اعداد : محمد العربي العياري – مركز الدراسات المتوسطية والدولية/ تونس
من المشروع جدا أن نتساءل بعد عقد من الانتقال نحو الديمقراطية، عن الأفق الإصلاحي الذي فتحته هذه المرحلة ومدى استجابتها لفحوى الشعارات التي سبقتها زمنيا ومثلت الإطار التأسيسي لها. هذا التساؤل يمكن أن نستعين في الإجابة عنه بالمعطى الكمي والكيفي واستعراض المنجزات ومشاريع الإصلاح التي تغطي مجال السياسة والاقتصاد وغيرها، لكننا لن نستطيع التمييز بين ما هو كائن وبين إمكانية ما يجب أن يكون دون أن نبحث في الشرط الازم لإمكانية قيام الإصلاحات أو ما سميناه “ما يجب أن يكون”.
لذلك أعدنا البحث في الانتقال نحو الديمقراطية باعتبارها تحيل على سلسلة زمنية تتواتر فيها الأحداث والمتغيرات التي تحدد شرط الإصلاح بل وتكون العامل القادح له. وسنحاول في هذا النص أن نحيط بمفهوم الانتقال نحو الديمقراطية وبيان مميزات هذه المرحلة وشروطها ومعوقاتها.
أولا: في معنى الانتقال نحو الديمقراطية
إذا مأردنا البحث عن المعنى المراد به تعريف الانتقال نحو الديمقراطية، فإننا سوف نعثر على العديد من المقاربات التي حاولت المسك بتعريف جامع ومكثف، لكننا سوف نركز على معنيين: الأول هو أن هذا المفهوم أصبح متداولا منذ الموجة الثالثة للثورات خاصة ما حصل في إسبانيا والبرتغال واليونان وتدعم المطلب الديمقراطي لدى غالبية الشعوب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. هذا العرض التاريخي للمفهوم يمكننا من فهم السياق التاريخي للمطلب الديمقراطي بما يعنيه من رفض للسلطوية والتسلط من قبل الأنظمة وما يرافقه من نضالات شعبية من أجل التغيير. التعريف الثاني يتحدث على مرحلة زمنية تتميز بثلاث فترات: الفترة الأولى هي فترة التأسيس القانوني. الفترة الثانية هي فترة الانتخابات التي ترفع إلى السلطة نخبة سوف تشتغل على الإصلاح المؤسساتي والتشريعي وتواصل مسار التأسيس في جانب الحوكمة وحسن إدارة والتصرف في المال العام وغيره. الفترة الثالثة هي فترة الانغماس في النضال من أجل تغيير البنى المجتمعية بتكثيفاتها الثقافية وغيرها وتدعيم نوع من الممارسة حتى نتجنب العودة إلى الدولة التسلطية.
هذه الفترات الثلاثة تمثل حجر الأساس في مسار تركيز الدولة الديمقراطية والضامن نحو ترسيخ دمقرطة الممارسة والتفكير.
ثانيا: في تناقضات الانتقال نحو الديمقراطية
إذا ماقمنا بمراجعة لشعارات مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية في تونس، سوف نجد كما هائلا من المطالب التي تصنف ثورية بامتياز مثل القطع مع منوال التنمية، تأسيس عدالة جبائيه، إعادة توزيع للثورة إلى آخره من الشعارات التي تدل على تجذر المفهوم الثوري على مستوى التفكير الشعبي وحتى النخبوي على ندرته. لكننا نسقط في تناقض عميق وعائق أمام تحقق هذه المطالب. فالانتقال نحو الديمقراطية يتبنى الثورة كفكر ومهام لكنه على مستوى الممارسة يقطع بصفة جذرية مع تكتيكات واستراتيجيات العمل الثوري في مستوى القرار السياسي والتسيير المؤسساتي. لذلك لا يمكن الدمج بين متناقضين للحصول على نتيجة معينة لأننا سوف نستمر في نفس الجدل، فأن تكون ثوري التفكير وإصلاحي الممارسة، فالنتيجة أنك سوف تقع تحت طائلة الحسابات السياسوية التي تأخذ بعين الاعتبار منطق التوازنات والإصطفافات. طبيعي أن تتعطل عجلة الإصلاح لأن التوازنات تقتضي احترام توجهات واختيارات القديم بمعناه السياسي والمالي على اعتباره متواجدا بشكل مستتر أو واضح كشريك في سياسي واقتصادي.
ثالثا: الانتقال نحو الديمقراطية والنخبة
هناك العديد من القراءات التي تتحدث على دور النخبة في قيادة وإنجاح مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية. في تونس لم نشهد وجود نخبة متساوقة مع اللحظة الثورية وقائدة لهذا المسار الثوري، بل كنا شهودا على تحركات عفوية لم يكن للسياسي فيها دور توجيهي في مرحلة صدامها مع النظام. بل اقتصر دور النخبة على ترتيب شروط اللعبة السياسية الجديدة من جانب التشريع وتنظيم السلطة الجديدة. لذلك لم يكن الفاعل السياسي “النخبة” مركزا على المسار الثوري بل أهمل هذا المسار لصالح المسار الانتقالي، ولم تتمظهر هذه النخبة كفاعلين على مستوى التنظير والممارسة، بل كانوا مجرد أسماء انتخابية فقط وانحرف المسار عن مطالبه بصريح النص القانوني والممارسة معا.
هذا الفاعل السياسي أعاد ترتيب بيت السلطة وقام بتذريتها إلى سلطات موزعة هنا وهناك يتداخل فيها المحلي مع المركزي، وتقف سلطاتها الثلاثة (القضائية والتنفيذية والتشريعية) على خط التماس والمواجهة مما خلق السكتارية والتخندق حول مطلبية فئوية وجهوية وقطاعية وهذا ما جعل من السياسة ممارسة تركز عن الجزئيات دون الكليات.
رابعا: الخلاصة: دولة الخليط
قياسا على ماسبق وإن ورد بصفة اختزالية، فإن الحاصل الطبيعي لدولة تعيش مثل هذا التشظي السلطوي وتقاسم لاعادل للسلطة وارتهان بعض مؤسسات الدولة لأخرى لها نفس الصبغة، كل ذلك وأكثر يجعل من آلية أخذ القرار تكون خاضعة للعديد من التوقيعات والأختام باسم سلط متعددة وأحيانا لاعلاقة لها بموضوع القرار سوى تضمين اسمها احتراما لدستور الانتقال الديمقراطي وتوافقات الديمقراطيين .لذلك لا يمكن للفاعل السياسي أن يقوم بمعجزة الإصلاح والتغيير الجذري المطلوبين , بل سوف يقتصر كل جهده على التلفيق القانوني والخطابي لآليات ترمم ما هو موجود وتستمر نغمة المؤقت إلى ما لانهاية.
أمام هذا الواقع بجزئياته المفسرة لتناقضاته وعناوينه الكبرى المكثفة لخصوصياته، أصبح في حكم الواجب الاشتغال على إعادة الـتأسيس لمرحلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار نواقص التجربة مع المحافظة على منجزات تساعدنا ولو بالحد الأدنى على التفكير المعمق والممارسة المؤسسة على قاعدة المصلحة الوطنية الجامعة تحت قواعد ملزمة للجميع ولا تستثني أحدا باسم القانون أو الأهمية المجتمعية أو الأولوية.
المطلوب هو تجميع طاقات وطنية شابة قادرة على مالم تقدر عليه نخبة مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية.