الإعدادُ لعصر التحديات الكبرى: أيُّ جديد في استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي الأمريكي؟

عمرو عبد العاطي

 

أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد ما يقرب من 21 شهراً من توليه سدة الحكم في 20 يناير 2021، استراتيجيتها لأمن القومي في 12 أكتوبر الجاري، والتي يطلبها الكونجرس من كل إدارة جديدة منذ عام 1986. وكان من المقرر إصدارها في نهاية العام الماضي، لكن احتمالات الحرب الروسية-الأوكرانية الوشيكة أجلتها، في انتظار اتضاح مساراتها المستقبلية.

 

وتنبُع أهمية استراتيجية الأمن القومي الأمريكي من ثلاثة اعتبارات أساسية، يتمثل أولها في أنها تحدد المصالح الاستراتيجية وأولويات الإدارة الأمريكية، وتحديد أبرز المنافسين، لتكون بمثابة الإطار الحاكم لسياستها الخارجية تجاه التحولات والأزمات الدولية. وينصرف ثانيها إلى أنها تُحدِّد للمشرعين الأمريكيين، لاسيما من حزب الرئيس، بمجلسي الشيوخ والنواب، أولويات الأمن القومي للإدارة لترجمتها في شكل تشريعات. ويتعلق ثالثها بتقديم الاستراتيجية التوجهات العامة للوثائق والاستراتيجيات التي ستصدر عن باقي المؤسسات التنفيذية، لاسيما وزارة الدفاع (البنتاجون)، التي ستصوغ استراتيجيتها المقبلة للدفاع الوطني، وفقاً لاستراتيجية الأمن القومي لعام 2022، حيث حددت أهدافاً استراتيجية واسعة، ستترجمها استراتيجية الدفاع الوطني في تخطيط عسكري لهياكل القوة الأمريكية، وكيفية تحديثها في ضوء الالتزامات التي تضمنتها استراتيجية الأمن القومي، والموارد البشرية والمادية المطلوبة لتنفيذها.

 

تُناقِش استراتيجية الأمن القومي لعام 2022، التي تقع في 48 صفحة، ثلاثة تحديات رئيسة تواجه الولايات المتحدة خلال عقدٍ يصفه الرئيس الأمريكي في مقدمته للاستراتيجية بأنه “حاسم”: أولها، التنافس بين القوى الكبرى (روسيا والصين) لتشكيل مستقبل النظام الدولي، وثانيها، التعامل مع التحديات العابرة للحدود الوطنية، والتي تتطلب تعاوناً دولياً مشتركاً مثل تغيُّر المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والأمراض المُعْدية، والإرهاب، وأمن الطاقة. وثالثها، إصلاح الديمقراطية الأمريكية المدمرة في الداخل بعد سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب الأربعة، التي زعزعت أسس ومبادئ الديمقراطية الأمريكية، وزادت من حد الانقسامات السياسية والحزبية، ومعدل الكراهية بين الأمريكيين.

 

ومِثل باقي الإدارات الأمريكية السابقة فإن استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي ترى أن قوة الولايات المتحدة تبدأ من الداخل؛ ولذلك أعادت التأكيد على التقاليد الديمقراطية الأمريكية، وأهمية تحديث الجيش الأمريكي وتقويته بحيث يكون جاهزاً لعصر منافسات القوى العظمى. بالإضافة إلى تعزيز التحالفات الأمريكية الدولية لتشكيل البيئة الاستراتيجية العالمية، وحل التحديات الدولية المشتركة.

 

التحديان الصيني والروسي 

على خلاف استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي كانت تنظر إلى روسيا والصين بوصفهما التهديدين الرئيسين للولايات المتحدة؛ لكونهما قوتين تعديليتين في النظام الدولي القائم الذي أسسته الولايات المتحدة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتسعيان لإحداث تحولات في قواعده ومؤسساته وقيمه بما يخدم مصالحهما، فإن استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن ترى أن القوتين الروسية والصينية تطرحان تحديات مختلفة، ما يتطلب ردوداً متباينة، حيث تُشكِّل موسكو “تهديداً راهناً” للنظام الدولي، بانتهاكها قوانينه وقواعده بحربها المستمرة ضد أوكرانيا. ولكن الصين بدمجها بين سياساتها التعديلية للوضع الدولي الراهن ونظام حكمها الاستبدادي تعد التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية للولايات المتحدة أكثر من روسيا المضطربة، بعد انكشاف قوتها العسكرية خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ أضحى الجيش الروسي أقل إثارة للمخاوف الأمريكية راهناً مما كان عليه قبل عملياته العسكرية ضد الأراضي الأوكرانية.

 

وقد أشارت الاستراتيجية إلى نية الصين لإعادة تشكيل النظام الدولي القائم، وأنها تمتلك القدرات لتحقيق ذلك، من خلال قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، حيث تستخدم الأخيرة لإبراز مصالحها وقيمها، والقوة الاقتصادية لفرض نفوذها على بعض الدول، لاسيما الفقيرة والنامية، بواسطة دبلوماسية الديون. وفي الوقت الذي تستغل فيه العولمة والانفتاح الاقتصاد العالمي لتعزيز قوتها ونفوذها الاقتصادي فإنها تفرض قيوداً على الشركات الأجنبية للوصول إلى سوقها المحلي؛ مما يجعل العالم أكثر اعتماداً عليها، وفي المقابل تُقلل هي من اعتمادها على العالم. ناهيك عن استثماراتها المتزايدة في تعزيز قوتها العسكرية وتحديث جيشها، وزيادة حضورها العسكري في منطقة الإندو-باسيفيك، والعمل على تقويض التحالفات الأمريكية في تلك المنطقة الاستراتيجية لها ولواشنطن، وفي المناطق الأخرى ذات الأهمية حول العالم.

 

على خلاف استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب، التي كانت تنظر إلى روسيا والصين بوصفهما التهديدين الرئيسين للولايات المتحدة؛ لكونهما قوتين تعديليتين في النظام الدولي القائم، فإن استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن ترى أن القوتين الروسية والصينية تطرحان تحديات مختلفة، ما يتطلب ردوداً متباينة

 

وتُقنِّن الاستراتيجية إلى حد كبير النهج الذي اتبعته إدارة الرئيس بايدن منذ توليه منصبه تجاه الصين، والقائم على أربع ركائز أساسية: أولها، زيادة الاستثمار في الداخل الأمريكي، لتعزيز القدرة التنافسية والاقتصادية والتكنولوجية للولايات المتحدة، حيث تركز الإدارة على الاستثمار الاقتصادي بوصفه أداة لمنافسة القوى العظمى، والذي ينعكس في مشروع قانون البنية التحتية الذي تبلغ قيمته تريليون دولار، وقانون الرقائق والعلوم الذي أجاز 280 مليار دولار لتطوير صناعة أشباه الموصلات داخل الولايات المتحدة.

 

بينما تتمثل الركيزة الثانية في بناء شبكة من التحالفات الواسعة في منطقة الإندو-باسيفيك، مثل إعادة تقوية التحالف الرباعي (الكواد)، الذي يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، وكذلك اتفاقية أوكوس بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وقمة الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) في مايو الفائت، والقمة الأولى بين الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادئ يومي 28 و29 سبتمبر الماضي، لتقييد مساحة بيجين للمناورة.

 

وتقوم الركيزة الثالثة على التنافس بمسؤولية مع الصين للدفاع عن المصالح الأمريكية، عبر وضع قيود على تلك المنافسة مع تجنُّب تحولها إلى عالم من الكتل الجامدة أو إلى صراع أو حرب باردة جديدة، والتعاون مع بيجين بشأن التهديدات الدولية التي تتقدمها قضية تغير المناخ، ومنع الانتشار النووي، وانعدام الأمن الغذائي، والتي تشكل تهديداً وجودياً للمجتمع الدولي.

 

وتتمثل الركيزة الرابعة في تقديم تطمينات وتحذيرات للصين بشأن تايوان، حيث أشارت الاستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة تُعارض استقلال تايوان، وهو خط أحمر لبيجين، لكنها في الوقت ذاته ستحافظ على القدرات الأمريكية لمقاومة أي لجوء صيني للقوة أو الإكراه ضد تايوان.

 

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

أكدت استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن على المقاربة التي تبنَّتها منذ يومها الأول تجاه الشرق الأوسط، والقائمة على تقليل الانخراط الأمريكي في المنطقة في إطار التركيز على منافسة القوى العظمى، وانتقال مركز الاهتمام الأمريكي إلى منطقة الإندو-باسيفيك؛ لمواجهة الصعود الصيني المتنامي، والتهديد الروسي للأمن الأوروبي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولقواعد النظام الدولي الراهن، لاسيما في ظل الجهود العالمية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والنجاحات الأمريكية في هزيمة تنظمي “القاعدة” و”داعش”، وانتهاء سياسة بناء الدول، وفرض الديمقراطية بالقوة. فعلى الرغم من تشديد الاستراتيجية على أهمية المنطقة وتعزيز السلام والازدهار الإقليمي، فإنها أشارت إلى العمل على تقليل متطلبات الموارد التي تفرضها المنطقة على الولايات المتحدة على المدى الطويل.

 

ولذلك لم تحمل الاستراتيجية أيَّ جديدٍ بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، حيث تضمَّنت تعهدات أمريكية تقليدية بدعم الحلفاء والشركاء لتعزيز قدراتهم لردع ومواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، ومواصلة العمل الدبلوماسي لضمان عدم امتلاك إيران لسلاح نووي، مع التأهُّب لخيارات أخرى في حال فشل الدبلوماسية، مع التأكيد على عدم التساهل مع تهديدات إيران ضد الأمريكيين، ومواصلة دعم حل الدولتين للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وهو ما ترجمته الاستراتيجية في خمسة مبادئ رئيسة حاكمة للسياسة الأمريكية تجاه المنطقة، هي:

 

  1. تعزيز الشراكات الأمريكية مع الدول الحليفة لها في المنطقة، لتتأكد من أنه يمكنها الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية.
  2. عدم السماح لقوى إقليمية أو أجنبية بتهديد الملاحة في الممرات المائية بالشرق الأوسط، لاسيما مضيق هرمز وباب المندب، وعدم السماح لأي دولة للسيطرة على أخرى، أو على المنطقة مع خلال العمل العسكري أو التهديد به.
  3. العمل على تقليل التوترات وخفْض التصعيد وإنهاء النزاعات في المنطقة من طريق العمل الدبلوماسي.
  4. تعزيز التكامل الإقليمي مع شركاء واشنطن في المنطقة، وفيما بينهم من خلال هياكل الدفاع الجوي والبحري، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.
  5. العمل على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.

 

لم تحمل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في أكتوبر 2022 أيَّ جديدٍ بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، حيث تضمَّنت تعهدات أمريكية تقليدية بدعم الحلفاء والشركاء لتعزيز قدراتهم لردع ومواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، مع التأهُّب لخيارات أخرى في حال فشل الدبلوماسية

 

وقد تجاهلت الاستراتيجية التأكيد على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، ولدول العالم، والتي تأكدت في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، وإحداث الرئيس بايدن تحول في مقاربته تجاه المنطقة، وإجراء أول زيارة لها في الفترة من 13-16 يوليو الفائت، بعد ثمانية عشر شهراً من أدائه اليمين الدستورية، وهي الزيارة التي كانت مدفوعة بتأثيرات الحرب على أسعار الطاقة العالمية، إذ ارتفعت لمعدلات غير معهودة منذ عام 2008 وانعكست سلباً على الداخل الأمريكي في وقت ترتفع فيه معدلات التضخم لمستويات غير معهود منذ أربعة عقود، قبل أسابيع من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة في 8 نوفمبر المقبل، والتي يحاول فيها الديمقراطيون الحفاظ على أغلبيتهم الهشة بمجلسي الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ). وهو ما تأكد أيضاً في أعقاب قرار منظمة أوبك بلس بخفض الإنتاج بحولي مليوني برميل يومياً بدءاً من شهر نوفمبر المقبل، والتصريحات المنتقدة للقرار، والدعوات المتصاعدة داخل الولايات المتحدة لإعادة النظر في العلاقات الاستراتيجية الأمريكية-السعودية.

 

استنتاجات

رغم توصيف استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن للمشكلات الملحة التي تواجهها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، فإنها تفتقر إلى التفاصيل حول كيفية تخطيط الإدارة لتنفيذ الحلول التي ستضمن قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية. فمع إشارتها إلى أن الولايات المتحدة لن تسمح لروسيا أو لأي قوى دولية أخرى بتحقيق أهدافها من طريق استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، لاسيما بعد حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استخدام القوة النووية في الحرب التي يشنها ضد أوكرانيا، وتوقعات الاستخباراتية الأمريكية بأن بوتين قد يُقدِّم على تلك الخطوة في حال تيقنه من الهزيمة في أوكرانيا، فإن الاستراتيجية لم توضح المقصود بعبارة “لن تسمح”، ولم تُحدد طبيعة رد الولايات المتحدة وحلف الناتو في حال استخدمت روسيا بالفعل سلاحاً نووياً تكتيكياً لتعويض إخفاقات قواتها في أوكرانيا. وقد رفض الرئيس بايدن خلال حواراته الإعلامية وتصريحاته الصحفية توضيح خيارات إدارته في حال استخدم موسكو السلاح النووي في صراعها ضد أوكرانيا.

 

ومع توصيف الاستراتيجية للصين بأنها التهديد الأكثر أهمية للولايات المتحدة، لكن الأخيرة لا تبدو مُستعدة تماماً لخوض حرب كبيرة ضد بيجين، التي تزيد من قوتها العسكرية في منطقة الإندو-باسيفيك، وترفع من مستويات تصعيدها ضد تايوان، إذ استنزفت المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا مخزونات وزارة الدفاع الأمريكية لبعض الذخائر لتصل إلى مستويات حرجة مثل أنظمة صواريخ أرض جو (ستينجر)، ومدافع الهاوتزر وأنظمة الصواريخ المضادة للطائرات (جافلن)، في وقت كانت الوزارة بطيئة في تجديد ترسانتها العسكرية، وهو ما أثار المخاوف بين المسؤولين الأمريكيين من أن الاستعداد العسكري الأمريكي قد يتعرَّض للخطر بسبب النقص في مخزون الذخيرة المخصص للتهديدات غير المتوقعة، كما يؤثر سلباً في القدرات الأمريكية لمواجهة التحدي الصيني.

 

والملاحظ أن الاستراتيجية أخفقت في توصيف التهديد الجيواستراتيجي الأول للولايات المتحدة باعتبارها روسيا قوة إمبريالية عدوانية، لكنها آخذة في التراجُع، والنظر للصين باعتبارها التهديد الاستراتيجي الأكثر أهمية، فالوقائع الراهنة تُشير إلى أن بيجين ليست التحدي الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة؛ فالصين تسعي لإحداث تغيرات في قواعد النظام الدولي الراهن، وليس نسفه وإنشاء نظام بديل، لكون النظام الدولي الحالي يُحقق لها الكثير من المكاسب والمصالح، بعكس روسيا التي تخوض حرباً ضد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، وتُهدد باستخدام السلاح النووي على نحوٍ يُنذِر باندلاع حرب عالمية ثالثة، وتسعى إلى نسف النظام الدولي الراهن لأنه لا يحقق لها الكثير من المكاسب؛ فروسيا وفقاً لذلك تبدو التهديد الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، ولأمن حلفائها في القارة الأوروبية وللنظام الدولي وقواعده.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/al-iedad-lieasr-altahddyat-alkubra-ay-jadid-fi-estiratijiat-idarat-baydin-lil-amn-alqawmi-alamriki

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M