محمد اليحيائي
مع تراجع الثقل السياسي لما يُعرف بدول المركز العربي، والتي تمثل مصر والعراق وسوريا، تحركت دول الأطراف ممثلةً بدول الخليج العربية لحماية مجالها السياسي من تأثيرات رياح الربيع العربي، كما سعت جاهدةً لحماية المجال السياسي العربي ومحاولة إعادة الأمور إلى زمن ما قبل اندلاع شرارة الاحتجاجات.
ملخص
تحاول هذه الورقة تقديم أفكار ومقاربات ممكنة لموضوع الإصلاح السياسي والدمقرطة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست، تقوم على مبدأ “التحوُّل” التدريجي من ملكيَّات مطلقة إلى ملكيات دستورية، تحفظ وحدة وتماسك هذه الدول، وتُجنِّبها الهزّات التي شهدتها بعض دول ما يُعرف بالربيع العربي، ولكن عبر توافق واضح ومُعلن بين الشعوب والأسر الحاكمة.
ويخلص الباحث إلى أن الطريق الأنجع للحفاظ على وحدة وتماسك واستقرار دول الخليج يكمن في الحفاظ على نُظم الحكم القائمة الآن، ولكن عبر آلية الحكم الدستوري لا الحكم الفرديّ أو الأسريّ، وأن شرعية هذه الأسر في الحكم مهدَّدة ما لم تكن الشعوب هي مصدر الشرعية ومصدر السلطة.
تقترح الورقة إعادة ترتيب أولويات هذا التحول المنشود إلى الديمقراطية، على أن لا تكون الانتخابات هي البداية؛ فالانتخابات -على أهميتها في العملية الديمقراطية- يمكن استخدامها كأداة لتكريس الاستبداد السياسي ولتقديم صورة خادعة عن ديمقراطية شكليّة، ما لم تكن هذه الانتخابات مسبوقة بإجماع وطني على حتمية الانتقال من حكم الفرد أو الأسرة إلى حكم الدستور، وهو الإجماع الذي لا يتحقق إلا عبر حوار وطني مفتوح بين جميع أطياف ومكوّنات الوطن، بما فيها الأسر الحاكمة في هذه الدول. يليه توافق بين الشعوب والأسر الحاكمة على دساتير تحدِّد العلاقة بين الطرفين، وتنقل هذه الدول من ملكيات مطلقة يستأثر بها الأفراد أو الأسر الحاكمة بالحكم والثروة إلى ملكيات دستورية، تكون السلطة والكلمة الفصل فيها للدساتير وما تُنتجه من مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية تُمثِّل الشعوب.
ويرى الباحث أن الانتخابات تأتي في المرحلة التالية للإجماع والحوار الوطنييْن، وللتوافق على دساتير تُستفتى عليها الشعوب، بحيث تُكرِّس -الانتخابات- مرجعية غير قابلة للمراجعة لتداول السلطة من جهة، ولاتخاذ القرارات الكبرى محل الخلاف بين السلطات من جهة أخرى؛ أي تكريس مفهوم “الشعب مصدر السلطات”.
وبعد تحقيق هذه الخطوات “المقاربات” الممكنة، يُصار إلى عملية إصلاح أكثر شمولية وجذرية تشمل مناحي الحياة الأخرى كالتعليم والتنمية وَفْق أسس أكثر وضوحًا ورسوخًا.
المقدمة
عندما انطلقت شرارة الاحتجاجات الشعبية في تونس يوم الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، وتلاها سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي يوم الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011، وانتقال شرارة الاحتجاجات إلى دول عربية أخرى في مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين وعُمان؛ بات جليًّا لكثير من المراقبين والدارسين، أن المنطقة العربية تشهد موجة من التحوُّل من نُظمِ حكمٍ شمولية إلى نظمِ حكمٍ ديمقراطية، شبيهة بتلك التحولات التي هزّت العالم في عامي 1974 و1990، والتي أُطلق عليها “الموجة الثالثة: الدمقرطة في أواخر القرن العشرين”(1)، لكن الأمر لم يكن كذلك.
ومع تراجع الثقل السياسي لما يُعرف بدول المركز العربي، والتي تمثل مصر والعراق وسوريا، وعلى وجه الخصوص مصر التي سقط نظامها خلال ثمانية عشر يومًا من بدء الانتفاضة الشعبية فيها، تحركت دول الأطراف (دول الخليج العربية) لحماية، ليس فقط مجالها السياسي من تأثيرات رياح الربيع العربي فحسب، كما فعلت في البحرين، وإغلاق هذا المجال على “نموذجها” المحافظ في الحكم، بل تحركت لحماية المجال السياسي العربي ومحاولة إعادة الأمور إلى زمن ما قبل الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011؛ لأن اتساع موجة التحول ورسوخها عربيًّا لن يعني سوى انتقالها إلى دول الخليج، وإحداث التغيير الذي قاومته هذه الدول ولا تزال(2).
إن النتائج “غير المرضيّة” لانتفاضات الربيع العربي -على الأقل حتى الآن- وعودة العسكر إلى الحكم في مصر ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، تكشف حقيقتين تبدوان على قدرٍ من التناقض:
الأولى: مكانة الدولة الخليجية بما لها من قوة اقتصادية ووفرة مالية على التدخُّل خارج حدودها وداخل المجال السياسي والجغرافي لدول عربية كبيرة كمصر واليمن وسوريا.
الثانية: شعور هذه الدولة الخليجية بالخوف من انتشار العدوى، وانتهاء “حالة الحصانة من الديمقراطية” التي تتمتع بها المنطقة العربية أو ما يُعرف بـ”الاستثناء العربي”(3)، وبدء عملية تحوُّل طويلة إلى الديمقراطية، ولكن قد تكون مُكلِّفة للنُّخب والأسر الحاكمة التي لم تعتَدْ، لا الشراكة ولا اقتسام النفوذ والثروة(4).
إن الحالة العربية الراهنة تكشف أن انتقال دول الخليج إلى الديمقراطية لا يجنِّب هذه الدول “مآلات الربيع العربي” فقط، ولكن يساعد على إخراج الدول العربية الأخرى من دائرة الاقتتال والفوضى؛ لأن الاستقرار والديمقراطية مفهومان يقابلان مفهومي الفوضى والحروب، وكلٌّ من تلك الحالات ينتقل بين الدول كالعدوى.
فهل آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم الإصلاح السياسي والدمقرطة في دول الخليج العربية بحيث لا يبدو “الإصلاح” تخريبًا للأوطان كما في نظر بعض الأسر الحاكمة، ولا يبدو تهديدًا لمكانتها التقليدية في أعلى هرم المؤسستين السياسية والاجتماعية في بلدانها، وفي الوقت ذاته لا يبدو أداةً تجميليّة تستخدمها بعض الأسر الحاكمة الخليجية لتكريس نموذجها الحالي في الحكم؟
التحول الديمقراطي: الخطوات المتفق عليها
إن الدلالة الاصطلاحية لكلمة “التحوُّل” تعني المضيّ بخطوات مدروسة ومتفق عليها بين مختلف السائرين/الفاعلين. وعند الحديث عن التحول الديمقراطي فإنّ أول ما يرد إلى الذهن هو فك الارتباط بين “الديمقراطية والثورة” وبين “التغيير والعنف الثوري والتغيير والتخريب”(5).
يُعرّف التحول الديمقراطي بـوصفه مجموعة حركات الانتقال من النظام غير الديمقراطي إلى النظام الديمقراطي والتي تحدث في فترة زمنية محددة، لكن هذه الحركة تشهد موجات ارتداد في الاتجاه المعاكس أو ما يُوصف بالموجة المضادة(6).
ولعلَّ هذا التوصيف ينطبق على ما تشهده المنطقة العربية من حالات انكسار وتشظِّي بعد موجة الربيع العربي التي أسقطت أربعة نُظم تسلطيّة عربية وما تزال تعصف بالخامس، ولكن دون أن تتمكن من تحقيق خطوة التحول إلى الديمقراطية، عدا في حالة واحدة هي الأقرب إلى نموذج التحول الديمقراطي كما في تونس.
الخليج وموضوع الإصلاح: لزوم ما لا يلزم ولزوم ما يلزم
تعاطت دول الخليج العربية الست مع موضوع الإصلاح السياسي والدمقرطة بدرجات ومقاربات مختلفة، لكنها اتفقت جميعها على قضية أن الإصلاح السياسي ينبغي أن يتم بحذرٍ وبطء وانتقائية وربما بمماطلة، وغالبًا في الاتجاه الذي يُكرّس بقاء نظم الحكم القائمة دون تغييرات تُفضي إلى بدء مرحلة التحول إلى الديمقراطية وليس الديمقراطية، حتى إن بعض هذه الدول تراجع عن خُطوات بدَتْ على قدرٍ من الجدية في وقتٍ من الأوقات، باتجاه فتح المجال العام لمشاركة سياسية أكثر انفتاحًا وشفافيةً كالكويت والبحرين وعُمان(7).
لقد تمكنت هذه الدول من التعامل مع دعوات ومطالب الإصلاح السياسي الداخلية والخارجية، بطريقة تقديم لزوم ما لا يلزم ومنع لزوم ما يلزم؛ فالانتخابات بدت لازمةً في دولٍ لا توجد بها مؤسسات تشريعية ونيابية فاعلة ومستقلة، في حين أن حكم الدستور وفصل السلطات أمران غير لازمين أو غير ضروريّيْن، ذلك أن “صفّ الناس في طوابير انتخابية” يمنح قدرًا من الشرعية لنظم الحكم ويُجمِّل صورتها أمام نفسها ومواطنيها وأمام الخارج، بصرف النظر عن مَن ينتخب مَن ولماذا. في حين أن حكم الدستور وفصل السلطات، بما يعنيه من قيام دولة المواطنة، يُضعِف احتكار الأسر الحاكمة للسلطة والثروة، ويُوسِّع دائرة حكم الشعب، ويؤسِّس لحكم الديمقراطية المنشود.
فهل ستتمكن هذه الدول من المضيّ قُدمًا في سياسة الانتقائية والمماطلة دون مخاطر التعرض لهزّات شبيهة بتلك التي تعرضت لها دول ما بات يُعرف بالربيع العربي، لاسيما الدول الخليجية الأقل وفرة في مداخيل النفط والأقل قدرة على الاستمرار في مقايضة صمت الناس بالرخاء الاقتصادي والمعيشي، أو تلك التي تعاني احتقانًا طائفيًّا يُنبئ بالانفجار؛ بسبب سياسات التهميش والشحن ضد طائفة بعينها من مواطنيها، وأيضًا بسبب ما يشهده الجوار الإقليمي من أزمات وحروب وتشظيات هائلة؟
مقاربات إصلاحية: عن الممكن والمطلوب
دأبت النُّخب الثقافية والفكرية، خصوصًا ما عُرف بالتيار الليبرالي في هذه المنطقة، على مناقشة قضايا الإصلاح ومطالب الدستور والتعددية السياسية والحريات العامة، وقد احتلت قضية الديمقراطية حيزًا بارزًا من اهتمامات المثقفين منذ منتصف خمسينات القرن الماضي(8). غير أنَّ مجمل تلك المطالب المبكرة كانت تطرح كحزمة واحدة تأتي عادةً في صيغة “الإصلاح الشامل” أو “الإصلاح الجذري”، ما أضعف إمكانية تحققها في دول لم تتمكن بعدُ من بناء مؤسسات الدولة فيها.
وعوضًا عن عبارات “الإصلاح الجذري” و”التغيير السياسي الشامل” اقترح محمد جابر الأنصاري(9) “شروطًا تدرُّجيّة دُنيا” لبدء أي عملية إصلاح ديمقراطي تهدف إلى تغيير يُرضي جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، بمن فيهم الأسر الحاكمة. هذه الشروط -في هذا السياق وفي هذه المرحلة- يمكن أن تُؤسِّس لمقاربة جديدة للإصلاح السياسي والدمقرطة في منطقة هي الأكثر محافظة في الحكم في العالم، وفي الوقت ذاته لا تُهدِّد مكانة الأسر الحاكمة ولا تُضعف مصالحها، إنما تُعينها على البقاء في الحكم، ولكن على أساس الشراكة مع الشعوب لا على أساس الاستئثار بالحكم والثروة والرأي.
تبدأ هذه الشروط التدرُّجية الدُّنيا بمبدأ قبول الأسر الحاكمة بإمكانية وجود أصوات معارضة ومختلفة من ضمن شرائح شعوبها، دون أن تنازع هذه الأصوات -بالضرورة- الأسر الحاكمة على الحكم، وبالتالي القبول بالحوار معها باعتبارها مكوِّنًا من مكونات الوطن، بصرف النظر عن حجمها ونفوذها وقدرتها على فرض نفسها على السلطة أو على المكونات الأخرى.
المقاربة الإصلاحية الأولى تكمن إذن في قيام حوار وطني مفتوح بين جميع أطراف الدولة الخليجية، بما فيها الجمعيات السياسية والمدنية والنُّخب الثقافية والفكرية والاقتصادية والناشطون السياسيون، دون شروط مسبقة، ودون وصاية من الدولة على الأطراف الأخرى. في الوقت نفسه، فإن قيام الحوار لا يشترط بالضرورة البدء الفوري في عملية التحول إلى الديمقراطية، إنما يكفي البدء بمناقشة الموضوع والاتفاق على أهميته ضمن أجندات الأولويّات الوطنية لكل دولة.
الشرط الثاني هو إيجاد آلية لتداول السلطة سلميًّا، سواء بالتغيير أو التعديل الحكومي، وفي “ظل ثبات الرمز الدستوري للحكم الشرعي، الممثّل للسيادة العليا، طبقًا للأحكام الدستورية المقررة”(10).
بهذا المعني تكون المقاربة الإصلاحية الثانية هي الانتقال بعد مرحلة الحوار الوطني والتفاهمات والتوافقات إلى مرحلة التحضير لكتابة دساتير جديدة تُستفتى عليها الشعوب، وتنقل الحكم في هذه الدول من حكم الفرد إلى حكم الدستور؛ أي قيام ملكيات دستورية يبقى فيها “الرمز الدستوري للحكم الشرعي، الممثل للسيادة العليا” ممثّلًا في شخص الحاكم، الملك أو السلطان أو الأمير أو الشيخ، فيما تُدار الدولة وَفْق آلية الحكم الدستوري الديمقراطي.
الشرط الثالث يكمن في مراعاة الأسر الحاكمة وتحسُّسها رأي الأغلبية، والاحتكام إليها في ما يتعلق بالقضايا الأساسية والمصيرية، وذلك بأسلوب التوافق السياسي. وهذه النقطة تُفضي إلى المقاربة الإصلاحية الثالثة، وهي تكريس الانتخابات والاستفتاءات الشعبية مرجعية لتداول السلطة من جهة، ولاتخاذ القرارات الكبرى محل الخلاف بين السلطات من جهة أخرى؛ أي تكريس مفهوم “الشعب مصدر السلطات”.
الشرط الرابع هو التزام جميع الأطراف “التي في السلطة والتي في المعارضة” والقوى المدنية والثقافية والسياسية الأخرى، بشروط العمل الديمقراطي كافة، في حالات الفوز وحالات الخسارة، وعدم اعتبار الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة ثم الانقلاب عليها.
ولعلَّ هذا الشرط الأخير يُعيدنا إلى الشرط الأول “الاعتراف بالمختلف” والاعتراف بالحق في الاختلاف على قاعدة المصلحة العامة؛ لأن الشرطيْن يدخلان في حالة الثقافي، ويتطلب تحقيقهما وجود تُرْبة وتَرْبية ديمقراطية تبدأ من سنوات التعليم الأولى؛ حيث لا تترسخ الديمقراطية إلا بإصلاح أنظمة التعليم التي بدورها تقوم بتعزيز قيم المواطنة والمسؤولية المدنية(11). وهذا يقود إلى المقاربة الإصلاحية الرابعة والأخيرة بإصلاح التعليم، وإصلاح التعليم لا يتم إلا بعد تحقيق الشروط الثلاثة الأولى للإصلاح السياسي المؤسسي، ووضع الخطوات الأولى في طريق التحوُّل إلى الديمقراطية.
إمكانيات تحقق المقاربات الإصلاحية في الخليج
فهل هذه المقاربات الإصلاحية الأولية ممكنة التحقُّق الآن في دول الخليج العربية (مجتمعة أو منفردة)؟ للإجابة عن هذا التساؤل، يتطلب الأمر:
أولًا: معرفة طبيعة الدولة القائمة الآن في الخليج؛ هل هي دولة ذات أسس وطنية راسخة ومتماسكة وغير متأثرة بطبيعة الجدل والصراع الذي تُنتجه عملية الانتقال الديمقراطي؟
ثانيًا: مدى الثقة التي تتمتع بها الأسر الحاكمة اليوم في الخليج، الثقة في “شرعيتها الحاكمة” التاريخية أو العشائرية أو الاجتماعية، بحيث يمكنها دخول حوار وطني مع جميع الأطراف دون خوف أو ارتباك، ومن ثَمَّ القبول بما يَخْلُص إليه الحوار من قرارات وتوافقات، بما فيها بدء مرحلة عقد اجتماعي جديد عبر كتابة دساتير جديدة تتوافق عليها الشعوب والأسر الحاكمة.
ثالثًا: قدرة وجاهزية القوى السياسية والاجتماعية والنُّخب الفاعلة الثقافية والاقتصادية، على خوض حوار وطني مع الأسر الحاكمة من جهة، ومع بعضها البعض من جهةٍ أخرى؛ بهدف تحقيق المصلحة العامة والتنازل عن المصالح والمنافع الخاصة.
رابعًا: تمثُّل الوعي العام -الوعي الجمعيّ أو الوعي المجتمعي- لشروط الانتقال الديمقراطي والصبر عليه وعلى مراحله، والتي قد تبدو بطيئة ومحبطة أحيانًا، ومفتقدةً للاستقرار المعهود، والتحصُّن ضد مرض “الحنين إلى السلطوية” أحيانًا أخرى.
غنيٌّ عن القول إن هذه الدول تعيش ما وصفه علي خليفة الكوّاري بـ”الخلل المزمن”(12)، والذي يتلخص في أربعة أوجه، هي:
إنتاجي-اقتصادي، ويتمثل في الاعتماد المُطلق على ريع صادرات الثروة الطبيعية المعرَّضة للنضوب، وهي النفط الخام والغاز الطبيعي. وهو خللٌ يتجلّى في تركيب النّاتج المحلي الإجمالي وسائر الحسابات القوميّة الأخرى؛ لأنَّ مصدر هذه المداخيل هو ريع تصدير ثروة طبيعية “ناضبة”، وليس إنتاجية الأفراد والمؤسسات، كما هو الحال في الاقتصاد الإنتاجي.
ومن هنا يمكن توصيف طبيعة الدولة الخليجية القائمة الآن بالدولة الريعية التي “مُنيت فيها سياساتُ تنويع الدّخل بالفشل الذّريع، وتراجعت فيها حرمة المال العام، وتضخَّم استهلاكُ عائدات الثروة النفطية، وذلك على حساب استثمارها لصالح الجيل الراهن والأجيال القادمة، وأصبحت هذه الدّول -في المحصّلة- تُعاني من خلل إنتاجي-اقتصادي مُزمن”(13).
ديمغرافي أو سكاني، ويتمثل في الاعتماد على العمالة الوافدة التي تجاوز عددها أكثر من نصف سكان هذه الدول مجتمعة(14).
أمني، يتمثل في ارتهان هذه الدول في أمنها على الحماية الخارجية، وعلى شراء وتكديس الأسلحة، وتقديم التسهيلات والقواعد العسكرية لقوى غربيّة، تحديدًا “الولايات المتحدة الأميركية”.
سياسي، يتمثل في حكم الاستئثار بالسلطة وحرمان الشعوب من المشاركة السياسية الفاعلة، وعدم مراعاة مبدأ المواطنة الكاملة.
الخاتمة
المفارقة العربية هي أن نماذج الحكم الأكثر تماسكًا والأكثر تلبية لمطالب الدمقرطة، هي النُّظم الملكيَّة، المغرب والأردن، على وجه التحديد، كما التحقت الجمهورية التونسية بمسار التحول الديمقراطي في مرحلة ما بعد الربيع العربي؛ فالحياة البرلمانية والحزبية في المغرب والأردن تعملان بفاعلية مقبولة، كما أن الحريات العامة وحرية التجمُّع والصحافة ومنظمات المجتمع المدني في هاتين الدولتين، هي -أيضًا- تدخل في دائرة المقبول.
هاتان التجربتان العربيتان يمكن أن تمثِّلان مدخلًا قابلًا للتطبيق في دول الخليج العربية. إضافةً إلى ذلك، فإن للدولة الخليجية عامليْن مساعديْن على تحقيق انتقال أكثر سلاسة وهدوءًا إلى الديمقراطية؛ وهما الرخاء الاقتصادي، والعلاقة التي ما تزال وثيقة ومتماسكة بين الشعوب من جهة والأسر الحاكمة من جهة أخرى.
في البحرين حيث العلاقة بين الطرفين تعرضت لشرخٍ كبير، يبقى علاج هذا الشرخ ممكنًا. لكن، وكي تُؤمِن الأسر الحاكمة في تلك الدول، بأن البدء في عملية الدمقرطة والوصول ببلدانها إلى صيغة الملكية الدستورية هو ضمان بقائها في الحكم وضمان وحدة وتماسك هذه البلدان وضمان تنمية اقتصادية أكثر استدامة، لابُدَّ من حصول أحد أمريْن ممكنين، وثمة مؤشرات عديدة على إمكانية حصولهما:
الأول: بروز شخصيات أو أجنحة إصلاحية من داخل الأسر الحاكمة تدفع بأجندة التغيير الديمقراطي وفق رؤية وطنية تعمل على تأكيد شرعية هذه الأسر، ولكن عبر تقديم تنازلات جوهرية، أهمها تقاسم تسيير شؤون الدولة بين الأسرة الحاكمة ومؤسسات الدولة المنتخبة.
ولعلَّ صعود وجوه شابة إلى سُدّة الحكم في بعض الدول وإلى مفاصل صنع القرار السياسي في دول أخرى، وبلوغ وجوه الحكم في دول ثالثة مرحلة الهرَم ما يمهِّد لصعود وجوه جديدة، لعلَّ هذا يمهِّد لبدء مرحلة جديدة وخطاب سياسي جديد ورؤية جديدة تجاه قضايا الدمقرطة والإصلاح السياسي.
الثاني: بلوغ حالة التذمُّر والرفض الشعبي درجة التمرد والعصيان والاحتجاجات المفتوحة التي تهدِّد، ليس شرعية الأسر الحاكمة فحسب بل وجودها أيضًا، خصوصًا مع بقاء أو تفاقم “أوجه الخلل المزمنة” التي أشرنا إليها، وتفشِّي الفساد ونهب المال العام، وعجز مؤسسات الدولة عن القيام بعملها في توفير فرص العمل للشباب وفي إكمال البنى الخدمية التحتية أو صيانتها، بما فيها تلك الأساسية كالتعليم والصحة والطرق والكهرباء والماء؛ لأن التمرد والفوضى والاحتجاجات لا تحتاج بالضرورة إلى تنظيمات اجتماعية أو نقابية لتقودها، وهو ما تفتقده دول الخليج بالأصل، لكنها تحتاج لأنْ يبلغ اليأس والإحباط مَداهما القصوييْن، كما حصل في دولة نفطية كليبيا مثلًا.
__________________________________________
محمد اليحيائي – كاتب وباحث عُماني مختص في قضايا السياسة والإصلاح السياسي.
المراجع
1- Huntington, Samuel P., The Third Wave: Democratization in the late twentieth century. University of Oklahoma Press. Oklahoma City. USA 1993.
2- الرافعي، هاشم، الثابت والمتحول 2015، ص58، “الخليج- نسخة إلكترونية” (تاريخ الدخول 12 يونيو/حزيران 2015)، مركز الخليج لسياسات التنمية: http://bit.ly/1LpgZoH
3- Tijani, Fatimah. The Arab World and Politics of Democracy. Master dissertation. Cyprus International University. 14.1.2014.
4- Parthes. Walker. “Is the Arab World Immune to Democracy”. Survival, Vol50.No6-December 2009-Januray 2009.PP 151-160.
5- بلقزيز، عبد الإله، “الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي: العوائق والممكنات” في، الكوّاري، خليفة وزيداني، سعيد وحجاب، محمد فريد والأنصاري، محمد جابر وآخرون: “المسألة الديمقراطية في الوطن العربي”، الطبعة الثانية 2002، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان.
6- Huntington, Samuel P. previous reference.
7- الخليج: الثابت والمتحول 2015، مرجع سابق.
8- الزيدي، مفيد، “التيارات الفكرية في الخليج العربي1938-1971 “، ص154، الطبعة الأولى 2000، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان.
9- الأنصاري، محمد جابر، “الديمقراطية ومعوقات التكوين السياسي العربي” في، الكوّاري، خليفة وزيداني، سعيد وحجاب، محمد فريد والأنصاري، محمد جابر وآخرون: “المسألة الديمقراطية في الوطن العربي”، الطبعة الثانية 2002، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان.
10- الأنصاري، محمد جابر، المرجع السابق.
11- فاعور، محمد، “التعليم والديمقراطية في العالم العربي”، ديسمبر/كانون الأول 2011، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، الموقع الإلكتروني (تاريخ الدخول 22 يونيو/حزيران 2015): http://ceip.org/1SFsoSj
12- الكواري، علي خليفة، الخليج: الثابت والمتحول2013 ، مركز الخليج لسياسات التنمية، نسخة إلكترونية (تاريخ الدخول 20 يونيو/حزيران 2015): http://bit.ly/1dZikEv
13- الكواري، خليفة، المرجع السابق.
14- الخليج: الثابت والمتحول 2015، مرجع سابق.
رابط المصدر: