- لورانس بيندنر
- هوغو ميشيرون
- هارون ي. زيلين
“في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع لورانس بيندنر، وهوغو ميشيرون، وهارون زيلين. وبيندنر هي الشريكة المؤسسة لـ “مشروع جَي أو إس”، وزميلة مشاركة في “الشبكة العالمية للتطرف والتكنولوجيا”، وعضوة في “شبكة الأبحاث العالمية” لـ “المديرية التنفيذية للجنة مكافحة الإرهاب” التابعة لـ “مجلس الأمن الدولي”. وميشيرون هو باحث مشارك في مرحلة ما بعد الدكتوراه في “معهد الدراسات عبر الإقليمية” بـ “جامعة برينستون”. وزيلين هو زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن وباحث زائر في “جامعة برانديز”. وفيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
لورانس بيندنر
خلال الأشهر القليلة الماضية شهدت فرنسا تصاعداً في حدة التوترات تمحور حول تطوريْن: محاكمة المشتبه بهم بتنفيذ الهجمات الإرهابية في باريس عام 2015، وإعادة نشر رسوم مجلة “شارلي إيبدو” التي تصور النبي محمد في أيلول/سبتمبر الأخير. وقد أثارت هاتان الحادثتان موجة إدانات ومقاطعات وتحريض على أعمال عنف في مختلف أنحاء العالم، وتفاقمت جميعها عندما رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إدانة الرسوم علناً. وفي الخطاب الذي وجهه في تشرين الأول/أكتوبر حول هذا الموضوع كرر احترام فرنسا لحرية التعبير وتحدث عن “الانفصالية الإسلامية” – وهو موقف اعتبره بعض المسلمين بمثابة مصادقة مستفزة على محتوى الرسوم الكاريكاتورية وانتقاداً للإسلام ككل.
وفي ظل فورة الغضب، اندلعت موجة جديدة من الهجمات داخل فرنسا: في 25 أيلول/سبتمبر أمام مكتب مجلة “شارلي إيبدو” في باريس، وفي 16 تشرين الأول/أكتوبر في بلدة كونفلان سانت أونورين، وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر في كنيسة في نيس. ويمكن استخلاص نقطتين مشتركتين مهمتين من هذه الحوادث. أولاً، تمّ تنفيذ جميع هذه الهجمات باسم الدين ودفاعاً عن النبي محمد. ثانياً، يبدو أن كافة الهجمات هي أمثلة على تحركات جهادية مستقلة بلا قيادة – حيث لم يزعم أي من منفذي الهجمات أنه يتصرف باسم منظمة إرهابية، كما لم تتبنَّ أي جماعة مماثلة لاحقاً أياً من هذه الأحداث.
ولطالما كانت فرنسا هدفاً ذا أولوية كبيرة بالنسبة للجهاديين، الذي يميلون إلى تصوير البلاد على أنها معادية بطبيعتها وتاريخياً للإسلام. وفضلاً عن الازدراء بسياستها الخارجية، وتدخلها في العالم الإسلامي، واستغلالها للموارد في مستعمرات سابقة، يدين بعض المسلمين الثقافة الفرنسية الفريدة القائمة على العلمانية وخطأها السياسي. ولطالما اتسمت الصحافة الفرنسية بطابع تهكمي للغاية – هو إرث من الثورة. كما ينتقد العديد من الجهاديين البلاد بسبب هويتها الكاثوليكية، الأمر الذي كان السبب في استهداف كنيسة “السيدة العذراء” (بازيليك نوتردام) في نيس.
ورغم أن بعض المسلمين يعتبرون أن العلمانية هي التي تمكّن الدولة من التغاضي عن الإسلاموفوبيا والعنصرية الممنهجة، إلا أن هذا المبدأ يهدف في الواقع إلى خلق مجتمع موحد يجمعه المنطق. وانطلاقاً من هذه الرؤية، لا يمكن أن تخضع البلاد للقوانين الإلهية – بل يجب أن تكون الدولة حَكَماً محايداً يقدّر جميع الأديان على قدم المساواة ولا يتدخل في ممارستها. وبالمثل، لا يجب أن تفرض أي طائفة معتقداتها أو ممارساتها على طائفة أخرى. ولكن غالباً ما يُساء فهم العلمانية أو يتم تحريفها، وبالتالي تساعد هذه المغالطات المتطرفين على أن يظهروا بصورة المدافعين في نهاية المطاف عن دين إسلامي يتعرض للهجمات.
كما لقي الرئيس ماكرون إدانة واسعة بسبب قوله إن الإسلام في حالة أزمة في مختلف أنحاء العالم. لكن هذه النقطة انتزعت بالكامل من سياقها الأساسي – وسط موجة من العنف أودت بحياة مواطنين فرنسيين. فقد أشار الخطاب بوضوح إلى الجماعات الجهادية وحلفائها على أنهم أعداء (بقدر ما يتعارضون مع القانون الفرنسي)، وميَّز بوضوح بين هؤلاء الأعداء والمسلمين بشكل عام. علاوةً على ذلك، أقر ماكرون بأن مسلمي فرنسا غالباً ما يعانون من التمييز والحرمان من الحقوق وعدم المساواة في سوقي العمل والإسكان. باختصار، لم يكن خطابه غير متوازن، بخلاف ما زعمه العديد من النقاد.
ومع ذلك، ازداد تباين الرأي العام منذ الهجمات. فالكثير من المراقبين يدعمون إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية التي ظهرت في “شارلي إيبدو” كوسيلة للوقوف في وجه الترهيب والعنف وسط دعم حرية التعبير. في حين أعرب آخرون – ولا سيما المسلمين منهم – عن قلقهم إزاء إعادة طبع هذه الرسوم. وفي الوقت نفسه، يبدو أن معظم المسلمين يدعمون حرية الصحافة ويفهمون حق التجديف؛ وحتى أن مجموعة من القادة الدينيين والمفكرين الإسلاميين نشروا رسالة تدعم العلمانية وتدين مقاطعة المنتجات الفرنسية.
ويتمثل مصدر قلق آخر بأن الأحداث الأخيرة قد تكون فتيلاً لرد فعل مبالغ فيه من قبل اليمين المتطرف. وبالتالي، فإن التحدي الطويل الأمد الذي تواجهه فرنسا هو الصمود في الوقت الذي تواجه فيه الاستقطاب الداخلي المتزايد.
هوغو ميشيرون
على الرغم من أن صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» ألهم شبكات جهادية أوروبية أخرى، إلا أن التنظيم لم يؤسس هذه الشبكات. فجذور الجهاد الأوروبي المنظم تعود إلى تسعينيات القرن الماضي وقد أصبحت أكثر انتشاراً بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة. ويعتبر فهم هذا التاريخ أمراً بالغ الأهمية لتقييم ما تخبئه الحقبة الجهادية في فترة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية».
أولاً، قدِمَت نسبة تزيد عن 70 في المائة من الستة آلاف جهادي أوروبي الذين انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» أو «جبهة النصرة» في سوريا من بلجيكا أو فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا. وشكل المقاتلون القادمون من الدنمارك وهولندا وإسبانيا نسبة إضافية قدرها 20 في المائة. وفي معظم الحالات، ينحدر المقاتلون من عدد قليل من المدن المختارة أو الأحياء في كل بلد: 3-4 مناطق في بلجيكا، و8-10 في بريطانيا، و10-15 في فرنسا، و8-10 في ألمانيا.
ثانياً، لا تتداخل خريطة الجهاد الأوروبي بشكل دقيق مع خريطة التهميش الاجتماعي والاقتصادي – بل في الواقع، جاء معظم المقاتلين الأجانب من مناطق ثرية نسبياً. فقد أتى نحو 90 في المائة من المقاتلين البلجيكيين من بروكسل، و10 في المائة من هوف، إحدى أغنى بلديات البلاد. ولم يأتِ أي مقاتل تقريباً من فالونيا، المنطقة الأكثر فقراً في بلجيكا.
لذلك، على المرء أن ينظر إلى ما هو أبعد من التفسيرات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية عند التقصي عن الأسباب الجذرية للتطرف الأوروبي، مع التركيز بشكل أكبر على الديناميكيات الاجتماعية – الدينية والاجتماعية – الثقافية التي سادت خلال السنوات العشرين الماضية. على سبيل المثال، تتشارك المناطق التي قدِمَت منها الأعداد الكبيرة من المقاتلين تاريخاً من النشاط الإسلامي. كما أنه لا بدّ من تحديد مواقع الجهاديين ضمن مجتمعات إسلامية أوروبية معينة والوسط الإسلامي المتشدد في جميع أنحاء الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.
وعلى الرغم من أنه من الصعب تحديد الموقع الأكثر احتمالاً للهجمات المستقبلية، إلا أنه يمكن القول إن بلجيكا معرضة بشكل خاص. فإلى جانب مساهمتها في توفير العدد الأكبر من المقاتلين الأوروبيين، بالمقارنة مع عدد سكانها، إلى خلافة تنظيم «الدولة الإسلامية»، تعاني البلاد من انقسام إداري وخلل وظيفي. تجدر الملاحظة أن فرنسا وبريطانيا، وبدرجة أقل، ألمانيا وهولندا وسويسرا هي من الدول المعرضة لهجمات أيضاً.
هارون زيلين
يحمل رد فعل المنظمات الجهادية إزاء الهجمات الأخيرة في فرنسا دلالات كبيرة. فقد نشر تنظيم «الدولة الإسلامية» مقالاً افتتاحياً حول هذه الأحداث في رسالته الإخبارية “النبأ”، لكنه التزم الصمت نسبياً على نحو آخر. في المقابل، استخدم تنظيم «القاعدة» الهجمات كوقود لمزيد من التحريض، لا سيما أن الهجمات الأساسية على مجلة “شارلي إيبدو” عام 2015 كان قد نفذها الأخوان كواشي، اللذان سبق أن تلقيا تدريباً في اليمن مع تنظيم «القاعدة في جزير العرب». وبينما تتطلع المنظمة الأم إلى توسيع قاعدتها الجماهرية، فإنها تستخدم القضايا الثقافية والدينية مثل الرسوم الكاريكاتورية لـ “شارلي إيبدو” لصالحها. على سبيل المثال، نشر ذراعها الإعلامي “السحاب” مؤخراً ترجمة باللغة الإنكليزية لرد فعل مصوّر لأيمن الظواهري إزاء الهجمات على المجلة عام 2015 – وهي المرة الأولى التي ينشر فيها ذلك. وفي إطار حادثة مماثلة أخرى، حرضت نشرة إخبارية صدرت عن مجلة “النفير” قراءها على الدفاع عن النبي.
وبالمثل، تسعى الجماعات التابعة إلى استغلال الهجمات الجديدة. فقد أصدر تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و”حركة الشباب” الصومالية بيانات تهنئ فيها الأمة الإسلامية على أعمال العنف، في حين سلطت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» في مالي الضوء على قيامها بالتعبئة لاحتجاجات محلية دعماً للنبي محمد. ويبقى أن نرى ما إذا كان تنظيم «القاعدة» سيعود إلى المخططات الإرهابية الموجهة أو يكتفي بالتحريض وحده في الوقت الحالي.
أما بالنسبة لجماعة «هيئة تحرير الشام» السورية، فقد لجأت إلى أنواع مختلفة من التحريض منذ الهجمات في فرنسا على الرغم من إنكارها رسمياً لروابطها بتنظيم «القاعدة» – في تطور يثير تساؤلات مهمة حول المسار الذي يسلكه الجهاديون السوريون. هل ستوفر قضايا محددة وضيقة مثل التجديف المتصور سبباً آخر لهجمات مستقبلية، وهو الذي يختلف عن طريقة التفكير الجيوسياسية النموذجية التي تدعم العديد من عمليات تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية»؟ أم أن «هيئة تحرير الشام» ستقتصر على التحريض عبر الإنترنت ومواصلة التظاهرات/المنتديات المحلية دعماً للرسول؟ الوقت سيكون كفيلاً بالرد على هذه الأسئلة.
تجدر الإشارة أيضاً إلى التاريخ الراسخ للجهاد التونسي الفرنسي. فخلال الحرب الأهلية في الجزائر، شارك التونسيون في التخطيط والتجنيد لعمليات ضد فرنسا نفذتها “الجماعة الإسلامية المسلحة”، ثم “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” لاحقاً. وبعد انتهاء الحرب، برزت شبكة المتطرفين التونسيين الفرنسيين بشكل خاص في باريس، حيث كان أبو بكر الحكيم محرضاً أساسياً على التطرف. وبعد غزو التحالف للعراق عام 2003، سافر إلى هناك للعمل مع الجماعة المحلية التابعة لتنظيم «القاعدة» بقيادة أبو مصعب الزرقاوي. وعندما حاول العودة إلى وطنه عبر سوريا، ألقى نظام الأسد القبض عليه وسلمه إلى فرنسا.
لكن الحكيم استفاد من هذه الانتكاسة إلى أقصى حد بأن أصبح قوة نافذة ضمن نظام السجون الفرنسي، حيث قام بتعليم الأخوين كواشي وغيرهما من الجهاديين الموهوبين. وبعد أن أنهى محكوميته، عاد إلى تونس (حيث تآمر على اغتيال اثنين من السياسيين اليساريين)، ثم سافر إلى ليبيا وسوريا (حيث أصبح مخططاً رئيسياً للعمليات الخارجية لتنظيم «الدولة الإسلامية»).
وفي ضوء هذه الخلفية، من غير المفاجئ أن ينفذ التونسيون أربع من الهجمات الجهادية التي تم القيام بها في فرنسا منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أبرزها الهجوم المأساوي المنفّذ في يوم العيد الوطني الفرنسي في نيس. وتتشارك الشبكات التونسية في فرنسا العديد من الروابط مع متطرفين ناشئين من الداخل في تونس نفسها، كما أن أعداداً كبيرة من المقاتلين الأجانب الفرنسيين سافروا إلى تونس في طريقهم للالتحاق بدولة الخلافة التي أنشأها تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي الآونة الأخيرة، نفذ مهاجر غير شرعي من تونس كان قد وصل مؤخراً إلى فرنسا عن طريق إيطاليا هجوماً على كنسية في نيس. وتمثل هذه العوامل أساساً منطقياً لتعزيز التعاون الاستخباراتي بين السلطات في باريس والعاصمة تونس.
رابط المصدر: