الأمن والدفاع الأوروبي بين المهددات والمواجهة

أعادت الحرب الروسية الأوكرانية ترتيب أولويات الدول الأوروبية بشكل كبير عما كان في السابق فيما يتعلق بمصالح القارة، فقد كانت الأوضاع الاقتصادية من جانب ومعضلة الهجرة من جانب آخر هي أبرز الملفات التي يركز عليها القادة الأوروبيون، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية وضعت الاعتبارات الجيوسياسية وتحديات الأمن والدفاع في قمة الأولويات الأوروبية، ودعمت وجود قراءة أوروبية موحدة للتهديدات التي تتعرض لها القارة خاصة في ظل احتمالية تقليل الوجود والدور الأمريكي من المشهد الدفاعي الأوروبي، وإن ظلت الخلافات قائمة في كيفية التعامل مع هذه التهديدات.

في بداية عام 2009، ظهرت أكبر الأزمات الاقتصادية في أوروبا وخاصة في الجنوب بصورة أكبر من الوسط والشمال، وكان من أبرز سماتها ارتفاع معدل البطالة والدين العام، وأُطلق عليها اسم “الديون الأوروبية”، واتسمت هذه الفترة بتشابكات معقدة بين الدول الرشيدة ماليًا من جهة والدول التي صُنفت غير رشيدة في إدارة مواردها المالية من جهة أخرى، وكانت الديون هي المحور الأساسي لهذه التشابكات. وكانت أبرز الدول التي تعاني هي اليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وإسبانيا، وقبرص. ومن خارج منطقة اليورو مناطق كالمجر ورومانيا ولاتفيا.

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/8/80/Map_of_the_European_Migrant_Crisis_2015.png

ولكن مع بداية عام 2015، تعافت تقريبًا جميع البلدان الأوروبية من أزمة ديونها –عدا اليونان- بعد القيام بإصلاحات اقتصادية والحصول على حزم مالية للإنقاذ، وظهرت أزمة جديدة إثر فرار مئات الآلاف من اللاجئين وطالبي اللجوء من عدة أماكن أبرزها سوريا والعراق وكوسوفو وأفغانستان نحو أوروبا، بأعداد فاقت أعداد الفارين إليها منذ الحرب العالمية الثانية. وظهر إلى السطح ملف “الهجرة” واللجوء كمعضلة رئيسية في أوروبا فاقت الأزمة المالية. وعمقت هذه الأزمة من انقسام القارة الأوربية بين شرق لا يتحمس للأيديولوجية الليبرالية للنخب الأوروبية ومناهض للهجرة وأشد تمسكًا بسيادة الدول وضبط حدودها، وبين الغرب –وتحديدًا ألمانيا- أكثر تقبلًا لمبدأ إنقاذ المهاجرين من الاضطهاد وإدماجهم في المجتمع.

وحاول الاتحاد الأوروبي اتخاذ بعض التدابير لمعالجة المشكلة، بما في ذلك توزيع اللاجئين بين الدول الأعضاء، ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة في بلدان المهاجرين الأصلية، وتبسيط عمليات الترحيل. ولكن تبعات الأزمة السياسية والاجتماعية كانت عميقة في أوروبا، حيث أظهر الأوروبيون قلقًا تجاه التدفق المفاجئ للمهاجرين، وغالبًا ما عبروا عن مخاوفهم بشأن الخطر المتصور على القيم الأوروبية عبر الاحتجاجات المناهضة للهجرة، كما زاد الاستقطاب السياسي من قبل اليمين المتشدد الذي أصبح بفضل هذا الملف أكثر شعبية، وانخفضت الثقة في الاتحاد الأوروبي، وشددت عدة دول في قوانين اللجوء الخاصة بها.

وفي 24 فبراير 2022، أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا؛ لتندلع الحرب مجددًا داخل أوروبا وتعيد ترتيب أولويات القارة نحو الاتحاد لحماية أمنها وإعادة تقييم التكامل الدفاعي الأوروبي، سواء من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.

وكنتيجة مباشرة لهذه الحرب، نجد أن أغلب الدول الأوروبية، وخصوصًا المتاخمة لروسيا وأوكرانيا، أصبحت أكثر ميلًا لاستمرار عضويتها في الاتحاد الأوروبي وكذلك تجديد الثقة في حلف الناتو. وهو ما يمكن ترجمته بالنظر إلى تراجع تقدم اليمين المتشكك في أوروبا في تلك البلدان، على عكس الدول الواقعة في الغرب كفرنسا وألمانيا، حيث جاءت الأحزاب اليمينية في المركزين الأول والثاني على التوالي في الانتخابات الأخيرة، وأيضًا فوز يمين الوسط في الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024.

بالرغم من عودة ملف الأمن والدفاع كأولوية أوروبية، فإن السياسات الدفاعية الأوروبية قد ظهر بها صدع يتمحور حول الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة كأكبر مدافع عن القارة الأوروبية، كما سلطت الحرب الروسية الأوكرانية الضوء أيضًا على التراجع الملحوظ للجيوش الأوروبية والصناعات الدفاعية بعد عشرات السنوات من السلام.

وبالنظر إلى مقدرات الدفاع الأوروبي الحالية، نجد للوهلة الأولى أن أوروبا تمتلك ما يكفي من المقومات للدفاع عن نفسها، فالناتج المحلي الأوروبي أكبر بنحو 10 مرات من الناتج المحلي لروسيا، ويأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، كما أنفقت دول الاتحاد أعلى نسبة على الدفاع بزيادة 32% في عام 2023، بالرغم من التباينات الكبيرة بين الدول الأوروبية فيما يتعلق بنسبة الإنفاق الدفاعي.

ووفقًا لتقديرات حلف شمال الأطلسي وبيانات الدفاع، بلغ إجمالي نفقات الدفاع 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، أي حوالي 240 مليار يورو بزيادة تقدر بنحو 150 مليار يورو مقارنة بعام 2014، فضلًا عن إنتاج صناعات دفاعية واستثمارات تقدر بنحو 58.1 مليار يورو وخاصة الأسلحة الأكثر تقدمًا، مع وجود ستة دول أوروبية من بين أكبر 10 دول مصدرة للأسلحة في العالم.

وعلى صعيد المعدات والمنصات وجاهزيتهما، تشير البيانات إلى أن الدول الأوروبية تحتاج بشدة الآن إلى إعادة بناء، خاصة في المجالين البري والجوي، إذ يتعهد الحلفاء باستثمار ما لا يقل عن 20% من الميزانية المخصصة للدفاع، وبالرغم من أن الجدول أدناه يشير إلى أن الأعداد كبيرة في أوروبا بأكملها، فإن هناك خللًا كبيرًا في المعدات والمنصات التي تمتلكها البلدان المختلفة؛ فعلى سبيل المثال، لا تمتلك 12 دولة أوروبية أي دبابات، ولا تمتلك 14 دولة طائرات مقاتلة، مما يعني أنها لا تستطيع الإسهام في المهام الأساسية، فضلًا عن وجود منصات إطلاق قديمة أو تحتاج إلى صيانة، بينما يؤدي حلفاء الناتو الأوروبيون غير المنتمين إلى الاتحاد الأوروبي أداءً أفضل في هذا الصدد؛ حيث تمتلك النرويج وتركيا والمملكة المتحدة كميات كبيرة من المعدات في العديد من المجالات. وبالمقارنة بالمخزونات الروسية والأمريكية، فإن العدد المطلق للمنصات الكبرى في أوروبا قد لا يكون سيئًا للغاية، ولكن عددًا قليلًا منها لديه المستوى المناسب من الجاهزية.

وعن الصناعات الدفاعية، فمنذ بداية الحرب الأوكرانية، زادت صناعة الدفاع الأوروبية من قدرتها على إنتاج الذخيرة بنسبة 50% مع وضع هدف مليوني ذخيرة سنويًا، وهو ضعف القدرة في 2022، ولكن لم يلتزم به لاعتبارات عدة. كما نادت بعض الأصوات الأوروبية بأن يتحول الاقتصاد الأوروبي إلى “اقتصاد حرب” وكانت تقصد بذلك إعطاء الأولوية لتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية ومعالجة العجز العسكري، وهذا أمر بالرغم من أهميته فإنه ظل في إطار الطموحات دون تنفيذ على أرض الواقع.

كما تم وضع “استراتيجية صناعية دفاعية أوروبية”، والتي تسعى إلى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مجال الدفاع وتشجيع المشتريات المشتركة، وتقوية قاعدة التصنيع الدفاعي الأوروبية، وخفض الاعتماد على الواردات العسكرية من خارج الاتحاد الأوروبي، مع النداء بضرورة زيادة الإنفاق على الدفاع ليصل إلى 500 مليار يورو، بجانب زيادة نسبة مشتريات الأسلحة بشكل جماعي من قبل الدول الأعضاء من 40٪ بحلول عام 2030 إلى 60٪ بحلول عام 2035.

وبالرغم من وضع هذه الاستراتيجية فنجد أنه بعد عام واحد من تعهد دول الاتحاد الأوروبي بإرسال مليون ذخيرة لأوكرانيا خلال عام، لم يستلم سوى نصف هذه الكمية فقط. الأمر الذي أثبت صعوبة إقناع جميع الدول الأعضاء بالالتزام بهذه الاستراتيجية، وأن إعادة بناء وتعويض المستهلك من مخزونات الذخيرة والمعدات لأوكرانيا وتلبية متطلبات القدرة المتزايدة المرتبطة بالبيئة الأمنية داخل الدول الأوروبية هي عملية بطيئة ومعقدة. وقد عكس الأمر كذلك أهمية الحاجة إلى تمويل إضافي لجعل الصناعة الأوروبية قادرة على تلبية احتياجات الحرب.

ولهذا نجد أن العديد من الدول الأوروبية اتجهت إلى حلول خارج أوروبا؛ مما زاد من الاعتماد على دول ثالثة، ودعم هذا التوجه عدم رغبة بعض الدول الأوروبية في شراء أسلحة أوروبية الصنع لأسباب تختلف من حالة لأخرى، أهمها إرضاء الولايات المتحدة وحثها على عدم الانسحاب من المسرح الأوروبي.

أما على صعيد القدرات العسكرية للدفاع، فبسبب الميزانية المحدودة والاعتماد على الولايات المتحدة وتخطي فترة الحرب الباردة، تحول عدد من الجيوش الأوروبية إلى قوات محدودة بدلًا من قوات ضخمة جاهزة للقتال؛ وعلى سبيل المثال بعض القوات من الجيش الفرنسي، حيث يظل جزء منها مصممًا للتعامل مع المليشيات أو التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، واستمر هذا الوضع لأكثر من عقدين من الزمان؛ لأن احتمالات اندلاع صراع كبير في أوروبا بدت ضعيفة أو منعدمة.

مهددات الأمن الأوروبي

  • تهديدات خارجية 
  • توسع رقعة الصراع الروسي نحو أوروبا

القصور في الدفاع الأوروبي ضد التهديد الروسي كان معروفًا قبل الحرب الأخيرة، بدا واضحًا عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وبدأت صراعها المطول في الدونباس عام 2014. ولكن حرب 2022 أثبتت أن روسيا تمتلك جيشًا قويًا وترغب في اختبار عزم وتماسك وقدرة الدفاع الأوروبي، وأنه لا يمكن الجزم بأن أوكرانيا نقطة النهاية لمطامع روسيا في الغرب.

فوفقًا لاستطلاع رأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في مايو 2024، فقد اعتقد عدد كبير من المشاركين من 14 دولة أوروبية أنه من المرجح أن تهاجم روسيا دولة أوروبية أخرى خلال العامين المقبلين، خاصة مع إعلان أوكرانيا بدء استخدام الأسلحة الغربية لمهاجمة الأهداف داخل الأراضي الروسية، وهو ما قوبل بتهديد روسي بتوسيع رقعة الصراع وتحويل المشهد إلى حرب عالمية ثالثة. ولكن يظل هذا الرأي معبرًا بصورة أكبر عن الرأي العام الأوروبي ولا يعكس بطبيعة الحال الوضع الاستراتيجي والتوجهات الجيوسياسية للقادة الأوروبيين، وسبق وأن وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جميع التقارير التي تفيد بأن روسيا تريد مهاجمة أوروبا بأنها “تكهنات”، وأنها مبرر غربي لسباق التسلح. ولكن هذا لا ينفي أن علاقات روسيا مع عدد من الدول الأوروبية قد تدهورت إلى حد كبير، وأن العلاقات لن تعود مجددًا كما كانت على المستويين السياسي والاقتصادي، وأن الأهداف الاستراتيجية لروسيا من هذه الحرب لا تزال تتمحور حول الرغبة في تفكيك حلف الناتو وإخضاع أوكرانيا أو على أقل تقدير السيطرة على إقليم الدونباس.

  • احتمالية تراجع الالتزام الأمريكي بالدفاع عن أوروبا 

أثبتت الحرب في أوكرانيا مدى اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في عملية الدفاع عنها؛ إذ لا توجد عاصمة قادرة وراغبة في الوقت نفسه على جمع الأوروبيين معًا مثل واشنطن، فهناك عواصم أوروبية قادرة على لعب هذا الدور مثل برلين ولكنها لا ترغب في أن يقع على عاتقها هذا الدور. كما أن الأمريكيين يقدمون حصة الأسد من “الممكنات الاستراتيجية” التي يعتمد عليها الأمن والدفاع الأوروبي، بجانب ما يتم تقديمه لأوكرانيا، حيث إن إنفاق الولايات المتحدة على التقنيات الدفاعية الجديدة لا يزال أعلى بأكثر من سبع مرات من إنفاق جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مجتمعة، هذا بجانب الضمان النووي الأمريكي الذي يشكل تأمينًا للحياة الأوروبية ضد التهديدات الروسية. ومن المتوقع أن تحافظ هاريس، المرشحة الديمقراطية للرئاسة، على دعم أوكرانيا والعلاقات الوثيقة مع الشركاء الأوروبيين إذا فازت في الانتخابات. ولكنها ستطالبهم بمزيد من الجدية والجهود.

على الصعيد الآخر، هناك مخاوف من استمرار الاعتماد على الولايات المتحدة مع اقتراب الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” من الفوز بالانتخابات، خاصة وأن لترامب رأيًا مختلفًا بشأن الالتزام بحلف شمال الأطلسي، إذ يعتقد أنه لم تعد أوروبا المسرح الرئيس بالنسبة لواشنطن وأولويات التخطيط الدفاعي الأمريكي، وأنه آن الأوان لتتولي أوروبا الدفاع عن نفسها.

ولهذا اقترح ترامب في فبراير 2024 تقليل أو إنهاء الدعم الأمريكي لأوروبا وخاصة لأوكرانيا، حال التخلف عن الإنفاق الدفاعي المتفق عليه، فضلًا عن إشارته إلى علاقته الوطيدة ببوتين والتي قد تتعمق أكثر حال فوزه بالانتخابات؛ الأمر الذي ترى فيه القارة الأوروبية تهديدًا لها. ويرى مراقبون أن تهديدات ترامب ليست فارغة، حيث تحمل في طياتها سيناريوهات عدة، فقد يعمل ترامب على أن تبتعد الولايات المتحدة عن الحلف وتصبح “شريكًا صامتًا” به، خاصة وأنه يعتقد أن دعم أوكرانيا بتلك التكلفة لا يعود بمنفعة وطنية حيوية على الولايات المتحدة، بجانب اعتقاده من الأساس أن روسيا لا تمثل تهديدًا كالتهديد الصيني.

وتتمثل فكرة الشريك الصامت في أن تكون الولايات المتحدة هي الملاذ الأخير، بحيث لا تشكل العمود الفقري للدفاع المتقدم على الجناح الشرقي للحلف، وعليه سيتعين على أوروبا بناء بنية أمنية لا تتمركز حول الولايات المتحدة، وعليه أيضًا، فمن غير الممكن أن يسعى الحلف إلى التوسع الإقليمي، وإنما سيحافظ على الهياكل التنظيمية التي قد تكون ضرورية ويتم تفعيلها في حالة اندلاع حرب كبرى.

وهذا يعني أن الأوروبيين سيتعين عليهم ردع العدوان الروسي وحدهم، وبدلًا من تقاسم العبء بين الولايات المتحدة وأوروبا، سنشهد تسليم أو تحويل الأعباء الأمريكية بالكامل، وهذا المفهوم بالفعل يحظى بشعبية متزايدة في الداخل الأمريكي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وخاصة بين المتشككين في زيادة التدخل العسكري الأمريكي في أوروبا المفضلين تحويل الاهتمام إلى التغلب على التقدم الصيني، وبين الذين يريدون أن تصبح الالتزامات الأمريكية تجاه السياسة الخارجية أكثر شرطية.

فوفقًا لاستطلاع رأي أُجري في فبراير الماضي تزامنًا مع تصريحات ترامب، ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، وبعد انضمام “فنلندا والسويد” للتحالف، فقد أراد 47% من الأمريكيين أن تحافظ الولايات المتحدة على التزامها الحالي تجاه حلف شمال الأطلسي، في حين يرى 20% أن دعم التحالف ينبغي أن يزيد، بينما يرى 16% أن الولايات المتحدة ينبغي أن تقلص التزامها تجاه الناتو، ويفضل 12% أن تنسحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي بالكامل. ولكن على كلٍ، لن يستطيع ترامب اتخاذ القرار بمفرده، وسيواجه تحديات عدة من قبل إدارته ومن قبل الديمقراطيين إذا أسفرت الانتخابات عن سيطرتهم على الكونجرس.

هناك علامة أخرى تدل على احتمالية تراجع الوجود الأمريكي في أوروبا، فبالنظر إلى ذروة الانتشار الأمريكي في القارة الأوروبية، نجد أن عدد الجنود الأمريكيين كان حوالي 430 ألف جندي متمركزًا في أوروبا في خمسينيات القرن الماضي، وفي عام 1989 انخفض الرقم إلى 248 ألف جندي، وبحلول عام 2021، انخفض الرقم إلى 64 ألفًا، ليرتفع ببدء الحرب بين 85-100 ألف، مع العلم أن هذا التراجع قد رافقه انخفاض في عدد المنصات والمعدات القتالية الأمريكية، وكذلك الأسلحة النووية المخصصة للقيادة الأمريكية في أوروبا.

اكتشف الأوروبيون أيضًا مدى اعتمادهم على الأصول الأمريكية في مجالات عدة مثل الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، بما في ذلك الأنظمة غير المأهولة والقدرات الفضائية، والدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، وقدرات الضربة الدقيقة بعيدة المدى، والجسر الجوي الاستراتيجي والتزود بالوقود جوًا، وبالتالي فإن الانسحاب الأمريكي سيكشف عن خلل المنظومة الأوروبية الدفاعية بشكل كبير.

  • التوترات الخارجية وتنافس القوى العظمى

لقد أدى تجدد القتال بين حماس وإسرائيل، وتهديد الصواريخ الحوثية، والتهديد النووي الإيراني، وتصاعد التوترات في مناطق المحيطين الهندي والهادئ والقطب الشمالي، والاضطرابات في شرق وغرب أفريقيا، إلى جانب حرب روسيا على أوكرانيا، إلى خلق بيئة أمنية شديدة التقلب بالنسبة لحلف الناتو وأوروبا. وكذلك نجد أن هجوم السابع من أكتوبر قد حث عدة دول أوروبية بجانب الولايات المتحدة على دعم إسرائيل؛ الأمر الذي أدى بالفعل إلى تحول جزء كبير من الدعم العسكري الأمريكي إلى إسرائيل عوضًا عن توجه غالبيته إلى أوكرانيا، وهو ما يطرح احتمالات أن يتطلب ذلك المزيد من الإنفاق الأمريكي وبعض الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا لتلبي احتياجات إسرائيل العسكرية في حال طال أمد الحرب. وبالتالي سيشكل ذلك ضغطًا على الموارد الدفاعية الأوروبية التي تعاني بالفعل. ولقد حافظ الاتحاد الأوروبي ككتلة على اتفاقياته التجارية وغيرها مع إسرائيل، رغم الدعوات المتزايدة لقطعها أو الحد منها بشكل جذري.

ووسط كل ذلك، هناك قوى أخرى تحاول إثبات نفسها على المسرح العالمي، سواء القوى الكبرى مثل الصين وروسيا بطبيعة الحال، أو القوى المتوسطة مثل إيران وتركيا وحتى كوريا الشمالية، مما قد يشكل تهديدًا لا يمكن الاستهانة به للقدرات الدفاعية الأوروبية. وبالرغم من قوة الاتحاد الأوروبي اقتصاديًا وتكنولوجيًا وتجاريًا، فإنه لا يشكل قوة عظمى قائمة بذاتها؛ فهو يفتقر إلى الإرادة السياسية المتجانسة والقدرات العسكرية التي تستند إليها القوة الجيوسياسية الحقيقية، ولهذا تحاول الدول الأوروبية تحقيق التوازن بين التعامل مع التوترات السابقة ومصالحها الاستراتيجية التي تحركها التجارة إلى حد كبير مع الأطراف والقوى العظمى.

  • تهديدات داخلية 
  • تصاعد اليمين داخل الأوساط الأوروبية

مع تطور المنافسة بين القوى العظمى، نجد أن بعض الدول الأوروبية التي شهدت صعودًا لافتًا للتيار اليميني المتطرف تشهد جدالًا واسعًا مع ظهور أصوات تنادي إما بالتخلي عن أوكرانيا أو بتقليل الدعم لها، وهناك حكومات تسعى إلى الحد من تدخل الاتحاد الأوروبي في شئونها الداخلية.

كما تشير الدلائل إلى أن التركيز في العديد من الدول الأعضاء بات ينصب على القضايا الداخلية أكثر، كتبعات الهجرة والأزمات الاقتصادية؛ الأمر الذي سهل انتشار الشكاوى من ثقل “العبء الدفاعي”، ومقولات تدعي أن دعم أوكرانيا من شأنه إطالة أمد الحرب، وهو خطاب تستغله عدد من الأحزاب اليمينية لاستمالة الجمهور المناهض للمشروع الأوروبي، ومن أجل تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل.

  • الخلافات الأوروبية حول التمويل

ظهرت انقسامات عدة حول كيفية تعزيز سياسة الدفاع للاتحاد الأوروبي في ضوء الأزمة الروسية الأوكرانية، فظهرت عدة أفكار كان أبرزها بناء جيش أوروبي مشترك، بالرغم من أن هذه الفكرة لم تحرز أي تقدم منذ اقتراحها في خمسينيات القرن الماضي، بينما تفضل دول أخرى نهجًا أكثر دبلوماسية وتركيزًا على التعاون مع الناتو. وتعكس هذه التحفظات صعوبة توسيع القدرات العسكرية لأوروبا في ظل الضغوط المالية العامة والانقسامات حول مزايا تمكين بروكسل في مجال السياسة الدفاعية.

ونظريًا، تبدو فكرة إنشاء قوات أوروبية مشتركة فكرة جاذبة، ولكن بما أن الاتحاد الأوروبي يتألف من دول قومية، تبقى الفكرة غير منطقية؛ حيث إن آليات اتخاذ قرار الحرب تختلف من دولة إلى أخرى، وحيث إن تحريكه سيبقى رهينة حق النقض الذي تملكه أي دولة عضو قد تحمل فكرة مختلفة عن استعمال القوة، أو تربطها علاقة مختلفة مع روسيا، أو تتبنى موقفًا مختلفًا في شأن تزويد الأسلحة في صراع معيّن، مع العلم أن هناك تساؤلات عدة حول وثوق عدة دول في الاتحاد الأوروبي بفرنسا أو ألمانيا في الشئون الأمنية، نظرًا إلى سجل هذين البلدَين وتاريخهما الطويل في تجاهل مخاوف أعضاء الاتحاد الأقرب جغرافيًا لروسيا.

أما الفكرة الثانية فهي زيادة الإنفاق الدفاعي بين الدول الأعضاء في الحلف، وعلى الرغم من الطموحات الأوروبية بزيادة حصة ميزانية الاتحاد الأوروبي المخصصة للدفاع لتصل إلى 500 مليار يورو، وفقًا لتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لقادة الاتحاد الأوروبي في يونيو 2024، مع السعي إلى تحقيق الاستقلالية في مجال الأمن والدفاع، فإن الدول الأوروبية لا تتفق على كيفية جمع الموارد المالية المطلوبة، والتي تتمثل حتى الآن بإنفاق ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي على الدفاع.

وعلى الرغم من أنه خلال الحرب الباردة، كانت تلك الدول تنفق أكثر من 3% من الناتج المحلي فإن بعض الدول الأوروبية اتجهت نحو تخفيض هذه النسبة تحديدًا بعد انضمامها لحلف شمال الأطلسي، بينما تعهدت دول أوروبية أخرى بزيادة الإنفاق الدفاعي عن النسبة المطلوبة باستثمار 657 مليار دولار مع كندا منذ عام 2014، ونتيجة لذلك ارتفعت البلدان التي تجاوزت نسبة الـ 2% من 7 بلدان إلى 30 بلدًا.

ومع ذلك، لم تكن هذه الزيادة كافية على الإطلاق مقارنة بالدول الأخرى، فقد نما الإنفاق الدفاعي الروسي منذ عام 2000 وحتى 2022 بنسبة 360%، بينما توسع الإنفاق الدفاعي الصيني بنسبة 596%. وخلال الفترة نفسها، نجد أن النمو الأوروبي لم يرتفع إلا بنسبة 50% فقط بسبب الزيادات التي حدثت منذ عام 2015، وبالطبع في 2022.

  • أعداد القوات العسكرية 

من الناحية النظرية، يبلغ عدد قوات الحلفاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي 1.9 مليون جندي، وهو -من الناحية النظرية كذلك- عدد يبدو كافيًا لمواجهة روسيا (1.1 مليون جندي و1.5 مليون جندي احتياطي). ولكن في الواقع، ستواجه قوى حلف شمال الأطلسي الأوروبية صعوبة بالغة في إرسال أكثر من 300 ألف جندي إلى أي صراع مستقبلي، وحتى في هذه الحالة، فإن هذا سوف يستغرق شهورًا من التحضير.

ووفقًا لأرقام القوات من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، يبلغ عدد القوات العاملة في الجيش الألماني على سبيل المثال 181 ألف جندي، بعجز لا يقل عن 20 ألف جندي تحتاج إليهم ألمانيا للوفاء بالتزاماتها. ولكن هذا ليس العجز الوحيد، فالمملكة المتحدة فشلت أيضًا في تحقيق أهدافها السنوية للتجنيد العسكري على مدى العقد الماضي، وفي 2023، فقدت قواتها البرية 4 آلاف جندي، ليصل عدد الجنود الحالي إلى 138 ألف جندي بنسبة انخفاض 19% مقارنة بعام 2013. وكذلك فرنسا، فبالرغم من أن قواتها بلغ تعدادها 203.8 ألف عنصرًا، فإنها أقل من الأعداد المطلوبة، وفي إيطاليا تقلص حجم الجيش من 200 ألف قبل عقد من الزمان إلى 160.9 ألف اليوم.

وهذا الانخفاض يعكس أن الدول الأوروبية خلال عقدين من الزمان قد ركزت بشكل كبير على الميزانيات وبرامج الدفاع دون التركيز على التحدي الأكثر صعوبة المتمثل في تجنيد المزيد من المواطنين للقتال في جيوشهم، وتوفير عائد مادي مغرٍ لهم، وخاصة الذي يشغلون وظائف حرجة في مجالات مثل الطب والاتصالات والهندسة والأمن السيبراني، وهي الأدوار التي تحتاج إليها الجيوش الأوروبية على وجه السرعة.

  1. تقليل الاعتماد على الدعم الأمريكي للأمن الأوروبي

وذلك بتيقن أنه بصرف النظر عما قد يحدث في نوفمبر القادم، فسوف تحتاج أوروبا إلى تحديد مصالحها الجماعية في الشراكة عبر الأطلسي، وتحديد ما تريد حمايته وما تتوقعه من الولايات المتحدة، مع العلم أن التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي سوف يظل مستقرًا في أفضل الأحوال عند المستوى الحالي، مع وضع كافة الاحتمالات بالتراجع أو الاختفاء خلال السنوات المقبلة، ولهذا ستحتاج أوروبا إلى أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها بأقل قدر من المساعدات الأمريكية.

ولهذا نجد أن الاتحاد بالفعل وضع أولويات لتطوير القدرات الدفاعية لسد الثغرات في قدراتها، وذلك تحت رعاية وكالة الدفاع الأوروبية (EDA) وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، والتي بالمناسبة تتداخل إلى حد كبير مع المجالات ذات الأولوية التي تعتمد أوروبا على الولايات المتحدة في توفرها، ويمكن للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تتعاون مع حلفاء وشركاء آخرين في حلف شمال الأطلسي أو خارجه، بما في ذلك المملكة المتحدة وكندا واليابان وكوريا الجنوبية.

وهنا يجب أن نشير إلى محاولات بروكسل لفرض إجراءات أمنية تراعي المخاوف الدفاعية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، حيث شرعت قانونًا جديدًا في الاتحاد الأوروبي يقوم بإعفاء أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتطور أو تستعمل لأغراض عسكرية حصرًا من أي أعباء تنظيمية جديدة، وهو الأمر الذي سيعزز القاعدة الصناعية والدفاعية في أوروبا.

بجانب ذلك، يمكن اتباع استراتيجية بها عدد قليل من المهام المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة، كالعمل معها لردع روسيا وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، والاستمرار في تقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، وتهيئة الظروف المناسبة للتوصل إلى حل دبلوماسي للحرب، والحصول على ضمانات بأن واشنطن لن تتجاهل المصالح الأمنية الأوروبية، والتي تشمل دعم تطلعات أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وربما حلف شمال الأطلسي (هناك خلافات أوروبية/أوروبية حول هذه النقطة الأخيرة)، هذا بجانب الدفاع عن الرخاء الأوروبي وحرية العمل في خضم التنافس بين الولايات المتحدة والصين، والانخراط مع واشنطن في معالجة التحديات العالمية، وهذه أفضل طريقة لتقاسم المسئوليات مع الولايات المتحدة، كما أنها السبيل الوحيد الذي يمكن للأوروبيين من خلاله تجنب استغلال دولة من دول الاتحاد الأوروبي لدولة أخرى والتعامل مع حالة عدم اليقين في السياسة الأمريكية.

  1. استمرار دعم أوكرانيا بما يضمن عدم انتصار روسيا

فنظرًا لاحتمالية تراجع أو اختفاء الدعم الأمريكي لأوكرانيا وللجهود الدفاعية الأوروبية بعد الانتخابات الأمريكية القادمة، فسيعمل الأوروبيون لا شك على استمرار تنظيم المساعدات المالية والعسكرية المتوسطة والطويلة الأجل لأوكرانيا، وسيتم ذلك من خلال وضع خطة طوارئ مشتركة بين الدول الأوروبية تدور حول:

  • استمرار الدعم المالي لأوكرانيا، عبر توفير تمويل أساسي من “مرفق السلام الأوروبي”، وتوفير مستويات مستدامة من المساعدة الأمنية، بالإضافة إلى الملايين التي تعهدت بها دول التحالف بشكل ثنائي لدعم كييف.
  • ضمان تدفق ثابت من الذخيرة للحفاظ على خط المواجهة الأوكراني، وهذا يتحقق الآن بالفعل بفضل ارتفاع إنتاج الذخائر، ومن الضروري العمل على خطة طويلة الأجل لتحفيز القدرة الإنتاجية في أوروبا للحفاظ على هذه الدفعة المرغوبة للدفاعات الجوية والصاروخية الأوكرانية ومنع حدوث عجز جديد.
  • تعزيز الدفاع الجوي والصاروخي الأوكراني لحماية المدن والبنية الأساسية، وهذا يتحقق بفضل جهود الحلفاء المشتركة لإرسال أنظمة الدفاع الجوي باتريوت إلى أوكرانيا، بقيادة ألمانيا، وهذا من شأنه أن يشجع الحكومات على تحرير المزيد من الأسلحة الموجودة حاليًا في المخزون والتي قد تحدث فرقًا في المجهود الحربي.
  • التركيز على الدعم وقطع الغيار للحفاظ على المعدات الغربية التي يتم التبرع بها، حيث من الممكن أن يخدم إنشاء مركز مشترك لإصلاح وصيانة المعدات المعقدة هذا الغرض، على أن يكون هذا المركز مفتوحًا أمام جميع البلدان التي تبرعت بمعدات لأوكرانيا.
  1. زيادة ميزانية الاتحاد الأوروبي المخصصة للدفاع

لحسن الحظ، فإن زيادة الإنفاق الدفاعي ممكنة إلى حد كبير بالموارد المالية للدول الأوروبية، التي تعد من أكثر الدول تطورًا اقتصاديًا في العالم، إلى جانب ذلك، يدعم الجمهور الأوروبي بشكل متزايد إنفاق المزيد على الدفاع، وخاصة في شمال وشرق أوروبا، ووفقًا لاستطلاع رأي أجراه حلف شمال الأطلسي في ديسمبر 2023، فقد وافق 77% من المشاركين على أن البلاد الأوروبية يجب أن تنفق المزيد على الدفاع أو تحافظ على الإنفاق الدفاعي الحالي، مع وجود احتمالية استخدام الأموال الروسية في الاتحاد الأوروبي لزيادة الإنفاق على الدفاع.

ولهذا، فإن الإسهام الأكثر أهمية التي يمكن للاتحاد الأوروبي أن يقدمه لحلف شمال الأطلسي الأكثر أوروبية تتلخص في إلزام الدول الأعضاء بالاستثمار بشكل أكبر وأكثر ذكاءً في قدراتها الدفاعية وفي التقنيات المبتكرة، مع العلم أن زيادة الإنفاق لن تكون حلًا بدون إعادة تنظيم الهياكل والعمليات القائمة، خاصة وأن هناك مخاوف تثار من أن يؤدي تحويل صناعة الأسلحة الأوروبية إلى “اقتصاد حرب” إلى عواقب بعيدة المدى تتمحور حول التحول إلى سباق تسلح جديد في أوروبا.

  1. الاستعداد العددي والعسكري للجيوش الأوروبية

إن الاستعداد القتالي يتطلب بذل أكبر قدر من الجهد، وتحتاج الدول الأوروبية إلى زيادة حجم القوات القتالية الجاهزة المتاحة في غضون مهلة قصيرة لملء نموذج قوة حلف شمال الأطلسي وتمكينه والاتحاد الأوروبي من مواجهة مجموعة أكبر من الأزمات المحتملة دون الاعتماد بشكل مفرط على التعزيزات الأمريكية، وذلك من خلال:

  • تنظيم المزيد من التدريبات المنتظمة والواسعة النطاق للأفراد والمقرات.
  • الحصول على قطع الغيار والذخيرة، وزيادة توفر المعدات الرئيسية.
  • توفر الخدمات اللوجستية والدعم لنقل القوات والمعدات لمسافات كبيرة، وتحسين البنية الأساسية ذات الصلة، بما في ذلك الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق والأنفاق والجسور، وكذلك الدعم الطبي.
  • معالجة الحواجز الإدارية أمام النشر السريع للأفراد والمعدات في جميع أنحاء أوروبا.
  • جعل الحياة المهنية العسكرية أكثر قيمة وجاذبية للمتطوعين.

وإذا لم يختر المزيد من الأوروبيين العمل في المهن العسكرية، فقد تسعى حكوماتهم إلى إيجاد طرق أخرى لتسجيلهم إجباريًا في الخدمة العسكرية، وهذا يظهر في ” النموذج الإسكندنافي” للتجنيد الإجباري، والذي تتبعه كل من ألمانيا وهولندا، ففي ألمانيا التي تعتزم إرسال استبانة إلى كل الذكور الألمان الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا -نحو 400 ألف شاب سنويًا- لاستقصاء مدى استعدادهم لأداء فترة من الخدمة العسكرية ومهاراتهم، ومن ثَمّ تعيين نحو 40 ألف شاب منهم سنويًا. كما طرحت هولندا مؤخرًا فكرة نموذج التجنيد الهجين، وهو عبارة عن تسجيل 2000 شخص ذوي مهارة عالية من خلال استبانة إلزامية موجودة ترسلها إلى الشباب عندما يبلغون السابعة عشرة من العمر.

وفي النرويج والسويد، أثبتت “نماذج التجنيد الشامل الانتقائي” نجاحها الكبير، ففي النرويج، لا يلتحق بالخدمة العسكرية سوى 14% من المؤهلين، وفي السويد لا يتجاوز عدد المؤهلين 4%. والواقع أن الانتقائية الشديدة التي تتسم بها عملية التجنيد زادت من هيبتها، مما جعل الخدمة العسكرية تشكل نتيجة تنافسية يتطلع إليها العديد من الشباب.

  1. جعل الناتو أكثر أوروبية

يعكس الوضع الراهن لمنظومة العمل داخل حلف الناتو سواء من حيث الإنفاق أو من حيث الإسهام العسكري سيطرة الولايات المتحدة إلى حد كبير على الحلف أكثر من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يتطلب من الدول الأوروبية زيادة مشاركاتها في جهود الحلف وخاصة على صعيد الإنفاق الدفاعي بما يمنحها دورًا أكبر على المستوى القيادي والتنظيمي والمالي للحلف. ويمكن أن يتم ذلك عبر:

  • التنسيق بشكل أوثق بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل المعايير والابتكار والتنقل العسكري والأمن السيبراني.
  • مواءمة جهود تطوير القدرات بين حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي إلى أقصى حد ممكن لضمان التماسك بين جهود الاتحاد الأوروبي وأولويات التخطيط الدفاعي لحلف شمال الأطلسي.
  • التخفيف من مخاوف الدول التي ليست أعضاء في المنظمتين من خلال تسهيل مشاركتها قدر الإمكان، ومنح صفة المراقب أو الشريك للدول غير الأعضاء الراغبة في المشاركة في أكبر عدد ممكن من صيغ الدفاع.
  • تنظيم تبادل أكثر سلاسة للمعلومات (بما في ذلك من خلال الترتيبات الأمنية التي تسهل تدفق المعلومات السرية).
  • تنظيم آليات منتظمة لتبادل الموظفين بين المنظمتين لتطوير التفاهم المتبادل.
  • تحسين مفهوم الركيزة الأوروبية لحلف شمال الأطلسي، والتي تجمع بين تقاسم الأعباء وتقاسم المسئوليات.
  • المراجعة لهيكل قيادة حلف شمال الأطلسي، فضلًا عن الأعلام المخصصة للمناصب العليا المختلفة.
  • مواءمة التدريبات التي يجريها حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي فضلًا عن القوات الاحتياطية لتعزيز الجاهزية.
  • الاستفادة الكاملة من انضمام فنلندا والسويد من خلال دمجها بالكامل في خطط وقوات وهياكل القيادة.
  1. تعزيز قدرات الردع النووي

فتطوير ركيزة أوروبية أقوى في حلف شمال الأطلسي سوف يتطلب إسهام أوروبي كبير في الردع النووي، مع العلم أن الحكومات الأوروبية لديها مجموعة متنوعة من وجهات النظر فيما يتعلق بهذه المسألة، حيث يشارك عدد قليل من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل النمسا وأيرلندا، بنشاط في معاهدة الحظر النووي، بينما يتفق جميع حلفاء الناتو على أنه “طالما أن الأسلحة النووية موجودة، فإن الناتو سيظل تحالفًا نوويًا”. 

وتستفيد أوروبا من وجود الأسلحة النووية الأمريكية من خلال الناتو، ويشارك جميع حلفاء الناتو -عدا فرنسا- في التخطيط النووي للمنظمة، كما أن هناك دولتين أوروبيتين بالحلف تمتلكان أسلحة نووية، المملكة المتحدة وفرنسا التي تعتبر ثالث أكبر قوة نووية في العالم، والدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي لديها ردع نووي.

وفي هذه البيئة المعقدة ينشأ “نقاش كبير” في مختلف أنحاء أوروبا، حيث يدعو البعض إلى إنشاء “قنبلة أوروبية” وتقويض الوجود النووي الأمريكي، ويرغب آخرون في تعزيز الوجود النووي الأمريكي، بينما يفضل آخرون الوضع الراهن، مع العلم أن سحب الولايات المتحدة للردع النووي أو إضعافه احتمال لا يزال قائمًا.

لكن يبدو أن الأوروبيين في حاجة إلى خوض نقاش واقعي حول الكيفية التي يمكنهم بها الحفاظ على الردع وتعزيزه، دون الانخراط في مقترحات غير واقعية أو مضللة، مثل القنبلة الأوروبية، أو الردع الأوروبي المتميز، أو تمويل الردع الفرنسي فقط، أو مقترحات لاستبدال الردع البريطاني أو الفرنسي بالردع الأمريكي الموسع، أو حتى تقويض الضمان النووي الأمريكي، كما عليهم الأخذ في الاعتبار احترام مبدأ “عدم الإضرار”؛ لأن أي اقتراح يُنظَر إليه على أنه -مثلًا- يقوض الضمان النووي الأمريكي قد يشكل أيضًا خطرًا استراتيجيًا على الأمن الأوروبي، كما أنه قد يورط أوروبا مجددًا في الاعتماد المفرط على حليف منفرد آخر ويكرر سيناريو الاعتماد على الولايات المتحدة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M