يتناول هذا الجزء ما يمكن تسميته بتسلل الإلحاد الجديد و الملحدين إلى المدونات خلال الفترة من 2000م-2010م، ويتناول استعراض ثلاث تجارب وخبرات، في ثلاثة مباحث، الأول: صلاح الدين المحسن، الثاني: كريم عامر، الثالث: مدونات متفرقة، وفي مبحث ختامي نعرض لتقييم عام لهذه المرحلة وخصائصها[1].
المبحث الأول: صلاح الدين المحسن
بدأ نشاط صلاح الدين المحسن في التأليف عام 1982م، ورغم أن عدد مؤلفاته تجاوز 15 كتابًا، تنوعت ما بين السيرة الذاتية والنقد السياسي والدعوة إلى الإلحاد، إلا أن الصدى الذي لاقته كتبه كان محدودًا للغاية.
وكانت كتبه الإلحادية تتضمن (مسامرة السماء) المنشورة عام 1992م، ورواية (عبعاطي) المنشورة عام 1996م، لكن الضجة الحقيقية حدثت مع كتابه (ارتعاشات تنويرية) الذي طُبع عام 2000م، والذي تمركز موضوعه حول نقد المفكرين “التنويريين” وهم يحاولون التورية والاختباء خلف النصوص الدينية بدلًا من التصريح الواضح بالإلحاد. شجع محسن هؤلاء التنويريين على إعلان كفرهم بالإسلام صراحةً، ومقتهم للعقيدة الإسلامية والقرآن والسنة، بدلًا من المناوشات والمشاكسات التي لا طائل من ورائها[2].
وخلال صفحات الكتاب، امتلأ (ارتعاشات تنويرية) بالكره الشديد تجاه كل ما هو إسلامي: فهو يهاجم العقيدة الإسلامية ويصفها بالعقيدة البدوية الصحراوية البدائية، ويهاجم القرآن هجومًا دنيئًا داعيًا إياه بالكتاب الذي يحض على الإرهاب والتطرف والتخلف، ويصور النبي محمد بأنه رجل سياسي عسكري لا دافع له سوى تعزيز همجية العصبيات القبليات ونهب الأموال، ويمقت الخلفاء الأربعة الأوائل ويفسر كل أفعالهم تفسيرًا وحشيًا محضًا، ويشتم التراث والتاريخ الإسلامي برمتهما دون أية تمحيص أو تدقيق.
تزامن نشر محسن لكتابه هذا مع كتبه السابقة المعارضة لحكم مبارك، فتمت إحالته إلى القضاء، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان، قضى منهم ثلاثة بالفعل ثم تم الإفراج عنه في عام 2003م[3].
لم أستطع الوصول إلى نسخة ورقية من كتاب ارتعاشات تنويرية، لكن محسن قام برفعه بعد ذلك على شبكة الإنترنت وعلى مدونته الشخصية[4]. هرب محسن بعدما خرج من السجن مباشرة إلى كندا عام 2004م وحصل على اللجوء السياسي هناك، ثم عاود الكتابة عام 2005م، ومازال يكتب حتى يومنا هذا عبر مدونته الشخصية، وعبر موقع (الحوار المتمدن)، ورغم كتاباته الكثيفة، لكن تأثيره يكاد يكون منعدمًا على الساحة، واسمه غير معروف عند أي وسط على الإطلاق، ولا يتجاوز حسابه على موقع فيسبوك حاليًا 150 متابعًا فقط.
المبحث الثاني: كريم عامر
تمثل قضية كريم عامر نقطة التحول المحورية في تاريخ ظاهرة الإلحاد في مصر، لا لأنه أول ملحد في مصر، حيث سبقه الكثيرون كما رأينا، وإنما لسببين أساسيين: الأول هو التوقيت الذي ظهرت فيه القضية حيث كانت ثورة المدونات Blogs الناشئة آخذة في الانتشار في العالم العربي وهو ما عزز حيوية وزخم القضية في أوساط الشباب المصري، أما السبب الثاني فهو الدعم الدولي الذي لاقاه عامر جراء إعلانه للإلحاد من قبل الناشطين والحركات المختلفة، حيث تذكر نهى عاطف أن حادثة عامر “صاحبها تضامن حقوقي دولي كبير، ظهر فيها النظام المصري أقل ليبرالية بكثير من المتوقع”[5]. وهذا العاملان لم يسبقا أي حالة قبل حالة عامر، وسيكونان روتينًا مشتركًا في كل حالات الإلحاد اللاحقة منذئذٍ.
وُلد كريم عامر عام 1984م بدمنهور، ودرس بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، واسمه الحقيقي عبد الكريم نبيل سليمان، وبدأ نشاطه في الكتابة على موقع (الحوار المتمدن) قبل أن ينشئ مدونته الخاصة عام 2004م. بدأ عامر هجوميًا عنيفًا في كتاباته ومركزًا في البداية على نقد موقف الإسلام من المرأة وأظهر بشكل صريح عداوته للنصوص الدينية الإسلامية، وقد تجاوزت مواضيع المرأة أكثر من نصف إجمالي ما كتبه عامر من مقالات حتى 2010م، مما يبين حيوية قضية المرأة وحضورها الطاغي في الخطاب الإلحادي عند عامر خصوصًا وعند حركة الإلحاد الجديد عمومًا.
لم تكن كتابات عامر تُحدث تأثيرًا يُذكر في وقتها عند بداياتها، لكن شرارة عامر الفعلية في المجتمع انطلقت عندما قام بكتابة تدوينته المشهورة (حقيقة الإسلام كما شاهدتها عارية في محرم بك)[6] في أكتوبر 2005م والتي حكى فيها شهادته عن الأحداث الطائفية التي شهدتها الأسكندرية حينذاك بسبب عرض مسرحية مسيئة للإسلام في إحدى كنائس الأسكندرية، فحكى عامر أنه شاهد مجموعة من المسلمين وهم يقتحمون محلات المسيحيين وقاموا بتكسيرها ثم قاموا بسرقة الخمور “كي يسكروا بها بعد يوم جهاد شاق ضد الكفرة الأقباط” حسب رواية عامر.
كريم عامر على اليسار وهو طالب في جامعة الأزهر، ثم بعد عشر سنوات على اليمين وهو ملحد
وزاد الطين بلة عندما اكتشفت إدارة جامعة الأزهر أن عامر كان يدون ضد المناهج الشرعية التي يتلقاها في جامعة الأزهر على مدونته الخاصة على شبكة الإنترنت، بل وصل الأمر أن عامر لم يكتفِ بالنقد الالكتروني فحسب وإنما قام بطبع تدويناته الحادة وتوزيعها على طلبة جامعته[7]. كما نشر عامر مقالًا بعنوان (وداعًا شهر النفاق) يقصد به شهر رمضان وحاكيًا فيه تجربته في إعلانه عن إلحاده ورفضه لصيام الشهر كما يفعل المسلمون، وغيرها من المقالات التي تهاجم الدين الإسلامي هجومًا مباشرًا.
نظرًا لكل هذه التجاوزات بحق أصول الجامعة عُقد مجلس تأديبي لكريم عامر في فبراير 2006م تم فصله على إثره من الجامعة، ورغم ذلك استمر عامر في خطه الفكري ناقدًا الاستبداد الديني والجمود الذي يعاني منه المسلمون حتى انتهي به الأمر ماثلًا أمام المحكمة ومحكومًا عليه بالسجن ليقضي بين جدرانه أربع سنوات منذ 2007م إلى 2010م بتهمة ازدراء الإسلام وإهانة رئيس الجمهورية. وتختلف آراء الناشطين والحقوقيين حول السبب الرئيسي للحكم على كريم عامر هل كان بسبب حيوده عن القيم المحافظة للمجتمع المصري عمومًا والأزهري خصوصًا أم بسبب معارضته لرئيس الجمهورية واستبداده السياسي.
وبغض النظر عن كلا الرؤيتين فقد أحدث سجن كريم عامر ضجة كبيرة جدًا في أوساط الحقوقيين والملحدين لا في مصر فحسب وإنما على مستوى العالم العربي، ونشطت حملة دولية للمطالبة بالإفراج عنه، وتم تدشين موقع www.freekareem.org جُمع فيه مقالات عامر خارج وداخل السجن، وأُجريت معه عدة لقاءات وأخرج العديد من التصريحات داخل وخارج السجن، وبما أنه أول مدون شعبي يُحبس في مصر بسبب تدويناته الالكترونية فقد صار أيقونة نضالية للكثير من الحقوقيين والناشطين.
أما بخصوص الملحدين المصريين فقد مثّل حبس عامر نقطة مركزية لهم، إذ أنه منذ اعتقاله التزم الملحدون المصريون ودعاة الإلحاد في مصر بالحذر، فلجئوا إلى الحديث أو الكتابة بأسماء مستعارة على المدونات واللقاءات الصحفية تجنبًا لنفس مصيره[8]. ومنذئذٍ بدأت ظاهرة المدونات في الانتشار بكثافة وسط الشباب المصري، وسنركز في المبحث القادم على المدونات الإلحادية التي ظهرت تزامنًا مع حبس عامر.
المبحث الثالث: مدونات متفرقة
انتقلت حمّى الإلحاد التي أحدثتها ضجة حبس كريم عامر إلى فضاء المدونات الشخصية، ومثّلت المدونات في هذه الفترة، كما يرى كريم عامر نفسه، “الإعلام البديل الذي أثبت تفوقًا منقطع النظير .. فالمدونات تعطي فرصة لشريحة عريضة من المكممين والصامتين أن يُسمعوا صوتهم للعالم”[9]. استطاع الملحدون التعبير عن أفكارهم والدعوة إلى اعتقادهم من خلال المدونات ولو على نطاق ضيق، فقد وفرت هذه الوسيلة ميزة إخفاء الهوية، مما مكّن الملحدين المصريين من الحفاظ على نشاطهم وتواصلهم من خلالها.
مايكل نبيل سند
كانت من أشهر المدونات التي عقبت سجن عامر مباشرة هي مدونة الناشط السياسي مايكل نبيل سند، ففي عام 2007م أعلن سند تأسيسه لحركة (لا للتجنيد الإجباري في مصر)، وسرعان ما رافق نشاطه السياسي إعلانه لإلحاده على مدونته الشخصية، وكتب مدونته الشهيرة في عام 2010م (أن تكون ملحدًا في مصر) التي دافع فيها عن حقوقه كملحد في القانون المصري، وذكر في لقاء معه في ذات العام أن عدد الملحدين في مصر: “تعدادهم يقدَّر بعشرات الألوف، وربما يصل إلى مائة ألف مصري”[10]. وهو رقم مبالغ فيه بالطبع وغير مبني على أي إحصائية، ولكنه يوضح حماسة وسطحية تناول ظاهرة الإلحاد في هذه الفترة حتى من قبل الملحدين أنفسهم.
وبجانب مدونة سند بدأت بعض الشبكات والمدونات الإلحادية في الانتشار في هذه الفترة مثل مدونة (كافر) المنطلقة عام 2007م[11] التي اتسمت بالتمرد على الموروث الإسلامي بأسلوب غاضب، ومدونة (حجاب، نقاب، وزبالات أخرى) المنطلقة عام 2008م[12] التي كانت تهاجم موقف الإسلام من المرأة ببذاءة شديدة، ومدونة (بصيص) المنطلقة في ذات العام[13] والتي كانت تتمحور حول التحرر من جمود الأديان والانطلاق إلى آفاق العقلانية والتنوير.
كما ظهرت حادثة غريبة في مدونة أحمد منتصر في 2009م[14]، فقد أعلن منتصر في ذلك العام أنه بصدد نشر كتابه (ملحد مسلم). يحكي منتصر في كتابه أنه في أول حياته عاش مع والده في السعودية حيث نشأ سلفيًا محضًا ثم بدأ يشك في دينه بعدما رجع إلى مصر حتى تحول لاحقًا إلى ملحد شرس، أي أنه كان يبذل وقته وجهده في إخراج الناس من ظلمات الإسلام إلى تنوير الإلحاد –بتعبيره- عبر منابر الإلحاد المختلفة في العالم العربي. لكنه مع الوقت أدرك أن هذا هراء لا طائل منه وصار لاأدريًا ليخرج بنظرية (ملحد مسلم) التي حاول فيها “أن يقدم فكرًا وسطيًا بين الإلحاد والسلفية”[15]. لم يخرج الكتاب للنور أبدًا حتى لحظات كتابة هذه السطور، ربما بسبب خوفه من الملاحقة الأمنية إذ أعلن منتصر عزمه على نشر الكتاب في ذات الوقت الذي كان كريم عامر فيه يقضي عقوبته بسبب إعلانه للإلحاد، ونرجح أنه مع تلاحق الأحداث السياسية التي غطت على الاهتمام بالجدل الديني-الإلحادي تمامًا فقد غض منتصر الطرف عن نشر كتابه بعدما وجده غير مناسب لاهتمامات الشباب في تلك الحقبة.
وفي عام 2010م ظهرت مدونة (ملحد إنساني مصري) التي أصدرت “البيان الأول للملحدين المصريين”، بالإضافة إلى مدونة الملحدة آنذاك أميرة طاهر المنطلقة في أبريل 2010م[16]، وكذلك مدونات ياسر جورج الست التي تفرغ فيهم إلى الهجوم على الإسلام بطرق ومقاربات مختلفة[17].
وبالإضافة إلى المدونات كمنصات شخصية ظهرت مجموعة من المنصات الجماعية التي وفرت للملحدين منبرًا يبثون من خلالها أفكارهم ويتبادلون آرائهم، مثل موقع (الحوار المتمدن) الساري منذ 2002م، ومنتدى الملحدين العرب، وشبكة اللادينيين العرب، وغيرهم.
على أي حال، لم تخرج المدونات الشخصية (كريم عامر – مايكل نبيل سند – أحمد منتصر – الخ..) عن حيز المساحات الشخصية وشبكات العلاقات الضيقة جدًا، وظل خطابها محصورًا على دائرة محدودة من الشباب ولم تخرج عن نطاق المدونات الشخصية غير الجماهيرية.
لكن الدعوة الجماهيرية الأولى للإلحاد التي قامت بها هذه “الشلة” من الناشطين الملحدين انطلقت في بدايات عام 2010م حيث ظهرت صفحة Fan Page على موقع فيسبوك بعنوان (الله) كانت تتطاول على الذات الإلهية بصورة مستفزة للغاية لرواد الموقع، وبلغت عدد متابعيها بحلول 15 مارس 2010م حوالي 24 ألف متابع خلال مدة قصيرة وهو ما كان يعد رقمًا ضخمًا في هذه الفترة[18].
أثارت المجموعة ضجة كبيرة على مواقع التواصل وصارت حديث الشباب على فيسبوك وتناولتها مختلف وسائل الإعلام والصحف الالكترونية حتى وصل مداها إلى شبكة France24[19]، وقد قابلت العديد من الأشخاص الذين كانوا في المرحلة الثانوية والإعدادية في هذه الفترة وأكدوا لي جيمعًا أنهم كانوا يتناولون هذه الصفحة مع زملائهم في المدرسة ويبلغون بعضهم البعض بها في تعجب وسخط شديدين.
لم يستطع أحد التعرف على هوية منشئي الصفحة واكتفى الناس بالدعوة إلى الإبلاغ عن الصفحة للموقع لإغلاقها وهو الأمر الذي لم يتم حيث كان صاحبها ينشئ صفحات بديلة باستمرار. ولم يتم إغلاق الصفحة نهائيًا إلا عندما قام موقع (المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير) بتتبع مديري الصفحة ثم ذكر أنهما مصريان يُدعوان أحمد زيدان، وهو طالب بكلية الطب بجامعة القاهرة، وصديقته خريجة كلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية. وبعدما نشر المرصد صور الشخصين ومعلومات شخصية عنهما، قال الموقع إن زيدان تواصل سريعًا مع إدارة المرصد واتفق معها على حذف الصفحة نهائيًا من فيسبوك مقابل حذف جميع بياناته من المرصد حتى لا يتعرض للأذى أو لاستهدافه من قبل جمهور الغاضبين، وهو الأمر الذي وافق عليه المرصد بالفعل واختفى زيدان واختفت معه صديقته تمامًا بعد ذلك مباشرة[20].
ويروي الصحفي فتحي محمود حادثة حصلت عام 2007 يمكن اعتبارها دعوة جماهيرية وإن كانت محدودة كذلك للإلحاد، إذ يذكر أن “بعض الشباب قاموا في وسط القاهرة بتوزيع كتيب «لماذا أنا ملحد» لإسماعيل أدهم .. كانت مجموعة صغيرة من الشباب ليس لها أي تأثير سوى في بعض مقاهي وسط القاهرة، ولم يكن هذا الكتيب معروفًا سوى لدى دوائر المثقفين .. وفجأة أصبح بعض هؤلاء الشباب نجومًا فى الفضائيات المصرية، وظهر أحدهم على أكثر من 3 فضائيات خلال الأيام القليلة الماضية فقط، ليشرح نظريته فى الإلحاد وسط اهتمام إعلامي كبير من برامج التوك شو التي حولت الأمر إلى «مولد سيدى الملحد»!”[21]. لكننا لم نستطع توثيق هذه الحادثة بأي شكل، وتبقى رواية فتحي محمود هي الشاهد الوحيد عليها.
المبحث الرابع: نتائج وخلاصات
يمكننا القول بأن فترة المدونات الشخصية مثلت نقلة نوعية في تشبيك أفكار الملحدين في مصر وربطهم بحركة الإلحاد الجديد في الغرب التي استقوا منها جل أفكارهم، وهو الأمر الذي صرح به الملحد المصري باسمه المستعار (عقل جميل Beautiful Mind) صاحب مدونة (ملحد إنساني مصري) في لقاء صحفي جرى في أغسطس 2010م مع موقع (الأقباط متحدون)، حيث رأى في تجربة الملحدين الجدد New Atheists القدوة والمثل الأعلى في انتشار المد الإلحادي، وأشار إلى أن “الصراع بين الإلحاد والأديان هو صراع بين العلم والجهل، فهي حرب فكرية وثقافية أساسًا، المعارك الأولى بدأت فعلاً في أوربا وأمريكا “على يد الملحدين الجدد من أمثال العالم البريطاني الكبير “ريتشارد داوكنز”، والفيلسوف الأمريكي الشهير “دانييل دانيت”. إن مصر تقع في حزام الدول المتخلفة والرجعية؛ ولذلك سيمضي بعض الوقت قبل أن يصلنا المد الإلحادي من الدول المتقدمة”[22]. وهذا التبني العقدي ذو النزعة النضالية ضد الإسلام هو من أبرز سمات حركة الإلحاد الجديد.
وبالنسبة لعدد الملحدين في مصر في تلك الفترة فإننا نرجح أن عددهم لم يتجاوز على أقصى تقدير بضع المئات من الحالات الفردية، هم أصحاب المدونات أنفسهم في غالب الأمر وقلة قليلة من المعلقين مجهولي الهوية على المدونات نفسها. وجدير بالذكر أننا وجدنا أن أحد المتحدثين في مؤتمر أسقفية الشباب بالكنيسة القبطية الأرثوذوكسية لعام 2007م قد صرح أن 80% من الملحدين الشباب في مصر الذين يتراوح سنهم بين 20 إلى 30 سنة هم مسيحيون سابقون وكانوا خُدامًا في الكنائس المصرية[23]، لكن لم يقدم المتحدث مصدر الإحصائية التي بُني عليها هذا الكلام.
وجاءت الدراسة التي أجراها منصور معادل، أستاذ علم الاجتماع بجامعة Eastern Michigan عام 2005م والتي استغرقت 6 شهور، على رأس الدراسات الموضوعية لعدد الملحدين في مصر في تلك الفترة، إذ أنه أجرى استبيانًا شمل حوالي 928 شاب من القاهرة والإسكندرية والمنيا يتراوح سنهم بين (18-25) عام حول نمط تدينهم وعلاقتهم مع الخالق، وكانت النتيجة أنه لم يعرّف أي من الشباب نفسه على أنه ملحد، وهو ما يوضح غياب هذا النظام الاعتقادي في أوساط عامة الشباب في تلك الفترة بشكل كامل، بعيدًا عن ضوضاء فضاء المدونات الناشئة والناشطين السياسيين[24].
ونختم ملاحظاتنا بشهادة تضيف إلى عالم الإلحاد في مصر مزيدًا من العمق، فبعدما هدأت عاصفة صفحة (الله)، نشرت الناشطة الليبرالية أميرة طاهر في ديسمبر 2018م منشورًا نقدت فيه التيار العلماني المصري التي تبرأت منه بالكلية وتكشف فيه عن بعض الجوانب التي تبين مدى بؤس العلمانيين والملحدين في مصر، حصل المنشور على آلاف الإعجابات والمشاركات وتم نسخه في العديد من منصات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى، لذا يستحق المنشور –رغم طوله- أن ننقله كاملًا ونختم به هذا الفصل حتى نفهم تجربة طاهر في السياق المتعلق بالحالة الإلحادية في مصر بشكل عام سابقاً وحاليًا، تقول أميرة طاهر:
“في الفترة من منتصف ٢٠٠٨ إلى منتصف ٢٠١٠م كنت نشطة جدًا في التيار العلماني الليبرالي المصري وأتردد على صالون د. نوال السعداوي وعضوة بجروب لا للحجاب والنقاب، ونعم للعلمانية لا لتجار الدين، ونسويات مستقلات، وأشياء من هذا القبيل، أكثر ما كان يهمني من نشاطي في تلك الفترة هو الاهتمام بحركة الترجمة من الإنكليزية للعربية لفتح آفاق المتلقي العربي على أفكار الليبرالية الكلاسيكية ومنظريها مثل جون ستيوارت ميل وميلتون فريدمان وأيان راند وآدم سميث وهربرت سبنسر وآخرين، وتزامن ذلك مع محاولات بدائية خجولة لكن مُخلصة للكتابة في اﻷدب والنقد، لكن بمرور الوقت بدأت أنسلخ عن هذه المجموعات، وأضيق بنشطائها ورموزها.
بدأت أرى بأم عيني المستوى الثقافي الضحل لهؤلاء اﻷفراد، وتفكك وتشرذم رؤاهم، وكونهم لا يحملون مشروعًا حقيقيًا للمجتمع ولا حلولاً ﻷي مشكلة، فماذا بعد العلمانية؟ ماذا بعد تفريغ الصدور من العقيدة؟ لا شيء. الليبرالية عندهم تتلخص في إقناع النساء بقلع الحجاب وارتداء الفساتين القصيرة والمشاعية الجنسية، دون الاهتمام بليبرالية الاقتصاد وتحريره من تسلط الحكومة، ودون الاهتمام بجوانب حياتهن المادية الملموسة من تعليم وعمل ومساواة في الفرص والأجور، ولا بقضايا الزواج والطلاق والحضانة، فهذه القضايا ليست جذابة ولا تلفت الانتباه. أكثر ما أتذكره من تلك الفترة كان ناشطة سورية اسمها رندة ولا أذكر لقبها كتبت تدوينة بعنوان لماذا أنا ملحدة وتدوينة أخرى بعنوان اليوم العالمي لفض غشاء البكارة، متجاهلة أن المشاعية الجنسية هي بوابة اضمحلال كل حضارة، وفي الدول الاستهلاكية والنامية تنتهي بالنساء إلى الدعارة، بفعل انغلاق السوق وقلة فرص العمل الشريف.
كان مستواهم الفلسفي ضعيفًا للغاية، وكتاباتهم ضحلة ولا يرقى معظمها لمقال في جريدة صفراء، ورأيت بنفسي كيف يبترون اﻷفكار الاجتماعية والفنية المستقاة من تجارب الغرب من سياقها الزمني والتاريخي هناك ومحاولة تطبيقها عنوة على مجتمعنا الذي لم يمر بنفس الصراعات اللاهوتية التنويرية والثورات البلشفية والحروب النازية الفاشية والحرب الباردة، وينطلق من منطلقات ثقافية مغايرة تمامًا، بحثًا عن بعض الشهرة الرخيصة تحت ادعاء التجديد والتنوير، وركزوا كل اهتمامهم على المرأة وتجاهلوا قضايا الماسكولانية تمامًا، ركزوا على تعرية جسد المرأة وتسليعه للمشاع بدلًا من “سجن الزواج” والحصرية، لدرجة ارتفاع اﻷصوات مطالبة بعودة بيوت البغاء.
الصورة التي أرفقتها أميرة طاهر مع منشورها: في الصورة بالترتيب من اليمين لليسار: مراد وهبة، جابر نصار، دينا أنور، خالد منتصر، سعد الدين الهلالي، فاطمة ناعوت.
هكذا سقط ببطء في عيني المشروع العلماني الليبرالي المصري كاشفاً عن مشروع نرجسي فردي رخيص للشهرة والنجومية الشخصية والأضواء، لكنه فارغ المحتوى لغةً وفكراً، ويعكس فشلاً مخيفاً في حل قضايا المرأة أو المجتمع. وحتى اليوم ما زالت كلمة (مثقف) تصيبني بالغثيان، كبيدق من بيادق السلطة، أو كمتطفل على الإنتلجنتسيا، كما ظهرت العلمانية على حقيقتها في نظري كجزء من تطور المسيحية في أوروبا لكن من المستحيل أن تكون هي التطور الطبيعي للإسلام ﻷسباب تاريخية وثيولوجية بحتة، كما تفاقم الخلاف والتراشق بيني كليبرتارية وبين الليبراليين اليساريين والشيوعيين الذين كانوا يرفضون تحرير الاقتصاد ويطالبون بدولة اشتراكية سلطوية تشرف على إعالة الجميع لكنها لا سلطوية فيما يتعلق بالجنس وحده، في مقابل جهل الغالبية العظمى بمبادئ الليبرالية الكلاسيكية اﻷمريكية.
وضم هذا التيار شخصيات مشبوهة وفاشلة ومطرودة من العالم الحقيقي، ككاهن كهنوت الفلسفة الرشدية مراد وهبة، الذي يريد استدعاء المعركة التي دارت في القرن السادس الهجري إلى العصر الحالي، بنفس شخوصها وآلياتها، ونساء ضائعات من تنظيم العائدون من الحجاب، وجمعية لاكتيويل آي لايك إت، وكتّاب من الدرجة الثالثة خرجوا علينا بكتب ركيكة وغبية ككتاب شريف الشوباشي تحيا اللغة العربية يسقط سيبويه، الذي كتبه بركاكة في عجالة بهدف تدمير اللغة العربية الفصحي، ومحاكم التفتيش لدينا أنور المأخوذ كوبي بيست من جوجل في معركة تنوير مبتذلة ومضحكة تقرن فيها الثقافة بالرقص الشعبي، لدرجة أن إبراهيم عيسى منحها مساحة ثابتة في صحيفته لتكتب فيه وتردد كلامها الببغائي عن “السلفيين والإخوان”، ﻷن كل معلوماتها عن التيار الإسلامي مأخوذة من تصوراتها الساذجة عن الصورة الإعلامية السطحية لحزبي النور والحرية والعدالة في مرحلة ما بعد الثورة.
لا أرى أي مستقبل في المنطقة لما يسمى بالتيار العلماني الليبرالي المصري، كحركة مجهضة وُلِدت ميتة، وإنما أرى المستقبل لتطوير الخطاب الديني، الإسلامي والمسيحي، وفي تحرير الاقتصاد من بطش الجيش وتسلط الحكومة، وإلا قل علينا السلام”[25].
الهامش
[1] كل الأوراق المنشورة، تعبر عن رأي أصحابها ومحرريها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المعهد المصري للدراسات.
[2] يمكن الاطلاع على الكتاب من هنا: https://books.google.com.eg/books?id=shTjBgAAQBAJ
[3] https://www.kuna.net.kw/ArticlePrintPage.aspx?id=1131580&language=ar
[4] http://salah48freedom.blogspot.com/?view=flipcard
[5] نهى عاطف، الإعلام الشعبي بين إعلام الدولة ودولة الإعلام 2005-2015، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع: 2016م)، ص/ 124.
[6] كريم عامر، حقيقة الإسلام كما شاهدتها عارية في محرم بك، تاريخ النشر 22 أكتوبر 2005، تاريخ الزيارة 2 يونيو 2020، الرابط: https://bit.ly/2XW3bN1
[7] كما روى الباحث الحقوقي عمرو عزت، https://eipr.org/blog/عمرو-عزت/2018/10/«غير-موجودين-ولكنهم-تهديد-للأمن-القومي»-الملحدون-ودعاة-الإلحاد-في-مصر
[8] https://eipr.org/blog/عمرو-عزت/2018/10/«غير-موجودين-ولكنهم-تهديد-للأمن-القومي»-الملحدون-ودعاة-الإلحاد-في-مصر
[9] www.kareem-amer.com/2006/05/blog-post_31.html?m=1
[10] http://www.copts-united.com/article.php?I=541&A=21233
[11] https://anamol7ed.wordpress.com/
[12] http://hegabandnekab.blogspot.com/
[13] http://basees.blogspot.com/2010/12/blog-post_16.html
[14] لم يخرج الكتاب للنور أبدًا. https://www.scribd.com/doc/24364628/فرسان-النور-و-ملحد-مسلم-عمرو-عزت
[15] يمكن الاطلاع على الحوار الذي استضافته فيه جريدة الشروق عبر الرابط
[16] https://amirataher.wordpress.com/
[17] http://yassergeorge.blogspot.com/
[18] https://www.maghress.com/tettawen/622
[19] https://www.france24.com/ar/20100317-facebook-god-alive-page-criticized-groups-call-boycott-islam-arab-atheistic
[20] http://www.tanseerel.com/main/articles.aspx?selected_article_no=4226
[21] http://www.ahram.org.eg/NewsQ/339442.aspx
[22] http://www.copts-united.com/article.php?I=541&A=21233
[23] https://www.youtube.com/watch?v=_BB47sHlRTY
[24] Mansoor Moaddel and Stuart A. Karabenick, Religious Fundamentalism among Young Muslims in Egypt and Saudi Arabia, in: Social Forces, Vol. 86, No. 4 (Jun., 2008), pp. 1675-1710.
[25] https://www.facebook.com/IamAmiraTaher/posts/1964932743809497
رابط المصدر: