فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي. وترتكب الدول والمجتمعات أخطاءً فادحة، حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة. والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة، ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الأثني، وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة، هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلى البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة. كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع، فإنها تتشبث بخصوصياتها، لكي تحافظ على مكتسباتها ومصالحها. لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف، هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة، التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع على قاعدة انتماءاتهم المذهبية والأثنية والسياسية والأقوامية.
والقضاء على هذا التعصب والتطرف، لا يتم عبر محاربة الدين وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي عمقت هذا التعصب، وعملت على بناء واقع سياسي على قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية، والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخرى.. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح، هو المسئول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته.
وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة.
ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في المجالين العربي والإسلامي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع. من دون هذا سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية.
وحينما نلح ونصر على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة، أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات، وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة. ولا يمكننا الوصول إلى ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة، والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها.
فإننا نقف بقوة وحسم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد كل محاولات التجاهل والظلم والتعسف والتعدي على الحقوق تحت أي مبرر كان. فالوحدة الوطنية الصلبة، لا تبنى على أنقاض تجاهل حقوق الأقليات بل إننا نرى أن بوابة الوحدة الوطنية، هو أن ينال المجتمع بكل قواه ومؤسساته وفئاته الحرية اللازمة للتعبير عن آماله ومطامحه، وإدارة شؤونه بما ينسجم ومصالحه العليا.
وعندما ينال المجتمع حريته، وتتعمق في فضائه الممارسة الديمقراطية، تزول كل هواجس الخوف، وتضمر كل نوازع الاستقلال الذاتي والانفصال. فالديمقراطية بكل آلياتها ومؤسساتها ومقتضياتها، هي التي تعمق خيار الوحدة الداخلية، وتبنيه على أسس متينة وقواعد حضارية صلبة. فالتعدد الثقافي واللغوي في سويسرا (حيث هناك ثلاث مجموعات ثقافية ـ لغوية كبرى) لم يمنعهم من بناء وحدة داخلية حضارية تعطي لكل مجموعة حقوقها دون أن تنحبس وتنعزل هذه المجموعة عن المحيط العام ومتطلبات الوحدة الوطنية. كما أن الديمقراطية الهندية، هي التي سمحت لأربعين جماعة ثقافية ـ لغوية، من بناء دولة مقتدرة ومجتمع ديمقراطي يمتلك تجربة تاريخية متواصلة في الحرية والتسامح بين المجموعات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع الهندي.
فالتعدد والتنوع لا يمنعان الاندماج والوحدة الاجتماعية والوطنية.. الذي يمنع كل هذا هو الاستبداد وغياب العدالة والمساواة. فلو توفرت الديمقراطية وتجسدت العدالة السياسية والاقتصادية، فإن الاندماج والوحدة الداخلية تكون متحققة من جراء ذلك..
– العدالة سبيل التعايش:
ولا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد، إذا لم تسود قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات.. فالظلم بكل صوره وأشكاله، يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها. ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة، بدون عدالة، تلغي كل حالات التهميش والتمييز، وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء، وتحافظ على كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة.
والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني:
1) نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء، واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه. فحقائق التنوع بشكل مجرد لا تهدد الوحدة، ولا تلغي حالة التعايش، ولكن الذي يهدد الوحدة الاجتماعية والوطنية، ويلغي مستويات التعايش في الدائرة الوطنية، هو التأسيس الظالم على هذه التنوعات، عبر ممارسة كل أشكال التمييز ضد كل تنوع أو تعبير.
فالذي يهدد الوحدة، هو التمييز والتهميش والإقصاء. ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة، إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات. وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية، وذلك لأن السماح إلى المغرضين إلى تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزأ لا يتجزأ من الوطن والأمة، يعد وفق كل المقاييس تعريض كل مكاسب الوطن ووحدته الداخلية للكثير من المخاطر والأزمات. لذلك فإن رفضنا ونبذنا لكل أشكال التمييز والتهميش، لحرصنا الدائم على التعايش السلمي والوحدة الوطنية.
2) تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بفعل انتماءها العقدي أو الاجتماعي أو السياسي. إن مقتضى العدالة، أن تكون جميع الفرص متاحة للجميع والأكفأ هو الذي يتحمل المسؤولية , فلا عدالة حقيقية إذا منعت بعض المواقع عن بعض الفئات والشرائح، كما لا تعايش حضاري بين التنوعات، إذا سادت عقلية الاستثناء والإقصاء لأسباب لا تنتمي إلى عالم العدالة والحضارة والإنسانية.
3) صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية، فلا يكتمل عقد العدالة، إلا بالعمل على صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية، عبر مؤسسات وقوانين دستورية، تتجاوز استقطابات اللحظة، وتؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الأقليات كسبيل لتوطيد موجبات الوحدة الوطنية والاجتماعية.
4) تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه. وذلك لأن الداء الأكبر الذي يعرقل الاصلاحات ويعمق الفروقات الأفقية والعمودية في المجتمع، هو الاستبداد. ولا يمكن أن تحترم أقلية ما في ظل نظام سياسي مستبد. فلا بد من إرساء دعائم الديمقراطية على المستوى السياسي وتطوير وتوسيع بنية النظام السياسية والاجتماعية، حتى تتسنى الظروف المفضية إلى صيانة حقوق الأقليات ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن وتطوير الأمة. وإن تذويب الفوارق التقليدية المتوفرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يتطلب تأسيس الممارسة الديمقراطية التي تعلي من شأن القيم الإنسانية، ويتم تجاوز كل الحواجز التي تحول دون التلاحم الوطني المطلوب. ولمؤسسات التعليم والإعلام أدوار ووظائف رئيسية في هذا المجال.. بمعنى أن المناهج التعليمية في مختلف المراحل المدرسية وكذلك البرامج الإعلامية والثقافية بحاجة دائما إلى إبراز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، والابتعاد التام عن كل ما يجرح أو يشين بفئة أو شريحة في المجتمع.
فمؤسسات الديمقراطية وأطر وأوعية المشاركة في الشأن العام، هي القادرة على تذويب الفروقات التقليدية. بمعنى هي القادرة على إزالة كل عناصر التوتر والتأزم بين الفروقات التقليدية.
– الحرية تعني غياب الإكراه:
فالمعنى البسيط والمباشر للحرية، يعني حرية الاختيار. ولا اختيار حر في ظل الإكراه. لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه على المستويات كافة. بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة، التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية.
وعلى المستوى التاريخي كان تطور مفهوم الحرية على الصعيد المجتمعي، هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية، وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتبار القمع والإكراه والعنف، وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع. وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء، وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع.
إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة، كما أنه لا عدالة ثقافية، إذا لم تعطى الحرية لكل القوى والوجودات، لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية. فالعدالة لا تتأتى إلا بتوافر الحريات العامة على نحو حقيقي ونوعي.. فهي (الحريات بمعناها الشامل والمتكامل)، هي التي تنتج العدالة.. وإن الحرية هي التي حركت في نماذج تاريخية ومعاصرة عديدة، الأقليات أو زعامات وقيادات تاريخية تنتمي إلى الأقليات في مشروع الدفاع عن الوطن والأمة.
فالحرية هي التي توفر المناخ الطبيعي لتجاوز كل الحساسيات واستيعاب كل الأطياف والقوى في مشروع الأمة الجامعة والوطن المشترك. وبدون الحرية (أي مع سيادة الاستبداد) تنمو العصبيات، وتبرز الأطياف والخصوصيات وتتطلع إلى بناء كيانات خاصة بها. لأن مشروع الاستبداد همشها ومارس التمييز بأقسى صوره ضد وجودها وتطلعاتها المشروعة.
إن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة. وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية مفادها: أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية، يتطلب إعطائها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي، ولمساهمة ثقافتها الــراهنة في صياغة واقعها الخاص. حينذاك (أي حينما تمنح الأقليات الحرية)، سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية. فطريق الوحدة يمر عبر الحرية فلا وحدة بدون حرية، ولا اندماج بدون قانون ودستور يحمي خصوصية الأقليات الدينية والثقافية.
وهذا لا يعني التشريع للكيانات الخاصة والدويلات الضيقة، وإنما نعتبر هذه الكيانات وليد طبيعي للاستبداد والديكتاتورية. لذلك فإن المطلوب احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، لأنها الطريق الحضاري لخلق وحدة في الاجتماع السياسي.
– الحرية بوابة الوحدة:
لكي ترتفع الأقليات والاثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة.
ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة.
وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة، وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض على هذه المشكلة، ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد، يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة.
وإنما أدى خيار الديكتاتورية والقمع، إلى مسلسل رهيب من التهميش والتمييز على مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والأثنيات.
وفي المقابل وأمام هذه الهجمة الشرسة ضد هذه الكيانات، مارست الأخيرة عملية انكفاء وانعزال من اجل الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية.وفي المحصلة النهائية كان الوضع عبارة عن قمع وتهميش وتمييز وإلغاء تمارسها مؤسسة الدولة تجاه هذه الوجودات، لتذويبها بالقوة والقهر في الدائرة الوطنية أو القومية الغالبة، وممانعة مستميتة من قبل هذه الوجودات، ألصقتها بخصوصياتها وشخصيتها التاريخية وانغلاق تام في الدائرة الخاصة. ومن جراء هذه المسألة لم ينجز مشروع الأمة الواحدة، ولم يتحقق الإجماع والوحدة الوطنية على قاعدة طوعية واختيارية.. وإنما جعل المسألة الوطنية في خطر عظيم ودائم من جراء هذا الخيار المتخلف في التعامل مع مسألة الأقليات والاثنيات والقوميات المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي.. فالاستبداد فاقم المشكلة، والقهر عمقها وأضاف لها أبعادا جديدة، والتهميش والتمييز المقصود، حرك كل الكوامن والخصوصيات باتجاه المزيد من التشبث بها والالتزام بمقتضياتها.
وهذا يعني أن الديكتاتورية والاستبداد، لم يدفع هذه الدوائر إلى مصاف الأمة الواحدة، كما أنها لم تشعر بالاطمئنان التام تجاه كل شعار ومشروع وحدوي، تقف وراءه مؤسسة مستبدة وديكتاتورية عسكرية أو سياسية. وذلك لأن هذا المشروع الوحدوي، يخفي في واقع الأمر صراعا أقلويا وعصبويا، يتجذر ويتعمق في وسط الأمة بيافطة وحدوية وتوحيدية..
والمشروع الوحدوي الذي يستند على الديكتاتورية والاستبداد، يفضي إلى المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة.
لأن الوحدة الوطنية أو القومية، لا تنجز على قاعدة إفناء التنوعات الداخلية، وإنما عبر توفير الحرية لها، ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة.. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخرى، باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوى المعارضة للوحدة، انتهى المطاف إلى إقليمية ضيقة، لا يرى إلا الإقليم القاعدة، ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي. لدرجة نستطيع القول فيها، أنه لا يوجد قطر من الأقطار العربية، من يتعاطى مع مشروع الوحدة من موقع الجدية والخطوات المرحلية الدائمة الموصلة إلى هدف الوحدة.. وإنما يتم التعاطي مع هذا المشروع كشعار يخفي المصالح والمطامع الإقليمية، ولتبرير وتسويغ واقع الحال.. فالوحدة سيرورة تاريخية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والاقتصادي والنفسي، وهي بحاجة إلى عمل يتراكم مع بعضه البعض، لكي تخلق الحقائق والوقائع الوحدوية الموصلة إلى مشروع الوحدة الشاملة. ولكن وبفعل النزعة الشوفينية والعدمية لمشروع الوحدة الشاملة، نجد المفارقات العجائبية. خطاب وحدوي مركزي، ووقائع قطرية ضيقة، عاطفة جياشة تجاه الوحدة، وواقع يتم تبريره وإسناده مضاد للوحدة وموغل في الدوائر الضيقة، شعار وحدوي يتطلع إلى الوحدة بشوق وشغف، ومسيرة التجزئة وشرعيتها تأخذ مسارها في الوجود والممارسة.
لذلك نستطيع القول: أنه ليس كل خطاب وحدوي، يوصل إليها، بل على العكس من ذلك في كثير من الأحيان.. الخطابات الوحدوية (على المستوى الفعلي) تعمق الفروقات القطرية، وتتعامل مع واقع التجزئة من موقع استراتيجي، ينشد إبقاء الأمور على حالها.
لذلك فإننا بحاجة أن نعيد النظر في مشروع الوحدة، بمعنى أن التجارب والممارسات خلال الأربعة عقود الماضية، أوصلتنا جميعا إلى طريق مسدود في مسألة الوحدة. ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول، أن جذر الإخفاقات ليس في العوامل الخارجية التي وقفت ولا زالت تقف ضد مشروع الوحدة، بل في العوامل الداخلية، التي هي بحق المعوق الأساس والجوهري لهذا المشروع. ولعلنا نكثف هذه العوامل الداخلية في محور واحد هو: العلاقة بين مشروع الوحدة والاستبداد.
والتجارب الوحدوية الفاشلة، التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة، كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها، هو في اعتماد هذا المشروع على ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري.
كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية على سلطة مستبدة، لا تنجز الوحدة، بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة. فالاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية.
ولا نبالغ حين القول: أن من الأخطاء التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها مشاريع الوحدة والتوحيد في مجالنا العربي والإسلامي، هو اعتمادها عسكرتاريا ديكتاتورية ونخبة سياسية مستبدة لا ترى إلا بلون واحد ولا تتعامل إلا بعقلية ضيقة، صحرت الواقع الاجتماعي، وأفقرت العمل السياسي والمدني، وخلقت الحواجز النفسية والفعلية الكبرى التي تحول دون الوحدة والتوحيد. لذلك لم نجن من هذه التجارب والممارسات إلا المزيد من التشظي والتجزئة والتشرذم.
وكمون قيمة الوحدة في قاع الوعي والعاطفة، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات فوقية وشكلية لانجازها. لأن الخيار الخاطئ يفاقم العقد، ويبرز إشكاليات جديدة، تزيد من أزمات وعقبات مسيرة الوحدة.
كما أن الميل التاريخي نحو الوحدة والتوحيد في المجال العربي والإسلامي، من الضروري أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا خلق آليات مناسبة، تدفع هذا الميل التاريخي نحو مسيرة تصاعدية، إيجابية، تتجاوز مناخات الواقع السيئة. فالأزمة دائما ليس في قيمة الوحدة وإيجابياتها وآفاقها الكبرى التي توفرها على مختلف الصعد، بل في الطريق الذي تنتهجه النخب للوصول إليها..
– الحرية شرط تجاوز الطائفية:
الحقائق التاريخية عنيدة، ومشروع الوحدة لا ينجز على أنقاضها. حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي.. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة، لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق، وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها، حتى تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد.
فالمشترك الوطني، لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية، وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية، تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي.
واحترام الأقليات وإعطاءها الحريات اللازمة يعني:
1. فسح المجال القانوني والاجتماعي والسياسي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعا، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام و القانون. وحينما لا تتوفر هذه الحرية، لا يعني انعدام ممارسة الشعائر، بل يعني أن الأقليات ستبحث لها عن طرق وأساليب أخرى لكي تمارس شعائرها وطقوسها.
2. فسج المجال الثقافي والسياسي، لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية. إذ أن لكل جماعة بشرية خصوصيات ثقافية. قمع هذه الخصوصيات، لا يفضي إلى وحدة، بل إلى أساليب جديدة، تمارس هذه الأقليات من خلالها خصوصياتها الثقافية.
لذلك فإن المطلوب دائما، أن لا تقمع ثقافة الأقليات، أو يتم التعامل معها بفوقيه واستعلاء.. المطلوب الحرية بكل آفاقها ومتطلباتها للثقافة والخصوصيات المعرفية لكل جماعة بشرية.
3. الشراكة السياسية والاقتصادية، حتى تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه.
والشراكة السياسية والاقتصادية، تقتضي تكافؤ الفرص، وفسح المجال للجميع بعدل للمشاركة في الإدارة والتسيير.
لهذا نستطيع القول: بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز، والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة، ووجود عقد اجتماعي ـ سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات، حتى تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران.
فالاستبداد والتمييز، لا يخلقان وحدة واندماجا، وإنما تحاجزا وانفصالا عميقا بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الساحة. ولذلك فإنه لا شراكة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي مع وجود الاستبداد السياسي، وذلك لأنه يفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي والفاعل. فالشراكة السياسية والاقتصادية، تتطلبان تفكيكا متواصلا للبنية الاستبدادية، حتى يتسنى للجميع وعلى قدم المساواة المشاركة في إدارة الشأن العام وتطوير الوطن وعمرانه وتنميته على مختلف الصعد والمستويات.
وبكلمة: إن العدل السياسي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالات، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة، لإنجاز مقولة الشراكة السياسية والاقتصادية لكل القوى والأطياف في البناء والإدارة والتسيير.
– الحرية طريق المواطنة:
إذا توفرت الحرية والعدالة، توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي، الذي يحافظ على الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل. فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة. فلا مواطنة بدون حرية وعدالة، فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته، والمدافع عن ثغوره وحدوده، وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره. فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه، لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي، وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع، وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه. لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية.
إن هذه القيم والمبادئ، هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق. وبدون هذه القيم، تضيع المواطنية،و إذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن.لذلك لا وطن عزيز بدون مواطنية عزيزة.
وإذا توفرت الحريات العامة، فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته. وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن. ويخطأ من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة، هي القادرة على خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلى الوطن.
إننا ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هو الكفيل بتعميق حس المواطنة الصالحة. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز.
فالحرية وحدها هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة، وبدونها تتحول كل المشتركات عوامل للجمود والتخشب والبعد عن الحيوية والفعالية في كل مجالات الحياة. وإن المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، دفع ثمن تهميش أقلياته وممارسة أقسى أشكال التمييز تجاه هذه الأقليات. حيث الحروب العبثية، التي أهدرت الكثير من الطاقات والثروات، والتدخلات الأجنبية السافرة في مصالح واستراتيجيات هذا المجال، حيث وجدت في سياسة التمييز والإقصاء الأرض الخصبة لإرباك الساحات الداخلية للعرب والمسلمين. والمحصلة النهائية لكل ذلك الشعور بالضياع وضمور الحس الوطني الصادق، والبحث الشره على المصالح الضيقة، حتى ولو كان ثمنها حرية الوطن واستقلاله.
ولا نعدو الصواب حين القول، أن جذر هذه الأزمة هو الاستبداد السياسي الذي يلتهم كل فعالية، ويقمع كل أمل وحيوية، ويزدري من كل تطلع وطموح.
فالاستبداد يدمر الأوطان ولا يحفظها، ويمتهن كرامة المواطنين، ويدوس على مقدساتهم وتطلعاتهم.
وحدها الديمقراطية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.
فالاستقرار السياسي والمجتمعي، يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة الوطن وعزته.
والمواطنة التي نراها شرط إنجاز الحرية على الصعيد المجتمعي، ليست شعارا يرفع أو يدّون في الأنظمة الإدارية والإجرائية، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، تدفع باتجاه تنمية مشاركة المواطن في قضايا وطنه المختلفة.. “ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف. كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها” (6).
فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن، وقدرة كل مواطن إلى الوصول بكفاءته إلى أعلى المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته، هو الذي يثري مفهوم المواطنة، ويجعل إنجازه مرهونا إلى حد بعيد إلى الحرية والديمقراطية. فلا مواطنة حقة بدون ديمقراطية سياسية، تعطي لكل المواطنين حق المشاركة والتعبير والاجتماع والتنظيم والإدارة. فطريق المواطنة بكل متطلباتها وشروطها، يمر عبر الديمقراطية، فهي التي تحقق مفهوم المواطنة، وبدونها نبقى سديما بشريا لا يشترك في تقرير مصيره، ويمارس عليه كل أنواع التمييز والتهميش.
ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق، هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات. إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة، وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية، دون أن تنبري قوى نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة، تسعى نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي.
ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج، إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله (ص) لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: ” وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء)، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته” (7).
فسبيل المواطنة الصادقة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا.
ومواجهة تحديات الخارج المختلفة، لا تتم عبر قهر الناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم،وإنما على العكس من ذلك تماما. فمواجهة تحديات الخارج، تتطلب انبثاق قوة وحدوية وتوحيدية في داخل الوطن، تأخذ على عاتقها تجميع الطاقات وبلورة الاستراتيجيات، والاستفادة من كل القدرات والإمكانات. وهذه القوة الوحدوية، لايمكن أن تبنى على قاعدة القهر ومصادرة الحقوق والحريات، وإنما على قاعدة صيانة الحقوق والكرامات، ومأسسة الحريات. إن هذه القاعدة الحضارية، هي التي تفشل كل عمليات ومحاولات الاختراق للجسم الوطني، وهي القادرة على إفشال كل الرهانات التي تسعى إلى تجزئتنا وتفتيتنا وانقسامنا.. ” والديمقراطية بهذا المعنى هي تعظيم لقدرات المجتمع وتحصين له ضد الانفجارات الداخلية والاختراقات الخارجية.
روح الديمقراطية، مثل روح الفيدرالية، لا تكمن في الآليات الشكلية بقدر ما تكمن في معنى تعظيم المشاركة وتعظيم الاستفادة من قدرات كل التكوينات الاجتماعية – ـ الاقتصادية، دون قهر أو استغلال من إحدى هذه التكوينات للتكوينات الأخرى. فليست الديمقراطية الليبرالية، مثلا، هي الشكل الأوحد أو الأنسب لكل الأقطار في كل الحالات. ولكن الأنسب والأمثل هو إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء كل الجماعات الإثنية للمشاركة في إدارة مجتمعهم، وفي إنتاجه، وفي خدماته” (8).
والمجتمع الاستبعادي والمغلق، لايمكن أن تنمو في محيطه قيم الديمقراطية والتسامح، وذلك لأنه يستند على نظام اجتماعي مغلق، يحارب كل محاولة نحو الانفتاح والتواصل، ويقف موقفا مضادا من كل عمليات إعادة بناء المجتمع على أسس ومعايير جديدة..
والمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية..
إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.
وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.
ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.
فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن “الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة، والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني” (9).
مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولاعلاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.
وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة. فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.
وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.
فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.
إن الاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.
فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.
………………………………
الهوامش
(1) د. سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 18، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992م.
(2) المصدر السابق، ص 23.
(3) جريدة الحياة اللندنية، العدد (13923)، الأحد 29 أبريل / 2001م، مقال الاعتراف بحقوق الأقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه. جورج طرابيشي.
(4) تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، مصدر سابق.
(5) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 6، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.
(6) مجلة المستقبل العربي، العدد (264)، (2/2001م). مركز دراسات الوحدة العربية، ص 118. دراسة الدكتور على الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية.
(7) الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء (19)، ص 110 ـ 111، الطبعة الثانية، مؤسسات الوفاء، بيروت 1983م.
(8) تأملات في مسألة الأقليات، ص 237، مصدر سابق.
(9) عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية ـ الكتاب الثالث، ص 15، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.
رابط المصدر: