بقلم: باستيان جيجريش، إميل حكيم وشريني جاجتياني
نقلا المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS
ترجمة: د. حسين احمد السرحان/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
يفتقر الشرق الأوسط الى بنية أمنية إقليمية شاملة. وبدلاً من ذلك، تتنافس القوى الطموحة على النفوذ من خلال إبراز القوة، ودعم الشركاء المحليين من غير الدول، والاستفادة من علاقاتهم الدولية، والقيام بذلك دون احترام للعادات السياسية والدبلوماسية أو القانون الدولي.
في هذه الصورة العامة للانقسامات، شكلت ثلاثة محاور تقسم المنطقة الى مراكز قوة مختلفة. أولاً، جبهة دينية بقيادة إيران وحكومتها والميليشيات المتحالفة في العراق ولبنان وسوريا واليمن. ثانيًا، محور استبدادي محافظ بقيادة السعودية والإمارات العربية المتحدة، بدعم من دول أخرى، لاسيما مصر. وثالثاً، جبهة إسلامية شعبية بقيادة تركيا وقطر، تسعى إلى دعم الأحزاب الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة.
هذه المحاور اشتبكت بشدة في جميع أنحاء المنطقة، كما في العراق وليبيا وفلسطين وسوريا واليمن، وأيضًا في مصر والصومال والسودان وتونس. وكانت أزمة 2017-2021 بين المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى تعبيراً مذهلاً آخر عن هذا الانقسام المدمر. ومع ذلك، في بعض الأحيان، تتغير هذه المحاور ويتعاون اللاعبون لأغراض محددة. ففي سوريا، تركيا والسعودية متحالفان ضد نظام الأسد. وتحافظ قطر وتركيا على علاقات ودية مع إيران، لاسيما لمواجهة الضغوط السعودية والإماراتية.
اتخذت هذه المنافسة متعددة الجهات والأبعاد مجموعة متنوعة من الأشكال لا تصل الى حد الصراع المباشر: من عمليات الحصار والحملات الإلكترونية والإعلامية الى الدعم النشط للميليشيات المحلية. كان أحد الآثار الجانبية الهامة للتيار الخفي لهذه المنافسة الشديدة هو اللامبالاة وحتى الرضا عن الذات تجاه جمع التهديدات العابرة للحدود مثل الجهاد من جانب بعض الحكومات في المنطقة.
نصبت الدول غير العربية نفسها على أنها المتحكم الأساس للمنطقة، ويرجع ذلك في جزء كبير منه الى الضعف النسبي للدول العربية. وبغض النظر عن الانتكاسات ذات الصلة بأجنداتهم، فإن إيران وإسرائيل وتركيا لديها هياكل أمنية أكثر كفاءة وتكاملًا، وعزمًا وصبرًا استراتيجيين أكبر. وقدرتها على تطبيق مستويات من الإكراه تتناسب مع قدراتها، وأهدافها تتناسب مع قدرات الدول العربية. اذ قامت إسرائيل بتأمين حدودها من خلال التكنولوجيا الفائقة والاستخبارات. في حين حققت تركيا نجاحات عسكرية تجعلها جهة فاعلة محورية، على الرغم من أنها تكافح لتحويل هذه الارتباطات الى ميزة إستراتيجية دائمة.
اما إيران، فتبقى التحدي الأكثر تعقيدًا في المنطقة. لقد حققت قوة ردع ذات مصداقية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، وأقامت نفوذها حيثما أمكنها ذلك، ووضعت خصومها العرب في الخلف. كما إن مرونتها والتزامها الأيديولوجي ومراجعتها وموقفها الاستراتيجي تميزها عن الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. ويشكل مزيج برنامجها النووي، ومخزونها المتزايد من الصواريخ، وعملياتها في المجال البحري، وشبكتها على مستوى المنطقة من الميليشيات أكبر تهديد للأمن الإقليمي.
ولا توجد دولة أخرى تمتلك مثل هذا المزيج، ناهيك عن نشره، وتبقى مسألة كيفية التعامل مع إيران مسألة شائكة. وقد تكون الآثار المتتالية لتحول إيران الى قوة مسلحة نوويًا أو استمرار توسعها الإقليمي مدمرة للغاية. إذا تم نشر واستخدام أذرعها والتكنولوجيات الجديدة، فمن المرجح أن تتفاقم المنافسة الإقليمية بطرق مزعزعة للاستقرار بشكل كبير. وسابقا أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن أمله في أن تؤدي الدبلوماسية النووية الى تليين النظام الإيراني. واعتقد خليفته دونالد ترامب أن طهران ستخضع لضغوط قصوى وستتراجع. كلاهما فشل، وترك الدبلوماسيين الحاليين مع ندرة الخيارات في التعامل مع إيران.
ركزت الدول الأوروبية على الدبلوماسية النووية لأسباب مفهومة وعُد التوصل الى خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 (الاتفاق النووي مع إيران) كنجاح لتلك الدبلوماسية. وقد ساهم هذا المنظور في منعهم من الحصول على رؤية واضحة للجوانب الأخرى للسلوك الإيراني التي أصبحت الآن تثير مشاكل أكثر وضوحًا وأكثر إلحاحًا. على سبيل المثال، أبدت الحكومات الأوروبية مؤخرًا فقط اهتمامًا بالأمن الإقليمي واحتواء التهديد الصاروخي، كما أن الميزة الاستراتيجية التي اكتسبتها إيران من شبكات نفوذها في المنطقة أصبحت مؤخرًا نقطة نقاش داخل اوروبا.
بعد عقد من المنافسة الشديدة والمتعددة الأبعاد، يبدو أن الشرق الأوسط قد دخل في فترة تراجع نسبي. إن الإرهاق في ساحة المعركة والإحباط بسبب عدم القدرة على تحقيق انتصارات حاسمة (المملكة العربية السعودية في اليمن؛ وتركيا أو الإمارات العربية المتحدة في ليبيا؛ وإيران والمملكة العربية السعودية وتركيا في سوريا؛ وأزمة الخليج)، والتكاليف السياسية الباهظة والسمعة دفعت القادة الى التوحد بشروط “جيدة بما فيه الكفاية” أو حتى غير مرضية.
وأدى التصعيد 2019-20 بين الولايات المتحدة وإيران الى تضخيم مخاطر وتكاليف حرب شاملة في المنطقة. لقد كسرت اتفاقات أبراهام، التي توسطت فيها الولايات المتحدة مع الحكومات الأوروبية التي تدعي على الأقل دورًا داعمًا، عزلة إسرائيل الإقليمية، لكن ليس من الواضح على الإطلاق التأثير الاستراتيجي الذي ستحدثه.
لقد أرهقت السعودية نفسها في اليمن، وهي غير قادرة على تغيير ميزان القوى على الأرض أو تنظيم جبهة متماسكة، وكانت التكاليف السياسية وتلك التي تلحق الضرر بسمعة الرياض باهظة، وكان الصراع مصدر إلهاء باهظ التكلفة عن التنمية المحلية. وكان أداء الإمارات العربية المتحدة أفضل في اليمن لكنها عانت من نكسات في ليبيا. مهما كانت الامارات نشطة وغنية، وبغض النظر عن كفاءة الأداء العسكري، فإن صغر حجمها ونقاط ضعفها تحد من قوتها.
وستكون كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على دراية تامة بانكشافهما السياسي في الولايات المتحدة. لقد كشفت الهجمات الإيرانية عام 2019 على منشأتي النفط في بقيق وخريص عن ان هجوم من هذا النوع والحجم كان من المحتمل أن يؤدي الى رد عسكري أمريكي كبير، الا ان ذلك لم يحصل. وبدلاً من ذلك، كشفت الهجمات عن براعة عسكرية إيرانية وإمكانية إنكار غير قابلة للتصديق. نقاط الضعف الخليجية وضبط النفس وعدم المبالاة الأمريكية. من حيث تأثيرها على قادة المنطقة، شكلت نقطة تحول في أمن الخليج.
مع ذلك، وعند النظر الى المستقبل، لا يزال من الصعب رؤية تشكيل نظام أمني منسق أو مؤسسي في المنطقة، فخفض التصعيد ليس انفراجاً، ولا تزال محركات الصراع والمنافسة حاضرة وقوية. لقد كانت قمة بغداد في آب/ 2021، والتي كانت فرنسا المشارك الغربي الوحيد فيها، محاولة لتخيل كيف يمكن لنظام الشرق الأوسط أن يتطور على خلفية سلوك الولايات المتحدة الاميركية. بالحقيقة، خرجت بعض الاستنتاجات الملموسة من هذا المؤتمر.
فعلى الرغم من إنه يمكن رؤية محاولات العراق للعب دور تنسيقي وتسهيل المحادثات وتوفير قنوات للحوار بين المملكة العربية السعودية وإيران، على أنها تشير الى احتمالية اتخاذ مزيد من الخطوات في المستقبل، الا ان قوى الشرق الأوسط تتبنى النزعة المصغرة، وتسعى الى شراكات أمنية لتحقيق أهداف محدودة بدلاً من محاولة إضفاء الطابع الرسمي على علاقاتها الأمنية أو بناء هيكل أمني. هذا يولد مجموعة كبيرة من اللاعبين لتكون تحت امرة القوى الخارجية.
كذلك اجتذب مشهد الصراع والخلاف في الشرق الأوسط لاعبين خارجيين. فبينما كانت الولايات المتحدة على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية القوة الخارجية بلا منازع في المنطقة، فقد تغير الكثير في العقد الماضي. منذ عودة روسيا ظهورها في عام 2015 ودخولها الناجح في الصراع السوري، أصبحت روسيا الآن سمة من سمات المشهد الإقليمي. اذ تتمتع القاهرة بعلاقات عسكرية مميزة مع موسكو، وطهران تتعاون تكتيكياً مع الروس.
وتعمل السعودية والإمارات على زيادة تعاونهما العسكري ومشترياتهما من الأسلحة من روسيا. والروس في سوريا وليبيا وهم موجودون الآن عبر منطقة الساحل. كما نشرت روسيا طائرات ذات قدرات نووية في قاعدة حميميم في سوريا. واصبحت موسكو هي الحكم الفعلي للمنافسة الإقليمية على سوريا، وهي حقيقة تعترف بها حتى إسرائيل.
ومع ذلك، فإن روسيا ليست بأي حال من الأحوال منافسًا أو بديلًا للولايات المتحدة. اذ ليس لدى موسكو الإرادة أو الخيال أو الجاذبية أو الموارد لإزاحة واشنطن، وروسيا مستفيدة من نظام محطم بالفعل أكثر من كونها مهندس نظام جديد. بدلاً من ذلك، تسعى روسيا الى أن تكون ندا للجميع وهذا يعني انها ليست صديقًا لأحد في لعبة عالية التفاعلات. إحباط الولايات المتحدة هو هدف رئيسي لموسكو، كما ان أي تآكل في مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأي نكسة أمنية غربية، هي مكسب صاف لروسيا.
كذلك يأتي التحدي الأقوى على المدى المتوسط من الصين، التي تبرز مكانتها بسرعة. فالصين تنشط بالفعل في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق (BRI)، وصفقات التكنولوجيا، وتوفير العمالة، والعلاقات السياسية، ومبيعات الأسلحة بشكل متزايد. وتقع القاعدة العسكرية الأجنبية الوحيدة للصين في جيبوتي عند مدخل البحر الأحمر. وبحسب ما ورد بحثت الصين في إمكانية فتح منشأة عسكرية في الإمارات العربية المتحدة، لكن بدا أن العمل الأولي قد توقف في نهاية عام 2021 بعد التدخلات السياسية في الإمارات من قبل الإدارة الأمريكية. وبشكل عام، من غير المحتمل أن تشتت الصين انتباهها عن الاهتمامات الإستراتيجية الأكثر إلحاحًا في جوارها المباشر.
بالنسبة لدول الشرق الأوسط، فإن التعامل مع الصين وروسيا أسهل من التعامل مع الجهات الغربية. اذ لا تهتم بكين وموسكو بالسياسات المحلية للحكومات الإقليمية، وبالتالي فهي تتكيف في الغالب مع سلوكها. وفي الوقت الذي تسعى فيه دول الخليج لتنويع علاقاتها لتعظيم العوائد الاقتصادية والسياسية، ستظل تعتمد في الوقت الحالي على الالتزام الأمني للولايات المتحدة.
.
رابط المصدر: