عندما بلغت مبلغ الفتيان وعرف الأهل بما آل وأنا في بيت الجد وسط مدينة كربلاء المقدسة، تم نقلي داخل الدار للسكن والمبيت من غرفة الوالدة إلى الغرفة التي استقل بها قبل سنوات شقيقي الأكبر، فكان وكنت وكانت بيننا طاولة استخدمها لوضع الساعة والمحفظة وعلبة السجائر ونفاضة السجائر، وكلما حل في الغرفة كانت أعمدة الدخان هي الحاضرة بيننا، ومرت الأيام والأسابيع وإذا بالدخان قد دخل أنفي ورئتي وصرت أميل إلى التدخين، ولأن التدخين في أعمارنا وبين الأهل كان من الكبائر التي لا تغتفر، فرحت أداري الجريمة بتدخين بقايا السجائر الموضوعة في النفاضة “عقب سيجارة”، وبين فترة وأخرى كنت أستل سيجارة كاملة من العلبة دون معرفة الشقيق وأتعاطها بعدما يخرج إلى دائرة العمل.
واستمر الحال على هذا المنوال بين عقب سيجارة وأخرى كاملة لنحو شهر كامل دخّنت خلالها ما يعادل علبة سجائر ذات عشرين سيجارة حتى ألقي القبض علي بالجرم المشهود، وهذه المرة من الوالدة التي دخلت الغرفة ورأت سحب الدخان تغطي سماء الغرفة، فبصرت إلي بغضب ووجت إلي من كنانة عينها سهام الإتهام بالجرم المشهود، فما كان مني وأنا في حداثة سنِّي إلا أن أدفع الإسهام وأرميها على شقيقي وقلت في جواب الإستجواب: إن ما ترينه من دخان إنما هو بقايا سيجارة شقيقي، فقالت: ولكنه خرج إلى دائرة عمله منذ ساعة؟ قلت: نعم ولأن الغرفة مغلقة فإن الدخان يبقى في سقف الغرفة لفترة طويلة؟
شزرت إليّ وعادت أدراجها غضبى ولسان حالها يقول: ما أكذبك أيها الولد الشقي؟
اعتصرني الغضب من داخلي ليس على نظرات الوالدة التي تبغي الخير لوليدها اليافع فحسب، ولكن غضبت على نفسي وقلة حيلتي حيث جمعت إلى التدخين المفضوح الكذب المقبوح، وآلمني إقدامي على الكذب لإدراكي رغم حداثة سنِّي أنها خصلة سيئة ولأني به واجهت الوالدة التي جاعت من أجل أن أشبع وسهرت الليالي من أجلي، ولأنِّي للتو قد دخلت عالم الإيمان، شعرت حينها بأثقال الخجل وهي تكبس على أنفاسي، وابتل جبيني عرقا وسمّرت عيني إلى الأرض من سوء فعلي لا ألوي على النظر إلى عيني الوالدة، وحيث خرجت وهي ترمي في حضني كرة الغضب التربوي رميت نفسي على السرير متأملا مع الدخان المتصاعد سحب الخيبة التي أمطرت بها نفسي، فعاهدت الله من لحظتها أنا لا أضع نفسي في موضع الكذب، ولا أن أقرّب إلى فمي سيجارة ما دمت حيا، ومضيت على هذا العهد بإذن الله، لإدراكي بأن في التدخين سرطان الرئة وسرطان الجيب، وكلاهما مهلكة للمدخن ومن حوله.
واليوم حينما أتذكر الموقف، أشكر الله كثيرا على نعمة التربية بما منحني من والدة تستعمل النظرات الغاضبة بديلا عن الأكف النازلة على كف جسد غض الأضلاع، في ردع النفس قبل البدن، وكان الشعور بالعار من الكذب رادعا عن التدخين مدى الحياة، ورادعا عن أمور كثيرة مرت وتمر في الحياة اليومية.
هذه الواقعة حضرت سراعا في ميدان الذاكرة وأن أتابع قراءة مسائل الكذب في كتيب “شريعة النواقض” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة، واجتمعت فيه 288 مسألة فقهية مع 45 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، وقد سبقت المسائل والتعليقات مقدمة للناشر وثانية للمعلق وثالثة للمصنِّف.
الإبرام والنقض
لطالما تناهت إلى الأسماع كلمة “النقض”، فتارة نسمع “محكمة النقض” وهي المحكمة العليا الحاكمة في قراراتها على كل المحاكم فتبطل حكماً وتنقض آخر، وتارة أخرى نسمع “حق النقض” أو الفيتو وهو الحق التي أعطته لنفسها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية لنقض القرارات المتخذة في مجلس الأمن الدولي، وهي أميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين.
ووردت الكلمة في القرآن الكريم لتعطي معنى الإبطال والإفساد وتعطيل ما كان قائما من قبل أو تخريب ما كان مبرما كما في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) سورة النحل: 91، ولتوضيح الأمر وتقريب الصورة أضاف تعالى مباشرة: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) سورة النحل: 92، ومنه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام ورفيق الدرب الخضر عليه السلام: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) سورة الكهف: 77، وحيث أُبرم البناء إبتداءً ثم تهالك مع الزمن وأراد الجدار أن يتساقط لينقض البناء الأولي ويسقط تمت إقامته من جديد لتلافي النقص والنقض حتى حين.
هذا المعنى يؤكده الفقيه الكرباسي وهو يمهد لأحكام شريعة النقض بقوله: (فإنَّ النقض هو خلاف الإبرام، والفقهاء اصطلحوا عليه بالأمور التي تزيل آثار الفعل، وهي والمبطل عندهم سواء، فتارة يستخدمون الناقض وأخرى المبطل، ولربما يكون الفرق بينهما لغويا أن الأول أقرب إلى الماديات والثاني أقرب إلى المعنويات، فلو أن أحداً هدّم بناءً قالوا أنقضه، وإذا عطّل أحد عمله قالوا أبطله).
ولا يخفى أن البرم والنقض أو النقص والبرم إنما هي دورة حيوية متكاملة الدوران وبها تقوم حياة الإنسان والأمم، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إن حركة الكون قائمة على النقض والإبرام، والتطور يكمن في هذه الحركة، فما من إبرام إلا وله نقض، ولا نقض إلا وفي قباله إبرام، فالبحث فيزيائي فلسفي، وهو خاضع في كثير منها لإرادة الإنسان تحت أي عنوان كان عقوداً أو إيقاعات، حواراً أو معاهدات كلها خاضعة للإبرام والنقض فلا نقض دون إبرام).
وفي مجال العبادات والمعاملات وغيرها من المسائل التي أبدى فيها الشارع رأيه وهو محور كتيب “شريعة النقض”، فإن الإنسان من حيث الأداء والوجوب واقع بين الإبرام والنقض، ولأن الحكيم لا ينقض غرضه، فإن الحكيم الذي بيّن لعباده سبل الخير والشر، إذ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) سورة الشمس: 7- 10، طلب من خلقه العبادة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات: 56، من أجل صالحهم، وحيث علمنا بحكمة الخالق فإن الطاعة مفروضة، ومقتضاها حسن الأداء في العبادات وكل شؤون الحياة إبراما ونقضا، فإن أبرم المرء عمله بما أبرم وإنْ نقضه أصلح ما أفسده وأبطله، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (والواقع يرشدنا إلى أن الحكيم يتطلع إلى أكثر من سبب لفرض حكم أو ثبت قانون، فكلما أخذت بعين الإعتبار تلك الأسباب كانت حكمة المسن والحاكم أوسع وأشمل، وبما إنَّ الله سبحانه وتعالى حكمته لا تقاس بغيره فإنه لا شك قد أخذ بعين الإعتبار كل ما له دخل في هذا الأمر، فمنا هنا لابد وأن يكون العبد مطيعا لما فرضه الله بعدما علم إنه حكيم في أموره).
بوصلة الإصلاح
بشكل عام: (النواقض هي المبطلات للعبادات أو للعقود والإيقاعات، إلى غيرها)، من قبيل نواقض الصلاة للعبادات، ونواقض البيع للعقود والمعاملات، ونواقض الطلاق للإيقاعات، ويجمعها في العبادات: (أمر واحد وهو حيلولة إقامة الأمر العبادي) إلا برفع النقض أو النقص ليتحقق الوضع الجديد أو ما كان قائما أصالة، وبتعبير الفقيه الكرباسي مع الإستشهاد: (المسألة مسألة رفع ووضع، فبالوضوء تتحقق الطهارة، وبخروج البول تزول الطهارة، ثم بالوضوء تعود وهكذا)، فالوضوء وهو موضع الشاهد إبرام للطهارة وتحقيقها، والتبول نقض لها، وسد النقض والنقص بالوضوء عودة إلى حالة الإبرام الأولى، وهذه القاعدة تجري بشكل عام على كل ما له علاقة بالإنسان من ذكر أو أنثى من قريب أو بعيد.
من هنا فإن المتابع للكتيب سيقف على أحكام كل صغيرة وكبيرة من حيث الإبرام والنقض وسد النقص، وهي على النحو التالي: أحكام الريح، أحكام البول، أحكام الغائط، أحكام إزالة العقل، أحكام النوم، أحكام الحيض، أحكام النفاس، أحكام الإستحاضة، أحكام التكتيف (في الصلاة)، أحكام الكفر (والإرتداد)، أحكام المسّ (جسد الميت بخاصة والحي بعامة)، أحكام الجُماع، أحكام المني (وغيرها من المياه والرطوبات من وذي ومذي وودي)، أحكام القيء، أحكام الكذب، أحكام الغمس (غمس الجسد ورمسه في الماء في الصوم)، أحكام الشرب (عند الصوم والصلاة)، أحكام الأكل (في الصوم والصلاة)، أحكام الحُقنة (عند الصوم)، أحكام التأمين (قول آمين بعد سورة الحمد في الصلاة)، أحكام الماء (ماء الوضوء والغسل)، أحكام القِبلة، أحكام الغصب، أحكام الكلام (أثناء الصلاة)، أحكام الضحك (أثناء الصلاة)، أحكام البكاء (أثناء الصلاة)، أحكام السكوت (في الصلاة)، أحكام العمل (الحركة في الصلاة)، أحكام التأني (في قبال الموالاة في الوضوء والغسل والصلاة والصوم ومراحل الحج والعمرة)، أحكام الطلاق، أحكام الخلل (في عموم العبادات)، أحكام القتل، أحكام فقدان التوالي (في العبادات والمعاملات)، أحكام الشك (شكوك الصلاة)، أحكام الشرط (قيود العقود والإيقاعات والنذور والعهود وغيرها)، أحكام اللِّعان (ونفي الولد)، وأحكام أمور أخرى وأحكام عامة.
ويلاحظ في النواقض مصلحة الإنسان أولا لدنياه وآخرته، لدرء مفسدة وتثبيت مصلحة، وهو أمر فطري يتلقاها بقبول حسن، ويتفهما بروح رياضية، وهو ما يشير إليه الفقيه الكرباسي بقوله: (الذي نفهمه من جميعها – المسائل والأحكام- بل ومن حكمة الله جلّ وعلا أنه جعل الأحكام خاضعة للمصالح والمفاسد، ويلاحظ فيها الوجهتان المادية والمعنوية).
ولعلّ أبلغ المعالم الواضحة من النقض وسد النقص ومن عموم شريعة النواقض هو بيان أهمية الإصلاح الذاتي لما هو قائم وتقوية بنيانه من أصغر ركن في عبادة إلى أكبر عمود في معاملة، ومن كان الإصلاح الذاتي ديدنه كان أقدر على الإصلاح والإعمار على المستوى العام.
رابط المصدر: