أحمد عبد الله
عُقِدَ مؤتمر ميونخ للأمن هذا العام (من 17- 19 فبراير 2023) في وقت يشهد فيه المجتمع الدولي العديد من الأزمات والصراعات الدولية والإقليمية، بعضها لم يكن ليخطر على بال أكثر المراقبين تشاؤماً، من قبيل الحرب الروسية-الأوكرانية، وما تمخَّض عنها من أزمات في الطاقة والغذاء، وكذلك التغيُّر المناخي والمسؤولية التاريخية للدول الصناعية عما يعانيه كوكب الأرض من احتباس حراري، فضلاً عن قضايا أمنية أخرى كانت ملفاتها حاضرةً على جدول المؤتمر، مثل ملف البُنى التحتية الاقتصادية العالمية، وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وملف السلامة النووية، وغيرها من التهديدات والتحديات التي تستدعي العودة لمائدة التفاوض بين الدول المتنازعة.
وبالرغم من اهتمام المؤتمرين بتلك الشواغل المختلفة، فإن قضايا الشرق الأوسط، وموقف العرب من الأزمة الأوكرانية، كان لها نصيب من حوارات ونقاشات لجان المؤتمر المتعددة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني ومسألة “حل الدولتين”، والأزمة السورية، والملف الإيراني بشتى تشابكاته، والعراق والدور الإقليمي الذي يمكن أن يؤديه.
المواقف العربية من الأزمة الأوكرانية
من الواضح أن المواقف العربية غير موحَّدة تجاه الأزمة الأوكرانية، فلكل دولة حساباتها ومصالحها التي تسعى لتحقيقها وفقاً لرؤيتها وخبراتها السياسية الخاصة. فعلى سبيل المثال، فسَّر وزير الخارجية الكويتي سالم الصباح تقارُب موقف بلاده من الموقف الأوكراني، من منطلق رفض بلاده الاحتلال؛ وأنها ضد مبدأ تغيير الحدود بالقوة، باعتبار أن الكويت قاست مرارة تلك التجربة قبل أكثر من ثلاثين عاماً بعد غزوها من جانب العراق.
ومن جهته، أعلن وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، صراحةً أن بلاده تُحافِظ على حوار مفتوح مع موسكو التي تربطها بها مصالح من خلال عضويتهما في أوبك بلس، كما أن الرياض تؤمن بأن الحفاظ على الاتصال يسهِّل الحوار بين الأطراف. وأشار إلى أن بلاده تسعى لتعزيز علاقاتها الطيبة مع القوى العالمية كافة من خلال الحفاظ على استقرار سوق النفط.
في الوقت نفسه، بدا واضحاً أن العراق يسعى لمغازلة الغرب لتخفيف الانتقادات الموجهة إلى حكومته بسبب تفشي الفساد، ومعاناة المواطن العراقي من مشكلات جوهرية مثل نقص الكهرباء والطاقة، وعدم توافر فرص العمل. بيد أن العراق لم يُرِد في الوقت ذاته التغريد خارج السرب العربي. ففي حين بحث وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين مع نظيره الأوكراني ديمترو كوليبا سُبُل تعزيز التعاون بين البلدين في شتى المجالات، أكَّد له دعوة بغداد لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، واللجوء إلى التفاوض، وحلّ الخلافات عبر الوسائل السلمية مع روسيا، موضحاً أن “العراق ضد سياسة الحروب؛ لما عاناه جراء انعكاساتها”.
القضية الفلسطينية ومحاولة إنقاذ حل الدولتين
حظيت القضية الفلسطينية بجانب من اهتمام الدول العربية والغربية خلال أعمال المؤتمر. فعلى المستوى الغربي، جاء تعيين كريستوف هويسجن، المستشار السياسي لمستشارة ألمانيا السابقة أنغيلا ميركل، وسفير ألمانيا السابق لدى الأمم المتحدة، رئيساً جديداً لمؤتمر ميونخ ليمنح القضية الفلسطينية سنداً كبيراً لدى صانع القرار الغربي. فقد قدَّم مؤتمر ميونخ هذا العام فلسطين باعتبارها دولة مستقلة، فضلاً عن تعامله مع الحضور الرسمي الفلسطيني باعتبارهم مسئولين من “دولة فلسطين”.
إضافةً لهذا، فإن هيوسجن من الشخصيات المعروف عنها انتقادها لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي ومبادئ الشرعية الدولية، وبناء مستوطنات غير قانونية في القدس الشرقية، وكذلك تأييده للتوصل إلى حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ويؤكد ذلك قيام هيوسجن، حين كان مستشاراً لميركل، بإحباط محاولة لإسرائيل لانتخابها عضواً مؤقتاً في منظمة العمل الدولية، من خلال تقديمه مرشحاً ألمانياً موازياً.
على جانب آخر، أكدت وزيرة خارجية النرويج أنيكين هويتفيلد بعد لقائها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية، أن اجتماع الدول المانحة أنشئ من أجل دعم إقامة الدولة الفلسطينية، وعليه فيجب اتخاذ خطوات عملية لحماية حل الدولتين.
وفي إطار موازٍ، حظي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي باهتمام عربي كبير؛ إذ لاقت القضية الفلسطينية اهتماماً واسعاً من المسؤولين العرب خلال المؤتمر، حيث شدَّد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على ضرورة وقف ما وصفه بـ”الإجراءات الاستفزازية غير المشروعة” لإسرائيل التي تُقوِّض حل الدولتين، مؤكداً أن إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية هو خيار إستراتيجي للدول العربية كافة؛ ولذلك فلا بد من إيجاد أفق سياسي للعودة إلى مفاوضات جادة وفاعلة.
الأزمة السورية
طفا على السطح قضية الوضع المتدهور في سورية، وتعبير عدد من الدول العربية عن مخاوفها حيال هذا الملف المفتوح منذ 2011. فقد عبَّر وزير الخارجية العراقي عن قلقه من الوضع الأمني في سورية التي يوجد مئات الإرهابيين في سجونها، داعياً المجتمع الدولي إلى التكاتف للقضاء على الإرهاب قبل أن يستفحل، مشيراً إلى خبرة بلاده وتجربتها في مجال القضاء على الإرهاب، واجتثاثه من أراضي العراق.
وتمثَّل الملمح الأهم في المؤتمر، في إعلان وزير الخارجية السعودي عن عدم قبول بلاده استمرار الوضع الراهن في سورية، وضرورة وجود توجه عربي مختلف إزاء هذا الملف، وأن ثمة أهمية لوجود مسار واضح مع دمشق بشأنه، الأمر الذي حدا ببعض المراقبين إلى اعتبار ذلك مؤشر تغير محتمل في الموقف السعودي تجاه المسألة السورية. وبالرغم من تأكيد المسؤول السعودي أن الدول العربية مجمعة على عدم قبول استمرار الوضع الراهن، إلا أن حل المسألة السورية قد يتطلب مزيداً من الوقت بالنظر إلى تشابكات الظروف الإقليمية والدولية القائمة، والتي زاد من تعقيدها الأزمة الأوكرانية، وانشغال دول العالم بتداعياتها الأمنية والسياسية والتجارية السلبية.
إيران الحاضرة الغائبة
مع أن الملفات الإيرانية كانت حاضرةً على طاولة مناقشات المؤتمر، إلا أن إيران الرسمية لم يتم دعوتها للمشاركة، وبدلاً من ذلك دُعيت المعارضة الإيرانية للحضور، وكان أبرز الوجوه المعارضة المشاركة رضا بهلوي نجل آخر شاه لإيران.
وثمة اعتقادٌ بأن عدم دعوة حكومة إيران يعد أمراً طبيعياً، نظراً للتأييد الإيراني القوي لروسيا في حرب أوكرانيا، فضلاً عن التعاون العسكري العميق المتبادل بين البلدين، خاصةً في المجال النووي. أيضاً تبدت عدم رغبة القائمين على المؤتمر في دعوة طهران للمشاركة بسبب تلاشي آمالهم في التوصل لاتفاق نووي معها، وقمع السلطات الإيرانية للتظاهرات المُنددة بمقتل مهسا أميني، واستمرار انتهاكات حقوق المرأة، بما فيها فرض ارتداء الحجاب، ما قاد إلى مطالبة العديد من الإيرانيين بضرورة تغيير النظام الحاكم في البلاد.
لهذه الأسباب، فقد أقرَّ هيوسجن -الذي أكد أن مؤتمر ميونخ هو منظمة مؤيدة للسياسة القائمة على قواعد النظام الدولي القائم- بأنه لم يكن محايداً عند استبعاد إيران من حضور المؤتمر، ودعوة المعارضة إليه.
مكاسب محدودة وملفات مفتوحة
لا شك أن المشاركة العربية في مؤتمر ميونخ لهذا العام عكست حرص الدول العربية على خدمة أجنداتها الوطنية، بما فيها تحقيق مصالحها الاستراتيجية مع القوى الغربية. ويبدو أن تراجُع أولوية الملفات العربية، من قبيل القضية الفلسطينية، والملف السوري، والأزمة اليمنية، لصالح قضايا أمن أوروبا (والتي تتصدرها الأزمة الأوكرانية، وملف أزمة الطاقة، وأزمات التغير المناخي، وملف البنى الاقتصادية التحتية) قد أفاد بعض الدول العربية التي تعاني من مشكلات داخلية كبيرة، مثل العراق الذي يعاني من استشراء الفساد السياسي والإداري والمالي، إذ لم يتضمن البيان الختامي ولا تقرير المؤتمر الأولي، مثلاً، انتقاداً صريحاً للحكومة العراقية، بعد أن أظهرت بغداد رغبةً واضحة لتعزيز علاقاتها مع كييف في شتى المجالات.
كذلك فقد تمكن الوفد الفلسطيني من الإبقاء على قضية الدولة الفلسطينية حيَّةً خلال المؤتمر، لاسيما في ظل مناصرة رئيس المؤتمر الجديد لفكرة حل الدولتين، وانتقاده انتهاك إسرائيل للقوانين الدولية، ومواصلتها بناء المستوطنات غير الشرعية.
بيد أن المؤتمر، على صعيد مختلف، فشلَ في التوافق حول حلٍّ حاسم للأزمة الأوكرانية، أو الوصول إلى موقف عملي يُفضي إلى إنهاء الحرب بانتصار أوكرانيا، أو على الأقل إجبار الطرف الروسي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، الأمر الذي يفتح أمام السياسات العربية هامشاً للمناورة في هذا الملف الشائك والصعب، الذي بدأ الأوروبيون أنفسهم يُظهرون بعض التباين في مقاربته والتعامل مع نتائجه وتداعياته.
.
رابط المصدر: