حيدر آل حيدر الاجودي
المخاوف المتعلقة بالأمن الغذائي العالمي عموما والعربي خصوصا، تتزايد بتزايد عدد الإصابات التي تخطت حاجز 10 مليون إنسان وفقد حوالي 500 الف حياتهم عالميا جراء الإصابة بفيروس كورونا، مما أصاب الدول العربية بوجه الخصوص حالة من الهلع والخوف وتسببت بالعبثية والتدافع على شراء كل ما تطاله أيديهم من مستحضرات التنظيف والأطعمة المعلبة والطازجة للقيام بتخزينها، وعلى أثر هذه المخاوف قننت كثير من الدول عمليات التصدير والاستيراد لمنتجات أساسية لغذاء الفرد كالرز والقمح وزيت دوار الشمس وغيرها، مما عده خبراء الاقتصاد الزراعي بالأمر المفزع، فإذا أبقى كبار المصدرين على الحبوب في بلادهم فسيقلق ذلك المشترين، وأنه أمر غير رشيد لأن الغذاء يحتاج إلى التنقل عبر الحدود دون قيود، وبالامتثال لمعايير سلامة الأغذية القائمة.
فقد عرفت منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) الأمن الغذائي، بأنه توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة، أما عن مقومات الأمن الغذائي، فهي تتمثل في خصائص الدولة الجغرافية والمناخية ووفرة المصادر المائية ووفرة الموارد البشرية ووفرة الأراضي الزراعية والمراعي والغابات، ووفرة الثروة الحيوانية وامتلاك التكنولوجيا الحديثة.
الواقع الحالي للأمن الغذائي العربي (العاجز) ليس وليد اليوم، بل هو تراكمات سنوات سابقة تفاعلت فيها العوامل الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن انتشار الأوبئة والأمراض المشتركة بين الحيوان والإنسان التي أصبحت تهدد سلامة الغذاء. وتفرض ظاهرة المياه نفسها في الوقت الحالي وفي المستقبل، سواء في ما يتعلق بالمياه الجوفية أو الأنهار في البلدان العربية باعتبارها لب الحياة وأساس الأمن الغذائي، كما أن نوعية الزراعة والإنتاج الزراعي من أسباب تفاقم أزمة الغذاء في الوطن العربي، حيث مازال العديد من الدول العربية يعتمد على الطرق البدائية في الإنتاج الزراعي، فضلا عن تلوث التربة والمياه من جراء استخدام الأسمدة والمبيدات الكيميائية السامة والمسرطنة التي أهلكت الإنسان والأرض والحيوان، إضافة إلى إهمال العديد من الدول العربية الزراعة الحيوية التي تشتريها بأسعار خيالية.
فالزراعة العربية لم تحقق الزيادة المستهدفة في الإنتاج لمقابلة الطلب على الأغذية، واتسعت الفجوة الغذائية وأصبحت الدول العربية تستورد حوالي نصف احتياجاتها من السلع الغذائية الرئيسية، مما جعلها في مصاف التبعية الغذائية التي لها آثارها السلبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالاعتماد على استيراد الأغذية من الخارج يؤدي إلى زيادة فاتورة الواردات الغذائية للدول العربية باستمرار، وينمي العجز في موازين مدفوعاتها ويبدد مواردها من النقد الأجنبي، فضلا عن خطورة هذا الوضع على ارتهان إرادتها لقوى خارجية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بصورة مستمرة بما يتجاوز إمكانات الأسر ذات الدخل المحدود والمنخفض ومن ثم حدوث اضطرابات اجتماعية.
بالإضافة إلى سياسة الاستيراد الزراعي، فأن التشريعات الزراعية أيضا فاقمت من أزمة الغذاء في الوطن العربي، فبعض الدول العربية للأسف بنيت سياستها الزراعية على ترك زراعة المحاصيل الإستراتيجية الضرورية كالقمح والأرز وتوجهت لزراعة الخضر والفواكة، فضلاً عن عدم إيلاء العناية الكافية لتفعيل حجم التبادل التجاري في المنتجات الزراعية بين الدول العربية، واعتماد العديد من الدول العربية على استيراد محاصيلها الغذائية من دول أجنبية، وعدم توافر الإرادة السياسية لتحقيق التكامل العربي ولو على المستوى الزراعي، وكل هذه المشكلات تضع على عاتق الدول العربية المبادرة للتخطيط استراتيجياً بما يحقق لها الأمن الغذائي.
فمشكلة العجز الغذائي في الوطن العربي لها ارتباط كبير بحالة التجزئة التي يعيشها العالم العربي وانعدام التخطيط الإستراتيجي الإنمائي التكاملي على المستوى الوطني خاصة في الميدان الزراعي. فبينما أصبح التكتل الاقتصادي الإقليمي والدولي أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بل والوحدة الاقتصادية والسياسية، لم تستطع الدول العربية حتى الآن -رغم ما تمتلكه من مقومات التكامل والوحدة الاقتصادية- أن تفلت من تحكم الطابع المحلي على خططها الاقتصادية الإنمائية، وهو ما منع الوطن العربي من الاستغلال الكامل لما هو متاح من موارد طبيعية وبشرية ومالية وأدى إلى ضعف الكفاءة الإنتاجية لهذه الموارد وإلى ازدياد الفجوة الغذائية في معظم الدول العربية.
إن قضية الأمن الغذائي العربي هي قضية حياة العرب، ولا ينبغي تركها للظروف المتغيرة، ولا للعوامل الخارجية لتتحكم فيها، وإنما يجب السعي وبكل جدية إلى ضمان أمن غذائي عربي مستديم قوامه الأساسي القطاع الزراعي باعتباره مدخلا حيويا في تحقيق ذلك، إذ تصل مساهمته إلى 30% في عدد من الدول العربية مثل (السودان والعراق وسوريا)، حتى إن زراعة أرض السودان وحدها كفيلة بحل مشكلة الغذاء في الوطن العربي، كما يمثل القطاع الزراعي العربي أيضاً، مصدراً مهماً من مصادر الدخل وتوفير فرص العمل. ورغم التحديات التي تواجه الأمن الغذائي العربي فإن البيانات تشير إلى تمتع الوطن العربي بمقومات بناء أمن غذائي قوي، حيث تتوافر الأراضي الزراعية الشاسعة غير المستغلة والصالحة للزراعة، فالمساحة المزروعة من الوطن العربي تبلغ فقط 65 مليون هكتار من نحو 1.4 مليار هكتار هي المساحة الجغرافية للوطن العربي، كما تتوافر الموارد المائية، والثروة السمكية، والمراعي والغابات، والظروف المناخية المناسبة للزراعة، والأيدي العاملة الماهرة.
ومن هنا، فإن حل مشكلة الأمن الغذائي العربي لن يتحقق إلا من خلال تجسد بناء القوة الذاتية العربية في تحقيق إنتاج أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي الغذائي وبالتالي تحقيق الأمن الغذائي العربي، وذلك من خلال تنفيذ الإستراتيجية العربية للتنمية الزراعية التي ترتكز على إعداد وتنفيذ خطط وبرامج مشتركة لحصر ومسح وتصنيف ورصد الموارد الطبيعية الزراعية واستصلاح الأراضي، وإقامة شبكات متطورة لرصد المياه السطحية والجوفية وتعزيز توفير المعلومات عنها على المستويين المحلي والوطني، والاستغلال المشترك للأراضي والأحواض المائية المشتركة، والتوسع في الري الحديث، ووضع الخطط والبرامج لوقف انتشار التصحر واستصلاح الأراضي المتصحرة وصيانة الأراضي المعرضة للتصحر.
فبالتوسع في الاستثمار الزراعي المنتج وبالتحكم في تطور التكنولوجيا الزراعية، يمكن زيادة إنتاجية الزراعة العربية بما يتماشى والزيادة الحاصلة في الطلب على الغذاء. وتحقيق ذلك يتطلب في الأساس دعم التكامل الاقتصادي الزراعي العربي والتنسيق بين السياسات والخطط التنموية عبر تطوير عمل وإمكانات المؤسسات العربية العاملة في القطاع الزراعي، وكذلك تطوير وتنسيق السياسات الزراعية من خلال دعم مستلزمات الإنتاج، وبرامج مساعدة صغار المزارعين، وتحسين مستويات إنتاجيتهم، وتفعيل السياسات التسويقية والتجارية والرقابية بما في ذلك التعاقد على استيراد الحبوب بأسعار تفضيلية، ومراقبة الأسعار، وضمان الأمن الغذائي على مستوى الأسرة عن طريق الإعانات الغذائية.
إضافة إلى تعزيز ثقافة الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الرئيسة، وذلك من خلال تنفيذ مشروعات زراعية عربية مشتركة لإنتاج السلع الغذائية الإستراتيجية، وإقامة مخزون استراتيجي من السلع الغذائية الأساسية ووضع نظام لتنفيذه وإدارته، وإعداد وتنفيذ برامج تطوير استخدام المياه وتنميتها والتوعية حول استخداماته، وتوفير الخدمات الإرشادية، والاهتمام بالتقدم العلمي التقني والبحثي، ليكون كل ذلك سبيلاً نحو إيجاد وتعزيز التكامل الاقتصادي العربي الزراعي ومن ثم التكامل الاقتصادي العربي المنشود.
وختاما.. يتطلب تحقيق الأمن الغذائي مواجهة التطورات والتحديات العالمية في مجال اقتصاد السوق وتحرير التجارة من خلال إقامة تكتل اقتصادي عربي لتقوية الموقف التفاوضي العربي مع الدول والتكتلات الاقتصادية الأخرى، وللاستفادة من المزايا والاستثناءات التي تتيحها الاتفاقات التجارية الدولية بما يحقق التنمية والرخاء لشعوب المنطقة العربية، فإن مسألة تحقيق الأمن الغذائي تظهر خلال الأزمة -كما نعيشها اليوم-، أو في نهايتها، حيث يعتبر أنه قد تحقق فعلا عندما يكون الفرد لا يخشى الجوع أو أنه لا يتعرض له، واليوم تواجه جميع الدول العربية خطر الجوع، ومن المتوقع أن تنجو بعضها ويقع بعضها الآخر في مواجهة ذلك الخطر.
رابط المصدر: