ونحن الآن على مشارف واحدة من أكثر الانتخابات الأميركية أهمية منذ نهاية الحرب الباردة قبل 35 عاما، يجدر بنا التساؤل كيف ستؤثر النتيجة على الإسلاميين المحليين؟
في الولايات المتحدة، كما هي الحال في أماكن أخرى من الغرب، تعود جذور معظم الجماعات الإسلامية المنظمة إلى جماعة “الإخوان المسلمين”، وبالتالي تحاول العمل ضمن أنظمة قائمة بالفعل لتحقيق هدفها النهائي المنشود المتمثل في إقامة “دولة إسلامية” حسب تصورها. لقد تغيّرت ديناميات تفاعل الإسلاميين الأميركيين مع النظام السياسي بشكل جذري بمرور الوقت، وهو ما سنوضحه فيما يلي.
لدى “الحزب الجمهوري”كتلة تصويت أساسية قوامها المحافظون دينيا. البروتستانت الإنجيليون هم الجزء الأكبر من هذه الكتلة، ولكنها تضم أيضا أعدادا كبيرة من الكاثوليك واليهود الأرثوذكس، والمسلمين على الأقل حتى عام 2001.
كانت الاختلافات الفكرية بين المتدينين أقل أهمية من المسائل السياسية- الإجهاض، والمثلية، وتعليم نظرية التطور، والصلاة في المدارس- وكان هناك اتفاق واسع النطاق حول تلك المسائل. ولهذا السبب، مال الإسلاميون، الذين كانوا من أهم المنظمين للمجتمع المسلم الأميركي، إلى الاصطفاف إلى جانب “الحزب الجمهوري”.
يمكن القول أيضا إن الإسلاميين كانوا طوال التسعينات ينفرون من “الحزب الديمقراطي” بسبب بعض سياسات الرئيس بيل كلينتون
ويمكن القول أيضا إن الإسلاميين كانوا طوال التسعينات ينفرون من “الحزب الديمقراطي” بسبب بعض سياسات الرئيس بيل كلينتون. وبعد تفجير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما سيتي في أبريل/نيسان 1995 على يد إرهابيين مسيحيين بيض، تضمن الرد التشريعي الذي حرّكه الرئيس بيل كلينتون تدابير شددت قبضة النظام المالي على الإرهابيين. وكان من بين الآثار الرئيسة إغلاق بل ومحاكمةالإسلاميين الذين يديرون ما يصفونها بـ”جمعيات خيرية”، التي كانت توفر الموارد لجماعات مثل حركة “حماس”، الفرع الفلسطيني لجماعة “الإخوان المسلمين”.
وأصبح تشريع مكافحة الإرهاب في عهد كلينتون، الذي رأى الإسلاميون أنه تمييزي ضد المسلمين، قضية شائكة في الحملة الانتخابية لعام 2000، حيث أدان المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش استخدام “الأدلة السرية” في جلسات الاستماع المتعلقة بالهجرة، ودافع المرشح الديمقراطي (نائب الرئيس كلينتون) آل غور عن القانون.
خلال مسيرة اليوم الإسلامي السنوي في نيويورك، 25 سبتمبر 2022
خلال الحرب الباردة، وخاصة بعد التغييرات في “الحزب الديمقراطي” أواخر الستينات، كان المسلمون على علاقة قوية بالجمهوريين في المشروع المشترك لمواجهة الشيوعية، باعتبارها أيديولوجيا ملحدة متشددةدمرت الإسلام إلى حد كبير داخل الاتحاد السوفياتي. وعندما غزا السوفيات أفغانستان ذات الأغلبية المسلمة في عام 1979 وحاولوا فرض أيديولوجيتهم على تلك الدولة أيضا، دعّم الرئيس الجمهوري رونالد ريغان المقاومة المناهضة للشيوعية كجزء من عقيدة ريغانالتي ساندت المتمردين المناهضين للشيوعية في كل مكان، تلك المقاومة كانت متبناة من ميليشيات إسلامية ناشطة في المقاومة الأفغانية. وكان الديمقراطيون أكثر تحفظا بشأن هذه السياسة.
الجدير بالذكر أن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان خلّف تداعيات على العالم بأسره، لعل أوضحها أن بعض “الأفغان العرب”، وهم بضعة آلاف من العرب الذين قاتلوا الجيش الأحمر إلى جانب المجاهدين الأفغان، قد تعرفوا على مذاهب فكرية وشبكات علاقات جديدة، ثم بدأوا ينقلون هذه الأفكار إلى ديارهم. ونتيجة لذلك، اندلعت حركات تمرد إسلامية في مصر والجزائر وأماكن أخرى في فترة التسعينات.
الآونة الحديثة
أحداث الحادي عشر من سبتمبر غيّرت كل شيء، كما يُقال، ومن بين ذلك اصطفاف المسلمين في أميركا. كان بوش قد فاز في انتخابات عام 2000، لذلك اضطلع الجمهوريون بالرد الأمني على هذه الهجمات، وقد أثّرت بعض تلك التدابير بشكل غير متناسب على المسلمين وانتفض الإسلاميون ليدافعوا عن أنفسهم بكونهم الضحية وأنهم يعانون التمييز. في الوقت نفسه، كان “الحزب الديمقراطي” يموج بتغييرات مهمة. حيث كان الرئيس كلينتون قد انتقم بسرعة وبقوةعندما ضربت “القاعدة” السفارات الأميركية في شرق أفريقيا وأعلن مرارا وتكرارا عن نيته الإطاحة بصدام. عندئذٍ، أصبح الديمقراطيون غير راضين عن أسلوب القوة الأميركية تماما واتجهوا للتركيز أكثر على مسائل الهوية، التي محت الخلافات بين الليبراليين والصوت المسلم عموما حول السياسة الاجتماعية.
إذا خسر ترمب، وأصبحت منافسته الديمقراطية كامالا هاريس رئيسة، فقد يكون هناك تراجع في السياسة الأميركية يسعى إلى اتباع نهج أكثر استيعابا للإسلاميين
ومع عودة الديمقراطيين إلى السلطة في عام 2009، في عهد الرئيس باراك أوباما، أُعلن عن “بداية جديدة” للعلاقات بين أميركا والمسلمين. وعندما اندلع ما يُسمى إعلاميا بـ “الربيع العربي” بعد عامين والذي أطاح ببعض الحكومات الحليفة للولايات المتحدة، برز الإسلاميون إلى الواجهة في الكثير من هذه الدول. وأوضحت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، النهج الجديد الذي قالتفيه: “من مصلحة الولايات المتحدة أن تتعامل مع جميع الأطراف السلمية والملتزمة باللاعنف… ولذلك نرحب بالحوار مع أعضاء الإخوان المسلمين الذين يرغبون في الحديث معنا”.
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يلقي خطابه التاريخي للعالم الإسلامي في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، مصر في 4 يونيو 2009
في أعقاب ذلك، وصلت جماعة “الإخوان المسلمين” إلى السلطة في مصر ما بعد “الثورة”، لكن أخطاءها كانت كثيرة جدا وكان سقوطها سريعا. ومع تولي دونالد ترمب منصب الرئاسة بدلا من أوباما، في يناير/كانون الثاني 2017، انحازت الولايات المتحدة إلى سياسة مغايرة، فكان أن أنهت رغبة التواصل التي وسمت سنوات أوباما وتبنت نهجا استراتيجيا يسعى إلى تهميش الإسلاميين.
وبحلول هذا الوقت، اكتمل الطلاق بين “الحزب الجمهوري” والإسلاميين. حتى إن السيناتور الجمهوري تيد كروز اقترح مشروع قانون على الكونغرس لتصنيف جماعة “الإخوان المسلمين” منظمة إرهابية أجنبية، وهو الإجراء الذي اتخذته بالفعل حكومات عدة في الشرق الأوسط. وفي حال فوز ترمب، من المتوقع أن يستمر هذا المسار.
لكن إذا خسر ترمب، وأصبحت منافسته الديمقراطية كامالا هاريس رئيسة، فقد يكون هناك تراجع في السياسة الأميركية يسعى إلى اتباع نهج أكثر استيعابا للإسلاميين. وعلى الصعيد المحلي، قد يكون لدى الإسلاميين أيضا مساحة أكبر لأن الديمقراطيين حذرون جدا من أي عمل يبدو أنه يستهدف المسلمين، كما حصل مع قضايا تمويل الإرهاب في التسعينات. الديمقراطيون يرون أن ترمب يكره الإسلام، ومن ثم يسلطون الضوء على قراراته في هذا الصدد، ويصرحون بأنهم يختلفون عنه في هذا الأمر. وهذا ما دفع بايدن لتضمين اقتباسات من القرآن ومن الأحاديثالنبوية في خطاباته لإظهار تسامحه مع الإسلام واحترامه للمسلمين.
خلال تظاهرة لدعم الفلسطينيين في كلية مقاطعة مونتغومري، في 5 يناير 2024 في بلو بيل، بنسلفانيا
يمكن اعتبار أحداث غزة التي بدأت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة تحول في نظرة المواطنين الأميركيين المسلمين لـ”الحزب الديمقراطي”. فبالرغم من معرفة الجميع بأن النخبة السياسية بحزبيها الجمهوري والديمقراطي مؤيدة لإسرائيل، فإن موقف إدارة بايدن-هاريس من إسرائيل أمرٌ فاق كل التوقعات. فقد وفّرت الإدارة الديمقراطية جسرا جويا للمساعدات العسكرية لإسرائيل، ولم تبذل جهدا كافيا للضغط على نتنياهو لإيقاف إطلاق النار.
بناء على ذلك الموقف الناعم، تمت إعادة نشر مقاطع قديمة لبايدن يمتدح فيها إسرائيل ويصف نفسه بأنه صهيوني، مما أثار حفيظة العرب والمسلمين. وزاد من حدة الموقف ضده الكلمة التي ألقاها في “عيد الحانوكا” اليهودي المعروف عربيا بـ”عيد النور”، حيث قال بايدن: “دفء التواصل الذي أشعر به مع الجالية اليهودية لا يتزعزع. لقد وقعت في مشاكل وانتقادات عندما قلت قبل بضع سنوات إنه ليس عليك أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا، وأنا صهيوني”.
في أول لقاء لها بعد تسميتها مرشحة رئاسية عن الحزب الديمقراطي خلفا لبايدن، قالت كامالا هاريس: “لن أعدل سياسة الرئيس جو بايدن بشأن الدعم العسكري لإسرائيل”
وفي أول لقاء لها بعد تسميتها مرشحة رئاسية عن “الحزب الديمقراطي” خلفا لبايدن، صرّحت كامالا هاريس: “لن أعدل سياسة الرئيس جو بايدن بشأن الدعم العسكري لإسرائيل”. مثل هذا التصريح سيسحب كل ما قيل عن بايدن على شريكته وبديلته في المنصب.
في المقابل، يصرّ المرشح الجمهوري ترمب على المزايدة على الإدارة الديمقراطية. ووصل به الأمر إلى أن يقول مطلع شهر سبتمبر 2024: “إذا فازوا (يقصد الديمقراطيين)، فإن إسرائيل ستزول. تذكروا هذا فقط. إذا فازوا، فإن إسرائيل ستزول.. يمكنكم أن تنسوا إسرائيل، هذا ما سيحدث. لذا يتعين عليهم (اليهود) الخروج في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني والتصويت لترمب. وإذا لم يفعلوا ذلك، أعتقد أن الوضع سيكون سيئا للغاية”.
عندما نحاول فهم تأثير هذه المواقف والتصريحات على المواطنين المسلمين الأميركيين والإسلاميين، نجد أن الانطباع السلبي منقسم بين من يتبنى موقفا حادا من ترمب خلال فترة رئاسته السابقة، ومن يؤمن بأن الأفعال أبلغ من الأقوال. بمعنى، أن كارهي ترمب-ومنهم المسلمون والناشطون الإسلاميون- ليسوا بحاجة لأحداث غزة ليصطفوا ضده. أما أولئك الذين استمعوا لتصريحات ترمب المزايدة على بايدن، فلن يجدوها أكثر محاباة لإسرائيل من تصريحات بايدن التي أصر عليها حتى بعد هجمات السابع من أكتوبر، والتي قالها صراحة “أنا صهيوني”.
أين نحن الآن؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن جماعة “الإخوان المسلمين”، التي نشأت في مصر عام 1928، سعت إلى إنشاء نظام حكم بعد انهيار الخلافة العثمانية. واستقرت الجماعة على أيديولوجيا الإحياء الإسلامي التي تعادي الغرب والنزعة التوسعية بقوة، وتتطلع إلى تشكيل نظام واحد يحكم جميع المسلمين. ومع تطور الجماعة، ونموها، وتشعبها، ثم تعرضها لمعارضة شديدة في دولة تلو الأخرى في الخمسينات والستينات، بدأت تنتقل إلى تلك الدول الغربية الحرة التي تمقتها، حيث كان لديها مساحة كبيرة من الحرية لممارسة الدعوة وتخطيط تحركاتها التالية لمختلف بلدانها الأصلية. ومع مرور الوقت، تفككت الروابط المباشرة بين التنظيم “الأم” وفروعه التابعة في الغرب، ولكن الأيديولوجيا ظلت ترواح مكانها.
وكما هو الحال في الشرق الأوسط، سعت معظم التنظيمات الإسلامية المنبثقة عن جماعة “الإخوان المسلمين” في الولايات المتحدة لاستقطاب الشريحة الأكثر تعليما ومهنية وثراء من المهاجرين وليس من السكان الأصليين في الولايات المتحدة. وبعيدا عن هذا السرد التاريخي حول فترة الحرب الباردة، وعهد كلينتون، وعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن القراءة السوسيوسياسية المبسطة لدينامية المجتمع الأميركي تشير إلى أن هذه الشريحة من السكان ميالة بطبعها للتصويت لصالح الديمقراطيين. لذلك لم يكن مستغربا أن نرى منظمات الشباب الأميركية المسلمة بكافة أطيافها تحتشد في هذا النطاق للوقوف مع هاريس ضد ترمب.
جمهور المواطنين الأميركيين المسلمين يميل للمحافظة (الحزب الجمهوري) التي يمثلها ترمب تحديدا في قضايا المثلية ومسألة دروس الثقافة الجنسية في المدارس. أما الإسلاميون أصحاب المشروع السياسي، فإنهم ينظرون لـ”الحزب الديمقراطي” على أنه الأكثر تساهلا مع طموحاتهم في التمدد داخل المجتمع الأميركي، وكذلك مع أصدقائهم في بلدانهم الأم حيث سبق ودعمت إدارة أوباما الإسلاميين ذوي الخلفية الإخوانية خلال فترة التظاهرات في دول عربية.
بالنسبة للعرب والمسلمين، كما هي الحال مع جماعات المهاجرين الحديثة في الولايات المتحدة، تشغل مسألة أوطانهم الأم حيزا كبيرا من اهتمامهم
وعلى الصعيد الميداني، أظهر استطلاع جديد للرأي أجري في نهاية أغسطس/آب 2024 أن غالبية الناخبين المسلمين في الولايات المتحدة قرروا عدم التصويت لأي من المرشحين: الجمهوري دونالد ترمب، أو الديمقراطية كامالا هاريس.يأتي ذلك لصالح مرشحة حزب “الخضر”، جيل شالين، التي سينحصر دورها في سحب الأصوات من المرشحين الجمهوري والديمقراطي مما يؤثر غالبا على أحدهما، تماما كما حصل في انتخابات 1992 حينما حصل المرشح المستقل روس بيرو على قرابة 19 في المئة من مجمل الأصوات. كان بيرو وقتها محسوبا على المحافظين،مما شتت الأصوات عن المرشح الجمهوري بوش الأب الذي خسر أمام الديمقراطي كلينتون بسبب الأصوات التي ذهبت لبيرو.
وبالنسبة للعرب والمسلمين، كما هو الحال مع جميع جماعات المهاجرين الحديثة في الولايات المتحدة، تشغل مسألة أوطانهم الأم حيزا كبيرا من اهتمامهم. الاقتصاد والرعاية الصحية والعنصرية الممنهجة كلها قضايا مهمة، ولكن على عكس معظم الكتل الانتخابية هناك اهتمام حقيقي بالسياسة الخارجية لأنها يمكن أن تؤثر على مسار الأحداث للعائلة والأصدقاء في البلد الأم. وبالنسبة للإسلاميين، الذين يرون أن وجودهم في أميركا مؤقت، كونه مجرد ملاذ آمن ريثما يحققون “الانتصار” في أوطانهم، فإن الهدف هو استخدام قوة الدولة الأميركية للضغط على أعدائها وتعزيز مواقف أصدقائها. يضاف إلى ذلك حرص الإسلاميين في إخفاء تفضيلاتهم السياسية في عباءة يسارية تستهوي الجماهير الديمقراطية.
وخلال العقد الماضي، رغم البروز العلني لتصويت المسلمين بسبب خطاب ترمب وسياسات الهجرة وغيرها من المخاوف بشأن معاملة المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية الإسلامية، فإن تصويتهم في الواقع ليس على قدر كبير من الأهمية بشكل ملموس. رغم كونه مهماً نوعاً ما في عدد قليل من الولايات- في ميشيغان ومينيسوتا ونيويورك- ولكن لا يمكن للمسلمين- وحدهم دون تحالفات- في أي من هذه الولايات أن يحدثوا الفرق الحاسم. وعليه، ليس أمامنا سوى الانتظار لنرى ما سيحدث.