د. عزة هاشم
انشغل الرأي العام الفرنسي مؤخرًا بالصدام الدائر بين الحكومة الفرنسية وناشطين متشددين في شئون البيئة بسبب قرار الحكومة إنشاء مشروع لتخزين المياه الزراعية في غرب فرنسا، وقد احتل المشروع عناوين الصحف الوطنية بعد اشتباكات وُصفت بالعنيفة بين عناصر إنفاذ القانون والناشطين، وهو ما دعا وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين إلى التصريح بأن “أساليب النشطاء ترقى إلى مستوى الإرهاب البيئي”، وتصاعد الجدل العام حول ما تشهده حركة الدفاع عن حقوق البيئة في فرنسا من تطرف متصاعد داخل صفوفها، وما يحدث في فرنسا هو جزء من حركة عالمية متصاعدة للدفاع عن حقوق البيئة بأدوات مباشرة للتغيير تتضمن أحيانًا ممارسات عنف مخالفة للقوانين، وتثير العديد من التساؤلات حول اتجاهات هذا العنف وكيفية احتوائه، وذلك في ظل اهتمام العالم بالتغيرات المناخية وتداعياتها؛ إلا أنه يبدو أن كل قضية مهما بلغت أهميتها ونبل أهدافها قد يقع الدفاع عنها -في بعض الأحيان- في أيدي مجموعات راديكالية ترفض استخدام السبل السلمية في إحداث التغيير المطلوب. ويبدو اقتران مفهوم الدفاع عن البيئة بالإرهاب والتطرف مثيرًا للدهشة نظرًا لما يتضمنه من تناقض في المعاني التي تقرن دومًا المدافعين عن مثل هذه القضايا بالسلمية في الاحتجاج والاتجاه التصالحي في التفاعل مع المختلفين، واستخدام أدوات الضغط التي لا تتعارض مع القوانين الوطنية. وعلى الرغم من أن طوائف المتشددين في هذا الاتجاه لا تزال محدودة نسبيًا، إلا أنها مرشحة لمزيد من التصاعد في حال حدوث صدامات عميقة بين الحكومات والناشطين، وهو ما قد يترتب عليه الإضرار بالقضية التي تعد الآن مركزًا لاهتمام العالم.
هل حان موعد القلق؟
الحديث عن الراديكالية البيئية (radical environmentalism) ليس بجديد، ففي عام 2001 وصف مكتب التحقيقات الفيدرالي “جبهة تحرير الأرض” (وهي جماعة بيئية متشددة وعنيفة) بأنها واحدة من أكبر التهديدات الإرهابية المحلية. وقد أشار الأكاديميون إلى أن المجموعات المتطرفة المدافعة عن حقوق البيئة والحيوان (Radical Environmentalist and Animal Rights) والتي يشار إليها اختصارًا بـ(REAR) تنتشر في حوالي 25 دولة على الأقل، وأنها كانت مسئولة عن أكثر من 1000 عمل إجرامي في الفترة ما بين عامي 1970 و2007 في الولايات المتحدة وحدها، معظمها كان عبارة عن عمليات تخريبية وهجمات على مرافق تُجري تجارب واختبارات على الحيوانات. وعلى مدى الثلاثين عامًا الماضية، تكررت المخاوف بشأن موجات جديدة من “الإرهاب البيئي”.[1] إلا أنها لم تتفشَّ في الفترة الأخيرة بصورة واسعة نتيجة لما حازه الاعتراف بأزمة التغيرات المناخية وتداعياتها من انتشار ومقبولية لدى متخذي القرار.
لقد تقبلت معظم الأحزاب السياسية الرئيسية في الديمقراطيات الغربية (باستثناء القليل منها) الآن حقائق تغير المناخ، وبادرت باتخاذ إجراءات فعلية حيالها، كما أصبحت البيئة جزءًا من الحركة الأوسع المناهضة للرأسمالية، والتي تتميز -في الغالب- بالالتزام باللا عنف والتغيير من القاعدة إلى القمة. ونتيجة لذلك، فإن انتقال النشاط المناخي من الاحتجاجات السلمية، مثل المسيرات في الشوارع، إلى الأعمال العنيفة لا يزال يحدث بمعدلات ضئيلة نسبيًا الآن، ومع ذلك هناك العديد من المؤشرات التي تُرجح أن استخدام العنف في الدفاع عن قضايا البيئة ليس بمستبعد، بل ربما يتصاعد بصورة ملموسة في المستقبل القريب مع تصاعد وتيرة التقلبات المناخية، التي تؤدي بدورها إلى العديد من الكوارث الطبيعية، والتي بدأت بدورها أيضًا في إفساح المجال لظهور العديد من التيارات الراديكالية التي تهدف إلى اتخاذ إجراءات متشددة بهدف إرغام الدول والأنظمة على المحافظة على البيئة.
وعلى الرغم من أن تحركات المدافعين عن البيئة لم تتسبب في وقوع وفيات حتى الآن؛ فإن هناك عددًا من المنظمات المتطرفة التي تُظهر أجندة أكثر عنفًا، وقد أثار رد فعل بعض الأنظمة والدول ضد مبادرات الحفاظ على البيئة بعض المخاوف بشأن قمع الحريات المدنية، والتي قد تؤدي إلى تأجيج غضب المتطرفين ودفعهم إلى اتخاذ إجراءات عنيفة، قد تمثل تهديدًا أمنيًا متزايدًا يمكن أن يتفاقم في المستقبل.[2] على سبيل المثال، تم ترحيل ما لا يقل عن عشرة من النشطاء البيئيين، أو منعهم من الدخول إلى بولندا، بمناسبة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ عام 2018 في كاتوفيتشي، حيث تم اعتبارهم تهديدًا للأمن القومي، وخلال عام 2019، قُتل 46 ناشطًا بيئيًا في الفلبين، بسبب تصنيف هؤلاء الأشخاص بأنهم إرهابيون في ضوء مشروع قانون مكافحة الإرهاب الذي أقرته حكومة دوتيرتي في عام 2019. جاء ذلك بعد قرار الرئيس دوتيرتي في عام 2018 بتصنيف 600 شخص من دعاة حقوق السكان الأصليين والبيئة، ومن بينهم ممثل خاص للأمم المتحدة، في قائمة الإرهاب[3].
تماشيًا مع هذه الاتجاهات، أدرجت المملكة المتحدة مؤخرًا منظمتي Greenpeace وExtinction Rebellion، إلى جانب العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة، في دليل الشرطة لمكافحة الإرهاب المستخدم في حملات مكافحة التطرف في جميع أنحاء البلاد. وقد انخرطت أستراليا في اتجاه مماثل، فقد تضمن كتيب مكافحة الإرهاب لعام 2015، أمثلة على النشاط البيئي كطريق إلى التطرف.
الإرهاب البيئي.. المفهوم والجدل
مصطلح الإرهاب البيئي صاغه للمرة الأولى الناشط في شئون البيئة رون أرنولد Ron Arnold عام 1983، وقد عرف أرنولد “الإرهاب البيئي” بأنه “جريمة تُرتكب لإنقاذ الطبيعة”، ونوّه إلى أن الإرهاب البيئي يشير ببساطة إلى التدمير أو التهديد بتدمير البيئة من قبل الدول أو الجماعات أو الأفراد من أجل ترهيب أو إكراه الحكومات أو المدنيين، وقد تم تطبيق المصطلح أيضًا على مجموعة متنوعة من الجرائم المرتكبة ضد الشركات أو الوكالات الحكومية التي تهدف إلى منع أو التدخل في الأنشطة المزعوم أنها تضر بالبيئة.[4] ويشمل هذا النوع من الإرهاب، المعروف أيضًا باسم الإرهاب البيولوجي bioterrorism، على سبيل المثال، التهديدات بتلويث إمدادات المياه أو تدمير أو تعطيل مرافق الطاقة، فضلًا عن ممارسات مثل نشر الجمرة الخبيثة أو المخاطر البيولوجية الأخرى.[5]
وهناك العديد من الأنشطة العنيفة لبعض مجموعات الناشطين البيئيين التي يتم وصفها بأنها إرهاب بيئي، وتشمل: التعدي على ممتلكات الشركات التي تمارس أنشطة ضارة بالبيئة، مثل قطع الأشجار وغيرها وعرقلة عملياتها، أحيانًا من خلال تخريب معدات الشركة أو تعديل الموارد الطبيعية غير الضارة بيئيًا من أجل جعلها غير مناسبة للاستخدام التجاري، ومن الأمثلة على هذه الممارسة، المعروفة باسم “monkeywrenching,”،[6] سد منافذ نفايات المصانع ودفع المسامير في الأشجار بحيث لا يمكن قطعها وطحنها. وتشمل الأنشطة الأخرى التي توصف بأنها إرهاب بيئي، أعمال الاحتجاج التي تقوم بها جماعات حقوق الحيوان، والتي تضمنت تدمير الممتلكات في المتاجر التي تبيع منتجات مصنوعة من الفراء وقصف المعامل التي تُجري تجارب على الحيوانات.[7]
ويميز بعض الباحثين بين نوعين مختلفين من الإرهاب. أولًا: الإرهاب الإيكولوجي eco-terrorism، الذي يستخدم فيه الأفراد العنف ضد الممتلكات والحقوق المدنية للدفاع عن البيئة أو للإرغام على إحداث تغييرات في السياسة البيئية. ثانيًا: الإرهاب البيئي environmental terrorism، حيث يستخدم تدمير البيئة إما بالحرب أو الأعمال الإرهابية، لبث الرعب لدى السكان لتحقيق أهداف تنظيمية.[8]
وبالتالي، يُستخدم مصطلح “الإرهاب البيئي” للإشارة إلى استخدام أو التهديد باستخدام عنف ذي طبيعة إجرامية ضد الضحايا الأبرياء أو الممتلكات من قبل مجموعة دون وطنية ذات توجه بيئي لأسباب بيئية وسياسية، تستهدف جمهورًا يتجاوز الهدف، وغالبًا ما تكون ذات طبيعة رمزية، ويعترف معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، الذي يصدر سنويًا مؤشر الإرهاب العالمي فقط بثلاث فئات واسعة من الإرهاب، وهي: السياسي، والقومي الانفصالي، والديني. كما يشير إلى أن الإرهابيين البيئيين هم أكثر عرضة للانتماء إلى جماعة إرهابية معينة، وأن نشاطهم يتداخل مع الأنواع الرئيسية للإرهاب، وأنه من غير المحتمل أن يستهدفوا فقدان الأرواح كهدف رئيسي.
وفي دراسة بعنوان “الإرهاب البيئي: تحليل المفهوم” اقترح دانييل شوارتز Daniel M. Schwartz (1998)[9] تصنيفًا يسمح للفرد بأن يميز بشكل منهجي أنواع التدمير البيئي التي يمكن وصفها “بالإرهاب”، حيث يمكن تصنيف التدمير البيئي أو التهديد به على أنه “إرهاب” عندما:
(1) ينتهك أو يهدد بانتهاك القوانين الوطنية و/ أو الدولية التي تحكم الإخلال بالبيئة أثناء أوقات السلم أو الحرب.
(2) يُظهر الفعل أو التهديد الخصائص الأساسية للإرهاب (أي إن للفعل أو التهديد بالعنف أهدافًا محددة، ويستهدف هدفًا رمزيًا).
وتتضمن الحركة البيئية المتطرفة مجموعة واسعة من المنظمات، مثل: منظمة Sea Shepherds الضخمة والممولة تمويلًا جيدًا إلى الإرهابيين البيئيين المنفردين (الذئاب المنفردة) غير المنتسبين لمجموعات بعينها. وقد حارب الإرهابيون البيئيون ضد مجموعة من القضايا، وتشترك جميع المجموعات المتطرفة في ثلاثة عناصر؛ فهم يجادلون بأنه بسبب الضرورة البيئية، هناك حاجة إلى موقف لا هوادة فيه؛ يقضون وقتهم وأموالهم في العمل المباشر لتحقيق هذا الهدف، بدلًا من الضغط على الحكومة والصناعة.[10]
وفي النهاية، فإن تزايد التحركات العنيفة للجماعات المتطرفة يحمل العديد من المخاطر، أهمها الإضرار بالهدف الأهم، نظرًا لما يتضمنه استخدام العنف من تداعيات قد تتسبب في تراجع الاهتمام بقضايا البيئة والتغيرات المناخية، وتتكون اتجاهات مناهضة لها كرد فعل على الممارسات المتطرفة والأضرار التي قد تترتب عليها. من جهتهم، ينتقد العديد من النشطاء والعلماء استخدام مصطلح الإرهاب مع البيئة، بدعوى أنه بدلًا من إطلاق هذه التسمية على الحركات غير العنيفة الناشطة الساعية إلى الاستدامة البيئية، يجب تصنيف الدول والشركات التي تضر بالنظم البيئية والحيوانات على أنها تمارس “إرهاب بيئي”. ويجادل العديد من المتخصصين بأنه في حين أن أنشطة هذه الجماعات تتطابق مع السلوكيات غير القانونية، مثل التخريب أو الحرق العمد أو التعدي، فإن نواياهم تختلف بشكل كبير مع نوايا الإرهاب.10 ومع ذلك، فقد تم اعتبارهم إرهابيين بسبب القبول غير النقدي لمصطلح الإرهاب البيئي، وتطبيقه على هذه الأنواع من الأنشطة غير القانونية[11]، والحقيقة هي أن هذه الحجة لا تتسم بالمنطقية فجميع الإرهابيين يتبنون قضايا قد تبدو ظاهريًا مقبولة، وإذا أُطلق العنان لوضع النوايا في الاعتبار عند التعامل مع السلوكيات التخريبية فسيدخل العالم في نفق مظلم من العنف والعنف المضاد، وقد تمنح هذه الحجة الشرعية للعديد من أعمال العنف والتخريب التي تحدث ظاهريًا لتحقيق أهداف أسمى.
[1]The Next Wave of Extremists Will Be Green, Foreign Policy, SEPTEMBER 1, 2017, available at: https://foreignpolicy.com/2017/09/01/the-green-radicals-are-coming-environmental-extremism/
[2] Spadaro, Paola Andrea. “Climate Change, Environmental Terrorism, Eco-Terrorism and EmergingThreats.” Journal of Strategic Security, vol. 13, no. 4, 2020, pp. 58–80. JSTOR, https://www.jstor.org/stable/26965518. Accessed 12 Nov. 2022.
[3] How Terrorists Leverage Climate Change, New Security Beat, September 9, 2019, available at: https://www.newsecuritybeat.org/2019/09/terrorists-leverage-climate-change/
[4] Elliott, Lorraine. “ecoterrorism”. Encyclopedia Britannica, 13 Dec. 2013, https://www.britannica.com/topic/ecoterrorism. Accessed 12 November 2022.
[5] Ipid.
[6] يستخدم المصطلح لوصف العصيان غير العنيف والتخريب الذي يقوم به نشطاء البيئة ضد أولئك الذين يرون أنهم يقومون بالإضرار بالبيئة، دخل المصطلح حيز الاستخدام بعد نشر رواية المؤلف إدوارد آبي The Monkey Wrench Gang التي صدرت في عام 1975، ووصفت أنشطة مجموعة من “المحاربين البيئيين” في يوتا وأريزونا. ابتداءً من أوائل القرن الحادي والعشرين، تم استخدام المصطلح من حين لآخر للإشارة إلى أشكال أخرى من النشاط العالمي المناهض للرأسمالية، ويختلف هذا المصطلح عن الأنشطة التي يطلق عليها الإرهاب البيئي، كونه يتضمن ممارسات عنيفة، ولكن مع مراعاة الحفاظ على الحياة، وعادة ما يقتصر على شكلين: إما العصيان اللاعنيف أو التخريب الذي لا يعرض الآخرين للخطر بشكل مباشر.
[7] Elliott, Lorraine. “ecoterrorism”. Encyclopedia Britannica, 13 Dec. 2013, https://www.britannica.com/topic/ecoterrorism. Accessed 12 November 2022.
[8]https://www.jstor.org/stable/pdf/26965518.pdf?refreqid=excelsior%3Ab1b1d0c667d41a4188c578e68304e8f2&ab_segments=&origin=&acceptTC=1
[9] Schwartz, Daniel M. “Environmental terrorism: analyzing the concept.” Journal of Peace Research 35.4 (1998): 483-496.
[10] Eagan, Sean P. “From spikes to bombs: The rise of eco‐terrorism.” Studies in Conflict & Terrorism 19.1 (1996): 1-18.
[11]SPADARO, Paola Andrea. Climate change, environmental terrorism, eco-terrorism and emerging threats. Journal of Strategic Security, 2020, 13.4: 58-80.
.
رابط المصدر: