بقلم : سِوار مصطفى كميل – باحثة في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية، فلسطين
مقدمة :
في الواقع يعتبر مصطلح الأقلية من المصطلحات المعقدة والحديثة في العلوم السياسية وذات الأمر منطبق على كل مصطلح مرتبط بهذه الفئة. فاختلاف السياق والظروف والتجارب الخاصة بالأقليات كان سببًا وراء عدم إجماع الباحثين حول تعريف محدد لها. أما ظهور مسألة الأقليات تفاقم لتعرضها للاضطهاد والمجازر وفق مستويات متفاوتة فيتناسبان بعلاقة طردية أسفرت عن ظهور مسألة التوظيف السياسي من قبل القوى الدولية لتحقيق مصالحها، وعلى النقيض تماماً قد وفرت هذه القوى الحماية للأقليات في تجارب عدة.
إنّ التّحديد العلمي الدّقيق لمصطلحات ومفاهيم البحث، هي أولى الخطوات المتوجب على الباحث العمل عليها عند المباشرة بالبحث. وينبع اختلاف الحاجة العلمية، من قدم مصطلحات البحث واختلاف الباحثين حول ماهية أطرها ومضامينها. كذلك فإنّ الأمر ينطبق على موضوع الأقليات بشقيها الدينية والقومية التي لم تحظى بإجماع حولها ولا تحديد مصطلحاتها نظراً لأمرين: حداثة تداول موضوعها، وزيادة الاهتمام بموضوع الأقليّات في سياسات الدول العظمى والإقرار بحقوقها في المنظمات الدوليّة.
ورغم كثرة تعريفات الأقليات، فقد تم نقدها؛ انطلاقاً من أنّ تلك التعريفات ليست وافية لتحديد المعنى الحقيقي والعلمي لوصف من ينطبق عليهم مفرد الأقلية. فالأمر راجعٌ لاختلاف ظروف وطبيعة معاملة الدول للأقليات، إضافة للسياسة التي تتبعها ذات القوى لتحقيق مصالحها.
حيث تتجلى المشكلة البحثية في محاولة تفسير مفهوم الأقلية، وعلاقتها بالمصطلحات الأخرى المتعلقة بالأقليات؛ باعتبار أنها تعرضت للاضطهاد والتوظيف السياسي. فتوصلت الدراسة إلى الأسئلة البحثية والتي أهمها: ماذا يعني مصطلح الأقلية من حيث مضامينه ومعايير تصنيف الأقليات وأنواعها؟ وما هو الاضطهاد وحالاته التي طالت الأقليات؟ وماذا يعني التوظيف السياسي وكيفية توظيف الأقليات في السياسات الدولية؟
وتتمثل الأهمية العلمية في محاولة الباحثة حصر تعريفات الأقلية وربطها ببعضها إضافة للتركيز في الأدق منها، وأما العملية فقد عالجت فيها الباحثة تأثير مسألة الأقليات على أمن واستقرار الدول من حيث الإيجاب والسلب.
أولاً: مفهوم الأقلية وأنواعها ومعايير تصنيفها:
يتلخص مفهوم الأقلية في أنها مجموعة قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية تختلف عن مجموعات أخرى في دولة ذات سيادة. أما الأبعاد السياسية لمفهوم مصطلح الأقلية فتتمثل في اعتبار الأقلية ظاهرة ثقافية بمقومات لغوية أو دينية أو عرقية مشتركة مما يجعلها متعددة القوميّات. وهذه المقومات المشتركة تشكل الوعي لدى الأقلية فيحقق لها التضامن الداخلي والتمايز الخارجي ويكون ذات الوعي ناتج من التحيز ضدهم. وأنّ انتماء الأقلية يكون مدفوعاً بالمصلحة باعتباره متغيراً وليس جامداً؛ لصعوبة فصل عناصر الاختلاف عن الواقع السياسي.
في واقع الأمر فإنّ تعدد مصطلحات الأقلية أسبابه متعددة، وهي: الطابع المتغير للأقليات؛ لأسبابٍ سياسية أو جغرافية أو تاريخية. كذلك حساسية مصطلح الأقلية لدى الدول والإجراءات السياسية المتخذة ضدها، إضافة للاختلاف في تحديد طبيعة مسالة الأقليات باعتبارها إما طبيعية أو سلبية تؤثر على الأمن القومي للدول.
فعليه قد تم تحديد أربعة معايير في تصنيف الأقليات، وهي المعيار المعتمد من قبل الباحثين وهو المعيار العددي: فيرى معتمدوه أنّ عدد الأقلية مقارنة بعدد أفراد المجتمع هو من يفرض تصنيفها كأقلية. وعلى نقيضه، يأتي معيار الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتمثل في عدم الاكتراث لعدد الأقلية فحسب، بل في الاعتماد على المشاركة السياسية في صنع القرار، ولاحتلال مكان مميّز في السلطة. والمعيار الموضوعي فيهتم بالخصائص الموضوعية للأقلية وهي مجموعة من الأفراد داخل الدولة تختلف عن الأغلبية من حيث الجنس او اللغة أو العقيدة اختلافاً تاماً. والمعيار التوفيقي فيعرف الأقلية بأنها: مجموعة مواطنين مضطهدين يختلفون عن رعايا الدولة من حيث العدد والجنس والدين ويطمحون للحماية الدولية.
بالرغم من طبيعة وأهمية الأقليات فإنها تتوزع على أنواع أهمها: الأقلية الدينية والمذهبية حيث يكون عنصر الدين هو الفارق ما بينها وبين الأغلبية. أما الأقلية القومية: فتعني جماعة من الناس تؤلف بينهم وحدة اللغة والتقاليد الاجتماعية والأصل والثقافة فتعتبر نفسها أمة قائمة بذاتها. يليها الأقلية اللغوية المتمثلة في الاختلاف في مجال اللغة واللسان بين الأقلية والأغلبية، فتتجلى مطالبهم في الحفاظ على لغتهم الأصلية واعتراف الدولة بها كلغة رسمية. والأقلية الإثنية: هي جماعات مشركة بخصائص ثقافية غير قابلة للتغيير، وترتبط هذه الخصائص بروابط جوهرية في القدرات والكفاءات الذهنية.
وهناك العديد من المصطلحات المرتبطة بالأقلية، ومن أهم هذه المصطلحات العرقية: وهي مصطلح بايولوجي لوصف جماعة من الناس لهم صفات طبيعية مشتركة، وينحدرون من نفس الأصل أو النسب المشترك. يليها العرقية (الإثنية، الشعب، الأمة): التي تعني جماعة من السكان لها أسطورة الأصل المشترك والذكريات التاريخية ولها عناصر ثقافية مرتبطة بإقليم ما، وقد استخدمت سياسياً في مطلع القرن العشرين؛ نظراً للحروب وانهيار الامبراطوريات حينها وترسيم الحدود. أما الطائفة أو الطائفية (جماعة، فرقة، ملة): تعتبر هوية تحدّد الأنا والجماعة الأخرى في المجتمع، حيث تعبر عن مجموعة أشخاص لديهم خصوصية عرقية أو معتقدات دينية مختلفة عن المجموعة الأكبر المنتمية اليها فهذه الخصوصية هي الهوية المذكورة سالفًا. وهنالك من يربط الطائفية بالمذهب الديني بناء على أسس عقائدية مشتركة؛ مما ربط الطائفة بالأقلية. والمصطلح الأخير هو القومية التي لم يتم تحديد مفهومها؛ نظراً لاختلاف بعض المتغيرات: كاللغة والثقافة ووحدة المصير فيتم ربطها بمفهوم الأمة، فالقوميّة صلة اجتماعية عاطفيّة خصائصها مشتركة، ويشعر الأفراد بأنهم يمثلون وحدة اجتماعية تسعى لتحقيق المصير.
ثانياً: أركان الاضطهاد وصوره وأنواعه والتوظيف السياسي له:
رغم تعدد تعريفات الاضطهاد، إلا أنه لا يوجد تعريف جامع له بسبب؛ تعدد أشكاله وحيثياته ونتائجه. فيمكن إجمال كل ما سلف في أنه أفعال سيئة تعتبر جريمة بحق الإنسانية، تكون ذات طبيعة اقتصادية بدنية أو قانونية بسبب اللون أو الشكل أو الأصل بصورة اضطهادية لتهميش فئة أخرى ولا يجيزه القانون الدولي.
أما أركان الاضطهاد باعتباره جريمة تتمثل في ثلاثة أركان أهمها:
- الركن البشري: حيث توجد نصوص تمثل الركن الشرعي في القوانين والاتفاقيات الدولية والوطنية، تحرم الاضطهاد والشتم وكل ما يولد البغضاء في المجتمع أو أي سلوك يمس الدين.
- الركن المادي: وهي الأفعال التي تمارس ضد الانسان من قبل الدولة أو أحد مؤسساتها أو حتى شخص آخر؛ بقصد المساس بشعور أو التقليل من شأن شخصٍ ما.
- الركن المعنوي: وهو وجود القصد الجنائي والنتيجة، إضافة لدوافع هذا الفعل حيث تكون الإساءة مقصودة ضد شعب أو شخص معين بسبب اللون أو الجنس أو العرق.
وفي هذا الصدد، يتخذ الاضطهاد عدة صور تختلف تبعا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل منطقة، فيتمثل في:
- التمييز العنصري: وهو كل فعل يقوم على التمييز أو الاستعباد أو الاستثناء على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي أو الإثني بهدف، تعطيل الاعتراف بحقوق الإنسان أو التمتع بها بشكلٍ متساوٍ مع الآخرين؛ بهدف الهيمنة على الفرد أو الجماعة.
- الفصل العنصري: يعتبر سياسة تمييزية تمنع جماعة سكانية من حقها في المشاركة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية بقصد سيطرة جماعة عنصرية معينة، واضطهادها بصورة منهجية بإنكار حق الحياة؛ بهدف فناء تلك الجماعة، ويتخذ أحياناً شكل فصل المناطق السكنية بين الجماعات وحظر الزواج بينهم. استخدم أول مرة من قبل رئيس وزراء أفريقيا عام 1944، مشيراً إلى سياسات العزل العنصري ما بين البيض والجماعات الأخرى في جنوب إفريقيا.
أما بخصوص أنواع الاضهاد فقد تم تصنيفه في ثلاثة نقاط وهي:
- الاضطهاد السياسي: يتلخص في قيام الحكومة باتخاذ إجراءات قمعية؛ بقصد فرض سياستها على المواطنين والقضاء على حركات المعارضة، أو التخلص من بعض المواطنين المعتنقين لأفكار سياسية تتناقض مع متبنيات الحكومة السياسية أو الفكرية مثل المثقفين أو البرجوازيين، والسبب الكامن من وراء ذلك؛ هو عدم وجود نظام فعال يوازن بين السلطة والمجتمع.
- الاضطهاد الديني: ويعد أحد أهم مشاكل حقوق الإنسان في العالم، ويعني سوء المعاملة المُمنهج ضد فرد أو جماعة من الأفراد؛ بسبب معتقداتهم أو طوائفهم الدينية.
- الاضطهاد العرقي: كل تمييز أو سوء المعاملة بين الأشخاص بسبب العرق أو اللون أو الأصل. وتمت ممارسته قديماً بحق الهنود الحمر، الذين تمت إبادتهم من قبل الأوروبيين. ولازالت هذه الممارسات المجحفة متواجدة مثل اضطهاد الأقلية المسلمة الروهينجا في ماينمار، فيحرمون من حق الملكية والجنسية والتصويت والسفر، كذلك بالنسبة لأقليات الكاريني وكاشيين وتشين.
ويدل هذا على سعي جهةٍ أو دولة ما، لاستعمال أو استغلال قضية معينة؛ لتحقيق أهدافها. فتتلخص معاييره في: المواطن ومدى حريته واختياره لنظام الحكم الذي يرغبه، والفصل بين السلطات وحيادية كل منها في ممارسة مهامها، فضلاً عن وسائل الاعلام التي لها دور في التعبئة والتوظيف، وسيادة الأخلاق وهيمنة مبدأ الطبيعة الإنسانية، واستقرار المجتمعات وسيادة القانون وشيوع الأمن وانتشار العدل.
من أجل تحقيق أهداف خاصة بجهةٍ ما؛ يجب اتباع عدة شروط فيعتبر استخدامها للقضية مسيساً وتكمن في أن تكون هذه الجهة سياسية أو مرتبطة بجهة سياسية معينة، ألّا تكون هذه الجهة معنية بالقضية بشكلٍ مباشرٍ، وأن تكون معروفة بازدواجية الخطاب وتعتمد سياسية الكيل بمكيالين وأنها نفعية لا مبدئية.
في النهاية، يمكن القول إن كل من مصطلحات الأقلية والاضطهاد والتوظيف السياسي، هي مفاهيم معقدة ولا يوجد تعريف جامع لها من قبل الباحثين لاختلاف سياق تجاربها من جهة، وفقاَ للعوامل الإيكولوجية الخاصة بها. فمسالة الأقليات رغم إقرار المصطلح دولياً، إلاّ أنه يدل على “الصغر” و”الضعف”، فالأنسب استخدام لفظ “مُكوّن” أو “جماعة”؛ حتّى لا يشعرهم بالضعف. ولاقت مسالة الأقليات اهتماماً في الوقت الراهن من قبل القوى الإقليمية والعالمية، حيث تمثل الاهتمام فيما تعرضت له من اضطهاد وإبادات باختلاف الأسباب والوسائل وهذا ما يمثّل الاستغلال الداخلي للأقليات، أمّا الخارجي فتمثل في استغلالها وتوظيفها سياسيا من قبل السياسة الخارجية للدول الفاعلة في الساحة الدولية.
على العموم، وفي ضوء ما سبق فإن مسألة الأقليات قديمة وليست جديدة. بالإضافة لارتكازها على اعتبارات تجعل منها ذات أبعاد دوليّة، فما تشهده الدول العربية كاليمن والعراق وسوريا هو دليل على استمرارية الاضطهاد والإبادات. لذا يجب معالجة مسالة الأقليات، بتعزيز روح المواطنة حتى لا تستغل سياسيا من قبل المستعمرين. فمن هنا رغم تعدد مساندة المواثيق الدولية وحقوق الإنسان للأقليات لكن أين تطبيق ذلك واقعياً؟ كيف يمكن إنصاف الأقليات في ظل سياسية الدول الاستعمارية المتمثلة في البقاء للأقوى أو حتى ضمان حقها في البقاء والعيش؟
.
رابط المصدر: