وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 31 يوليو 2022، المرسوم رقم 512 بشأن إطلاق العمل بـ “العقيدة البحرية” الجديدة لروسيا في الفترة بين 2022 و2030. وضعت الوثيقة الملامح الاساسية للاستراتيجية الروسية في هذا المجال، والأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها خلال الفترة المقبلة، مع الاخذ بالحسبان المتغيرات الكبرى التي شهدتها البلاد بعد مرور 7 سنوات على إطلاق النسخة السابقة من العقيدة البحرية في العام 2015. كما أنها تعاملت مع المتغيرات الخارجية الواسعة، بما في ذلك على صعيد المخاطر والتحديات الجديدة التي باتت روسيا تواجهها، خصوصاً على صعيد تنامي الحاجة لتعزيز وضعها كقوة بحرية عالمية.
هذه الورقة تُلقي الضوء على أبرز عناصر العقيدة الجديدة، والتجديدات والإضافات التي طرأت على رؤية روسيا لمكانتها وطموحاتها البحرية، ومضامينها بالنسبة للمنطقة العربية.
السياق وأهمية التوقيت
حظي توقيت إطلاق الوثيقة بأهمية خاصة مع تصاعد المواجهة الروسية الغربية واتخاذها ابعاداً واسعة، على صعيد تعدد مستوياتها وتشابك الملفات التي تتأثر بهذه المواجهة. وهذا لا يقتصر على حقيقة أن موسكو باتت تعد لخوض مواجهة طويلة الأمد، تراجعت معها فرص التوصل إلى تسويات مرضية لعناصر الصراع القائم، أو فرص تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة والأطراف الفاعلة الأساسية في الاتحاد الأوروبي والبلدان الاخرى التي انضمت بدرجات مختلفة إلى التحالف الذي تقوده واشنطن مثل بريطانيا، واليابان، وكندا، وأستراليا، وكوريا الجنوبية. فضلاً عن احتدام المنافسة بين موسكو وواشنطن لضمان تموضع بلدان أخرى مهمة في الصراع الراهن، كما هو ملاحظ في القارة الافريقية ومنطقة الخليج وبلدان شرق آسيا ووسطها.
ولم تعد المنافسة في البحار العالمية تتخذ أبعاداً عسكرية فقط، تتعلق بمستوى الجاهزية لنشر أسلحة ونقلها وتعزيز فرص التدخل في المناطق الساخنة، إذ أدَّت رُزَم العقوبات والقيود غير المسبوقة المفروضة على روسيا إلى تضييق الخناق على السلاسل اللوجستية لنقل البضائع بأنواعها المختلفة، وباتت حركة السفن والموانئ الروسية شبه مشلولة بسبب القيود الغربية، ما ساهم في تسريع إعداد الوثيقة الجديدة للاستجابة للتحديات البارزة بقوة حالياً.
ويمكن القول إن أبرز المتغيرات التي طرأت منذ العام 2015 ودفعت لإعداد نسخة جديدة من العقيدة البحرية الروسية، هي: تأثيرات التدخل الروسي في سوريا، وتحوُّل البحر المتوسط إلى نقطة انطلاق أساسية لحركة الأساطيل الروسية في حوض المتوسط والبحر الأحمر، واتفاق “أوكوس” الذي وُقِّع قبل عام، ورأت فيه موسكو وبيجين تطوراً مقلقاً يفتح مسار تزويد أستراليا بقدرات نووية، ويعزز وضع المحور الثلاثي (بريطانيا، وأستراليا، والولايات المتحدة) في مواجهة الطموحات البحرية لروسيا والصين. والمتغير الثالث تمثَّل في احتدام المنافسة في القطب الشمالي، وأخيراً التطورات التي جرت خلال العام الأخير لجهة توسيع المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود وبحر البلطيق، فضلاً عن تداعيات الحرب الأوكرانية التي سرَّعت من المسارات السابقة كلها.
هذه العناصر عزَّزت حاجة موسكو إلى وضع تصور جديد لعقيدتها البحرية تتويجاً لسلسلة خطوات جرت خلال الفترة الاخيرة، بينها توقيع اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين في أغسطس 2018، والموافقة على “أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الأنشطة البحرية للفترة حتى عام 2030″، ثم وضع نسخة جديدة من استراتيجية الأمن القومي لروسيا في عام 2021 .
عكست العقيدة البحرية الروسية الجديدة تبدلاً مهماً في أولويات روسيا على صعيد قدراتها العسكرية البحرية، واتساع أهداف الكرملين لتشمل مناطق لم تكن العقيدة البحرية السابقة تضعها ضمن “المجال الحيوي” لتحرك لروسيا في البحار الدولية
مضمون الوثيقة
حددت الوثيقة التي تقع في 46 صفحة ملامح الاستراتيجية الروسية لتعزيز الحضور في البحار والمحيطات انطلاقاً من التحديات الجديدة التي تواجهها روسيا. بهذا المعنى فقد وضعت تصوراً لأهداف روسيا ينطلق من توسيع نطاق المصالح البحرية لموسكو، وحددت التهديدات الجديدة للبلاد، والتحديات والمخاطر التي تواجهها موسكو في إطار تنفيذ أهدافها البحرية.
وحملت الوثيقة التي نشر الكرملين نصَّها تفاصيلاً عكست تبدلاً مهماً في أولويات روسيا على صعيد قدراتها العسكرية البحرية، واتساع أهداف الكرملين لتشمل مناطق لم تكن العقيدة البحرية السابقة تضعها ضمن “المجال الحيوي” لتحرك لروسيا في البحار الدولية. وفي إشارة إلى المضمون الأهم في العقيدة الجديدة، قال الرئيس الروسي بعد توقيع المرسوم: “لقد رسمنا علناً حدوداً ومناطق المصالح الوطنية لروسيا”، وأشار إلى أن هذه المناطق تشمل بالدرجة الأولى القطب الشمالي والبحر الأسود وبحر أوخوتسك وبرينغ، ومضيق البلطيق والكوريل، وقال: “سنضمن حمايتها بحزم، وبكل الوسائل”.
توسيع دائرة النفوذ وانشاء قواعد بحرية جديدة
منحت العقيدة أولوية لتكثيف الأنشطة البحرية في أرخبيل سفالبارد وفرانز جوزيف لاند ونوفايا زيمليا وجزيرة رانجيل، وهي المناطق التي تضمن لروسيا سيطرة في القطب الشمالي الذي يشهد منافسة متزايدة مع عدد من البلدان الغربية. كما نصَّت على “زيادة القدرة القتالية وتطوير نظام التمركز للأسطول الشمالي وقوات ووسائل جهاز الأمن الاتحادي وقوات ووسائل الحرس الوطني”. وحددت مهاماً أساسية أمام القوات البحرية تقوم على إنشاء “نقاط لوجستية ” (قواعد بحرية) للبحرية الروسية في دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ من أجل تهيئة الظروف للانتشار والتنقل والإمدادات بين الأساطيل التابعة للقوات البحرية. كما أكدت الوثيقة على تهيئة الظروف لوجود بحري في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مما سيمكن من ممارسة السيطرة على سلامة تشغيل اتصالات النقل البحري في هذه المنطقة.
ووفقاً للوثيقة، فإنه بالإضافة إلى المركز اللوجستي الأساسي التابع للبحرية في مدينة طرطوس في سوريا، سيتم إنشاء مراكز مماثلة في عدد من البلدان في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بهدف ضمان الوجود البحري للاتحاد الروسي على أساس دائم في البحر الأبيض المتوسط انطلاقاً من الاتفاقية مع الجمهورية العربية السورية، وإنشاء وتطوير مراكز دعم لوجستية أخرى للأسطول على أراضي دول أخرى في المنطقة.
كما نصَّت على تطوير العلاقات مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ذات البحار المجاورة والمساحات البحرية، بما في ذلك البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. وفي السياق ذاته، أشارت العقيدة إلى خطط لإنشاء قواعد بحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، ورأت أن إحدى أولويات السياسة البحرية الوطنية في الحفاظ على الوجود البحري للاتحاد الروسي في منطقة الخليج العربي والحفاظ عليه على أساس إقامة مراكز دعم لوجستية في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
تهديدات النشاط البحري لروسيا الاتحادية
حددت الوثيقة المخاطر الرئيسة التي تواجه الأنشطة البحرية للاتحاد الروسي، وعلى رأسها عدم وجود عددٍ كافٍ من القواعد خارج أراضي الاتحاد الروسي لتوفير مجالات لحركة السفن والإمدادات وتسهيل النشاطات التي يقوم بها الأسطول في المحيطات. ومن بين تلك المخاطر إدخال عدد من الدول قيوداً على مؤسسات بناء السفن الروسية للمجمع الصناعي العسكري وشركات النفط والغاز، بما في ذلك تلك المتعلقة بنقل التقنيات الحديثة وإمدادات المعدات وجذب التمويل طويل الأجل.
أيضاً، فإن الخطر على الأنشطة البحرية للاتحاد الروسي ينبع من عدم اكتمال التعيين القانوني الدولي للمساحات البحرية في القطب الشمالي، ومساعي مراجعة أحكام القانون الدولي التي تحكم الأنشطة البحرية في القطب الشمالي، والبحر الأسود ومناطق أخرى. ورأت العقيدة الجديدة أن بين المخاطر المشاركة غير الكافية للأسطول التجاري الروسي في حركة النقل الدولي العالمي، مع الاعتماد الكبير لنشاط التجارة الخارجية للاتحاد الروسي على النقل البحري وتشغيل أنظمة خطوط الأنابيب البحرية، ما يخلق التناقض بين تكوين وحالة أسطول الأبحاث الروسي لحلّ المهام اللازمة.
وبين التهديدات الرئيسة الاخرى لأمن روسيا ونشاط أساطيلها، تم تحديد التوجه الأمريكي للهيمنة في المحيطات ونمو نشاط حلف الأطلسي. وتقدُّم البنية التحتية العسكرية للحلف إلى حدود روسيا، عبر زيادة عدد المناورات في مياه البحار المتاخمة لأراضي الاتحاد الروسي.
تطوير مجمع بناء السفن في الشرق الأقصى
نصَّت العقيدة البحرية الجديدة على تطوير مجمع لبناء السفن في الشرق الأقصى، بما في ذلك بناء حاملات الطائرات، ورأت أن تطوير مجمع حديث لبناء السفن عالي التقنية في الشرق الأقصى مُصمَّم لبناء سفن ذات حمولة كبيرة، بما في ذلك تطوير حاملات الطائرات الحديثة في القطب الشمالي للبحرية، يُعد من أولويات السياسة البحرية الوطنية في الاتجاه الإقليمي المحيط الهادئ.
وبين الأولويات التي وضعتها الوثيقة السيطرة على الأنشطة التي تقوم بها الدول الأجنبية في مياه طريق بحر الشمال. كما حدَّدت العقيدة مهمة زيادة القدرة القتالية وتطوير الأسطول الشمالي، وقوات ووسائل جهاز الأمن الاتحادي، وقوات ووسائل الحرس الوطني.
خفَّضت النسخة الجديدة من العقيدة البحرية الروسية من الاهتمام بالمحيط الأطلسي إلى المركز الثالث في القائمة، مما رفع القطب الشمالي والمحيط الهادئ إلى أول مكانين. وتم التأكيد على أولوية تعزيز الحضور الروسي في بحر البلطيق، وبحر آزوف، والبحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط
العناصر الجديد في العقيدة
زادت الوثيقة بشكل كبير من عدد المصالح الوطنية لروسيا في المحيطات العالمية من ثمانية إلى أربعة عشر. وبذلك يكون تفسير “المصالح الوطنية”، من حيث الدفاع والأمن وحرية الحركة في أعالي البحار، آخذ في التوسع. وقد تمت الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على مكانة روسيا كـ “قوة بحرية عظمى، تهدف أنشطتها إلى الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في البحار والمحيطات العالمية”، وفي ظروف “العالم الناشئ متعدد المراكز”. وتمت الإشارة بشكل منفصل إلى ضمان التشغيل الآمن لأنظمة خطوط الأنابيب البحرية وضمان الوصول إلى اتصالات النقل العالمية.
وأُضيفَت مهمة تطوير المنطقة القطبية الشمالية وطريق البحر الشمالي إلى قائمة المصالح الوطنية. فيما يتعلق بتنمية القطب الشمالي الروسي، تم إجراء إضافة مهمة فيما يتعلق “بالتنمية الشاملة للجرف القاري للاتحاد الروسي خارج المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يبلغ طولها 200 ميل”، بشرط أن يكون ذلك ممكناً بعد تثبيت الجزء الخارجي حدود الجرف القاري الروسي وفقاً للمادة 76 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
وقُسِّمَت مجالات ضمان المصالح الوطنية لروسيا في المحيط العالمي إلى مجالات حيوية ومهمة وغيرها. تشمل المناطق الحيوية، بالإضافة إلى المياه الإقليمية، المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري خارج حدودها في حوض القطب الشمالي، وكذلك مياه وبحر أوخوتسك والقطاع الروسي من بحر قزوين. بحر. وتجدر الإشارة أيضاً إلى قائمة المناطق المهمة لضمان المصالح الوطنية، والتي شملت بحر آزوف والبحر الأسود والبحر الأسود ومضيق البلطيق وكوريل والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن مناطق مرور مصالح النقل البحري العالمية.
وفي إطار مواجهة العقوبات الغربية، عُدِّلَت المادة التي كانت تحتوي على قائمة بمبادئ السياسة البحرية الوطنية. وبعدما كان المبدأ الأول هو “الامتثال لمبادئ وقواعد القانون الدولي المعترف بها عموماً وأحكام المعاهدات الدولية للاتحاد الروسي”، غدت الصياغة كالتالي: “الامتثال لتشريعات الاتحاد الروسي، والمبادئ المعترف بها بشكل عام وقواعد القانون الدولي، وكذلك أحكام المعاهدات الدولية للاتحاد الروسي”. وبنفس الإطار، اُستُبدِلَت عبارة “أولوية الأساليب غير العسكرية لضمان وحماية المصالح الوطنية” بعبارة “مزيج فعال من التدابير غير العسكرية والعسكرية”. ومن اللافت للنظر إدراج عبارة “استخدام قدرات الدول الأخرى التي هي حلفاء وشركاء لتحقيق المصالح الوطنية للاتحاد الروسي في المحيط العالمي” في قائمة المبادئ.
وفي اتجاه القيود الغربية الجديدة تمت الاشارة إلى أهمية تقليل اعتماد صادرات الموارد الهيدروكربونية المحلية على تشغيل أنظمة خطوط الأنابيب الأرضية التي تمر عبر أراضي الدول الأخرى. والتأكيد على الحاجة إلى ضمان استقلال روسيا في مسألة مد خطوط الأنابيب البحرية وحماية السفن والمنشآت والهياكل المستخدمة في مد خطوط الأنابيب.
وعموماً فقد ظلت قائمة الاتجاهات الإقليمية للسياسة البحرية الروسية من دون تغيير، لكن تم إعادة النظر في ترتيب أولوياتها. لذلك فقد خفَّضت النسخة الجديدة من العقيدة البحرية من الاهتمام بالمحيط الأطلسي إلى المركز الثالث في القائمة، مما رفع القطب الشمالي والمحيط الهادئ إلى أول مكانين. وتم التأكيد على أولوية تعزيز الحضور الروسي في بحر البلطيق، وبحر آزوف، والبحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط.
ويُلاحَظ تحوُّل القطب الشمالي إلى منطقة “منافسة عالمية ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكن أيضاً من وجهة نظر عسكرية”. وإلى جانب الأسطول الشمالي، تم تكليف أسطول المحيط الهادئ وجهاز الأمن الفيدرالي وقوات الحرس الروسي بمهام ضمان الأمن والدفاع في البلاد.
وفي المحيط الهادئ تكمُن المهمة الأساسية في التغلب على العزلة الاقتصادية وتعزيز البنية التحتية للشرق الأقصى، وكذلك تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الأجنبية وإمكانات النقل والخدمات اللوجستية في البلاد كمجالات ذات أولوية في السياسة البحرية الوطنية. بشكل منفصل، يتم ملاحظة أهمية ضمان الوجود البحري للبحرية الروسية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك تشكيل المراكز اللوجستية على أراضي الدول الأجنبية، وكذلك تطوير مجمع بناء السفن المحلي في الشرق الأقصى، بما في ذلك بناء حاملات الطائرات الحديثة.
وفي الشق المتعلق بأنشطة الغرب، كما في النسخة السابقة للعقيدة، انصب التركيز على دور الناتو ولكن بصيغة أقسى. وتم التأكيد على أن أنشطة الناتو تهدف إلى مواجهة مباشرة مع روسيا وحلفائها. وتكررت الأطروحة حول عدم قبول روسيا لخطط تقدم البنية التحتية العسكرية للحلف إلى حدودها ومحاولات إعطاء الناتو وظائف عالمية. مع الإشارة إلى تزايد أولوية تطوير أسطول البلطيق.
واستُبعِدَ البندُ المتعلق بالحاجة إلى ضمان التنظيم القانوني الدولي لنظام وإجراءات استخدام مضيق كيرتش. كما تم توسيع القسم الخاص بحوض البحر الأبيض المتوسط. والتركيز على تعزيز الشراكة مع سوريا، وتوسيع الوجود البحري الروسي في المنطقة، وكذلك تطوير العلاقات مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك تطوير التعاون العسكري التقني وإنشاء مراكز لوجستية جديدة.
وفي اتجاه المحيط الهندي، تم توسيع قائمة البلدان التي يُعتبر تطوير العلاقات معها أولوية للسياسة البحرية الوطنية الروسية في المنطقة، بشكل كبير. فبالإضافة إلى الهند، التي رُقِّيَ وضعها من “علاقات ودية” إلى “شراكة إستراتيجية”، ضمَّت القائمة إيران والعراق والمملكة العربية السعودية. وتمت الإشارة إلى الحاجة إلى الحفاظ على الوجود البحري لروسيا في الخليج العربي، فضلاً عن المشاركة في ضمان أمن النقل البحري في المنطقة، بما في ذلك مكافحة القرصنة.
وفي اتجاه القطب الجنوبي، لاحظت الوثيقة الحاجة إلى الحفاظ على ظروف متساوية للتعاون الدولي ومنع عسكرة المنطقة. وتم التأكيد على الدور المهم للوجود الروسي الدائم والنشط بوصفها عضواً في نظام معاهدة أنتاركتيكا، والحاجة إلى تطوير محطات القطب الجنوبي والقواعد الميدانية كجزء من البعثة الروسية في القطب الجنوبي.
وفي إطار العقيدة البحرية الجديدة تم التركيز على مبدأ الاستعداد القتالي والتعبئة. وفي إطار الإشارة لإمكانية الاستدعاء والنقل تحت سيطرة سفن القوات المسلحة التي ترفع علم الدولة لروسيا في حالة وجود خطر من التهديدات وأوقات الحرب. في الوقت نفسه، تم التأكيد على أولوية زيادة عدد السفن التي ترفع علم الدولة لروسيا. وقُدِّمَت قائمة واسعة من التدابير اللازمة من أجل ضمان جاهزية تعبئة السفن والموانئ وشركات بناء السفن. كما تلاحظ العقيدة أيضاً، الحاجة إلى تحسين إجراءات استدعاء واستخدام السفن ومرافق الموانئ في ظروف العمليات الخاصة في وقت السلم، وكذلك إجراءات تعويض مالكي السفن عن الخسائر الناتجة.
وحملت الوثيقة إشارة إلى مستويات الاستعداد لاستخدام القوة العسكرية، وهي ثلاثة: 1) في المناطق الحيوية تستخدم روسيا، إلى جانب دول أخرى، استخداماً كاملاً أساليب القوة العسكرية، مع إشارة إلى أنه يتم استخدام القوة العسكرية وفقاً لتشريعات الاتحاد الروسي، ومبادئ وقواعد القانون الدولي المعترف بها عموماً. و2) في المناطق المهمة، يمكن لروسيا استخدام القوة العسكرية بشكل متناسب مع الوضع السائد، وعندما تُستنفَد إمكانية استخدام أدوات أخرى؛ و3) في مناطق أخرى، لا تفترض روسيا إمكانية استخدام القوة العسكرية.
تنص الاستراتيجية الروسية الجديدة على تعزيز حضور موسكو في ملفات الأمن الإقليمي، بما يفتح على تعزيز الشراكات الإقليمية في منطقة الخليج وحوض المتوسط، وهذه أولوية لم تكن بارزة بمستوى واضح في النسخ السابقة للعقيدة البحرية الروسية
خلاصة واستنتاجات
تختلف العقيدة البحرية الروسية الجديدة تماماً عن نسخة 2015. فقد نما دور القوة العسكرية في هذه العقيدة الجديدة بشكل ملحوظ. والأهم كان تقسيم المناطق لضمان المصالح الوطنية لروسيا في المحيط العالمي إلى حيوية ومهمة وغيرها، وكذلك تحديد شروط ونطاق استخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الوطنية، اعتماداً على حالة المنطقة. وفي سياق تفاقم الوضع الدولي، يبدو أن تجسيد “الخطوط الحمراء” وتنظيمها على مستوى وثائق التخطيط الاستراتيجي الروسي بات أمراً ضرورياً.
في الوقت نفسه، أصبحت العقيدة البحرية الروسية أكثر طموحاً. ووفقاً للصياغة الجديدة، “تمتد المصالح الوطنية للاتحاد الروسي، بوصفه قوةً بحرية عظمى، إلى المحيطات العالمية بأكملها”. وتتضمن العقيدة البحرية بناء الوجود الاقتصادي والبحثي والبحري لروسيا في مناطق مختلفة وتقوية وتطوير البحرية، وإنشاء مجمع بناء السفن “المستقل عن الوضع الخارجي”، والموانئ والبنية التحتية للمعلومات. وهذا يتطلب استثمارات كبيرة، والأهم من ذلك، سياسة عامة متسقة. وسوف يوضح الوقت كيف ستكون روسيا قادرة على تنفيذ هذه العقيدة البحرية في سياق الصراع الحالي مع الغرب، والتهديدات المستمرة بزعزعة استقرار الوضع في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ودخول السويد وفنلندا إلى الناتو.
وبالنسبة إلى المنطقة العربية، يمكن التوقُّف عند الملاحظات والمضامين الآتية:
- الوجود العسكري البحري الروسي في سوريا بات يشكل واحدة من أولويات الاستراتيجية الروسية في النشاطات البحرية، مع ما قد يترتب على ذلك في تعامل موسكو مع آفاق التسوية في هذا البلد.
- تسعى موسكو ضمن عقيدتها الجديدة إلى توسيع انتشار قواتها البحرية في “مراكز لوجستية” في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وهنا يمكن التذكير باتفاقات سابقة حول تبادل استخدام الموانئ بين موسكو والقاهرة وموسكو والجزائر والاتفاق الذي لم ير النور بعد على إنشاء قاعدة في السودان. وعموماً، تضع موسكو بين أولوياتها تطوير هذه الاتفاقات وإنشاء مراكز لأساطيلها في عدد من بلدان المنطقة.
- لم يَعُد النشاط البحري لروسيا مُقتصراً على العناصر العسكرية الهادفة لمواجهة التهديدات الأطلسية وغيرها. ومع الإبقاء على هذه الأولوية، وزيادة التركيز على البعد العسكري، تظهر الحاجة الروسية إلى ضمان عمليات نقل البضائع والإمدادات في ظروف الحصار الغربي، وكمثالٍ فقد قامت موسكو باستخدام ميناء مصري صغير لنقل 700 ألف طن من النفط أخيراً في مسار يخترق القيود الغربية. وسوف تركِّز موسكو جهدها في المرحلة المقبلة على تعزيز مسارات مماثلة لنقل بضائعها، ما يفتح على فرص للشراكات برغم القيود الغربية المفروضة.
- أيضاً تنص الاستراتيجية الروسية الجديدة على تعزيز حضور موسكو في ملفات الأمن الإقليمي، بما يفتح على تعزيز الشراكات الإقليمية في منطقة الخليج وحوض المتوسط، وهذه أولوية لم تكن بارزة بمستوى واضح في النسخ السابقة للعقيدة البحرية.
.
رابط المصدر: