د. ياس خضير البياتي
ومن الواضح أن التكنولوجيا وحدها ليست دواء حاسماً لأمراض العالم، لكن مع ذلك يمكن أن تخلق الاستخدامات الذكية للتكنولوجيا عالماً من الاختلاف، كما يرى رجال الاتصال، لأن مستقبل الروبوتات والبشر سوف يقسمون واجباتهم وفقاً لما يمكن أن يفعله كل واحد على نحو جيد. فالعالم الافتراضي لن يتجاوز ولن يلحق بالنظام العالمي القائم، لكنه سيفرض تقريباً تعقيدات على كل سلوك قيمي، وسيفضل الناس والدول العوالم التي تمتلك تحكماً أكثر فيها، أي عالم افتراضي بالنسبة للناس، ومادي بالنسبة للدول، وسوف يدوم هذا التوتر طالما أن الإنترنت يعمل.
شاهد القول، إن مشكلة القيم ستكون أكثر خطورة عندما تنتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ثقافة الاستخدام الخاطئ لها، وطريقة التعبير عن القيم، والإفرازات القيمية التي تطرحها هذه الوسائل. كما ان انتشار الاتصال والهواتف الذكية حول العالم، سيكون لدى المواطنين قوة أكثر فأكثر من أي وقت آخر في التاريخ البشري، لكن الأمر ستصحبه تكاليف، بشكل خاص على مستوى كل من القيم والخصوصية والأمن. فالتكنولوجيا سوف تجمع وتخزن الكثير من المعلومات الشخصية في مواقع الحاضر والماضي والمستقبل.
ومثل هذه المعلومات لم تكن متوفرة بهذا الشكل من قبل، ويمكن أن تستخدم ضد الفرد والمجتمع، ولا شك أن الدول ستستخدمها ضد الأفراد. وكذلك الأفراد مع بعضهم البعض مما يساهم في نشر الفوضى وتصدع القيم الاجتماعية.
هل تبدو الصورة التي رسمتها قاتمة؟ أم هل صارت حياتنا قاتمة بالفعل، أو بالأحرى خطرة وشديدة الخطورة؟ بالطبع ثمة محاولات جادة يحاولها عدد متزايد من الناس في كل أنحاء العالم لمواجهة الأزمة الكوكبية وتلك (القيم) المعكوسة التي أودت بنا لهذه النقطة، لكن من الصعب أن نهرب من رؤية الواقع، فأن الكثيرين منا متورطون بشكل أو بآخر فيما عرف من قبل إبان الحرب الباردة وخطر الحرب النووية باسم عدم المبالاة المتعمدة والمدروسة.
فبينما نحن نتغاضى ولا نبالي، يعاني بقية البشر في معظم أنحاء العالم من فوراق طبقية قاتلة، وفجوات مرعبة في حق الاتصال، وجوع مدمر، وهي ازمة قيم معكوسة تشكلت بسبب التنشئة البشرية الخاطئة، وثقافة (الحتمية) التي رسختها العولمة الامبريالية، ووسائل الاتصال، من خلال القبول الاعمى بهذه القيم.
فنحن البشر جنس ضار بنفسه، ونكرر باستمرار أخطاء من كانوا قبلنا، وما زالت صفات الطمع والجشع والأنانية هي الصفات المحركة الأساسية للإنسان. نريد دائمًا أن نستغل الآخرين من أجل الوصول للسلطة والتحكم. ويبدو أن النظام التعليمي والمؤسسات الإعلامية هي المثال الأوضح على هذه الصفات.
بيد أنه من الواضح أن فساد الحياة في مجتمعاتنا المعاصرة يزداد بمعدلات متسارعة، ومع تزايده يتزايد العنف وتدمير الكوكب والأنسان، واللامبالاة بكارثة فقدان التاريخ وتصل مستويات الكذب على الذات فيما يخص الدور الذي يلعبه المرء في الأزمات القيمية لمعدلات مذهلة وهي ترتفع مع تدهور الواقع، فنحن نكذب أنفسنا ونحاول دائمًا إلقاء اللوم على الآخرين، في الوقت الذي تصعد فيه وسائل الإعلام ضغطها المركزي، وتتواطأ معها الأنظمة التعليمية التي ترفض التفاعلية، حيث يعود جزء من آلية الكذب التي نمارسها لرغبتنا في ضمان عدم تحديد الآليات التي تروج، لابتعادنا عن الواقع بالأساس؛ وهو ما يجعلنا نصدم بأن (القيم) المريضة هي الواقع ولا بديل لها.
وحسب رأي عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر فأن تقدم العقل بدلاً من أن يُفضي إلى تمكنه، أفضى إلى تسيبه، وأن انتصار العقلانية، بدلاً من أن يصحبها ازدهارها، صاحبها انحلالها، وتمثل هذا التسيب، أو الانحلال، في ظهور قيم متعددة، متصادمة.
جرس الإنذار للإعلام، هو ألا يخلط حابل الاختلاف بنابل الخلاف، وألا يكون مهيجا ومفرقا ومعاكسا، بل يعكس قيم التقارب والتسامح، وهي من ابسط واجباته وأنبلها، لأنه أصبح يدخل كل البيوت، ويشاهده الناس من مختلف الأجيال.
باختصار شديد، نحتاج إلى إعلام يقلب القيم المعكوسة ويجعلها بمستوى سطح الأرض، لا أن يخلق لنا عوالم من المسطحات القيمية المتعرجة والمتصادمة التي تجعل عالمنا يشتعّل بالموت والعنصرية والكراهية. فالبشرية لا تتحمل المزيد من الضغوط والتصادمات القيميّة، والخطابات الإعلامية المعكوسة المصدرة للقيم المعكوسة الشريرة، فما عادت الحياة تستحق كل هذه الصراعات الوجودية والقيمية، لأن العالم صار يمشي مع الأسف إلى الهاوية بالمقلوب!
رابط المصدر: