عمر هشام صفا
لا يزال وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي انتشر ما بين عامي 1918-1919 م مسببًا وفاة حوالي 50 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم يشكل تهديدًا على الصحة العامة في العالم، حيث لا تزال العديد من الأسئلة عن أصوله، وخصائصه الوبائية غير المعتادة، وآليات تسببه في الأمراض، بلا إجابة. ويعتبر وباء الإنفلونزا الإسبانية أكثر الأوبئة خطرًا في التاريخ البشري المكتوب من حيث عدد الوفيات وسرعة وحجم الانتشار.
حجم الوباء
خلال فترة انتشار الوباء، أصيب حوالي ثلث سكان العالم حينها (500 مليون شخص) بالعدوى، وظهرت عليهم أعراض المرض، كان المرض شديدًا بشكل غير معتاد، وتجاوزت معدلات الوفاة بين المصابين بالمرض 2.5% مقارنة بمعدلات وفاة أقل من 0.1% في أوبئة الإنفلونزا الأخرى. وقُدّر إجمالي الوفيات بحوالي خمسين مليون حالة وفاة، وتقول بعض التقديرات بأن العدد تجاوز مئة مليون حالة.
ولا يقتصر تأثير ذلك الوباء على الفترة 1918-1919 فقط، فجميع أوبئة الإنفلونزا A التي انتشرت منذ ذلك الحين، ومعظم حالات الإصابة بالإنفلونزا A في جميع أنحاء العالم (باستثناء الإصابات البشرية من فيروسات الطيور مثل H5N1 و H7N7) ناتجة عن سلالات فيروسية متحدرة من فيروس عام 1918، بما فيها فيروس H1N1 و H2N2 و H3N2، مما يجعل الفيروس الأصلي لوباء الإنفلونزا الإسبانية المصدر الأساسي لجميع الأوبئة.
في عام 1918، كان سبب مرض الإنفلونزا البشري، وعلاقته بإنفلونزا الطيور والخنازير غير معروفين، وعلى الرغم من التشابهات الكبيرة بين وباء عام 1918 وأوبئة الإنفلونزا السابقة مثل التي حدثت عامي 1889 و 1847، فقد ثارت العديد من التساؤلات عمّا إذا كان من الممكن أن يكون الوباء الفتّاك مرتبطًا بالإنفلونزا من الأساس (حيث لم يسجل قبله أي وباء إنفلونزا بهذا العنف). لم تبدأ هذا التساؤلات في التكشف حتى ثلاثينيات القرن الماضي حينما تم عزل بعض فيروسات الإنفلونزا (المعروفة الآن باسم H1N1) من الخنازير أولًا ثم من البشر، والتي أثبتت الدراسات بعد ذلك ارتباطها بوباء عام 1918.
محاولة للفهم
في بداية التسعينيات من القرن الماضي، مرّ 75 عامًا من البحث العلمي دون تقدم حقيقي في الإجابة عن السؤال الأكثر أهمية: لماذا كانت الإنفلونزا الإسبانية فتاكة بهذا الشكل؟، ولماذا تسببت كل الفيروسات المتحدّرة من فيروس الإنفلونزا الإسبانية في إصابة البشر بأمراض أضعف؟. علاوة على ذلك، فإن فحص بيانات الوفيات خلال العشرينات من القرن الماضي يشير إلى أنه خلال سنوات قليلة من انتشار الوباء الأصلي، اتخذ وباء الإنفلونزا نمطًا واضحًا للانتشار حيث ينتشر سنويًّا متأثرًا بالتغيرات الجينية التي تطرأ على الفيروس ومسببًا معدلات وفاة أقل بكثير. استطاع العلماء رسم الخريطة الجينية الكاملة للفيروس المسبب لوباء الإنفلونزا الإسبانية، وتشير المعلومات المستقاة من تحليل الخريطة الجينية بالإضافة إلى عدد من الدراسات التي تناولت عدة جوانب من وباء عام 1918 إلى أن الفيروس المسبب لذلك الوباء هو السلف المحتمل لسلالات فيروس الإنفلونزا الأربعة التي تصيب البشر والخنازير H1N1 و H3N2 وسلالة H2N2 المنقرضة. لم يتم العثور على أي من الطفرات المعروفة التي تسبب زيادة حدة المرض في التسلسل الجيني للفيروس، ويثير التركيب الجيني للفيروس من عام 1918 عددًا من التساؤلات حول أصل الفيروس.
متى وأين نشأ وباء الإنفلونزا الإسبانية؟
نشأت معظم أوبئة الإنفلونزا في آسيا، انتشرت منها إلى العالم. لكن فيروس الإنفلونزا الإسبانية -وبالخلاف للنمط السائد- قد انتشر في ثلاث موجات منفصلة متقاربة في التوقيت خلال الاثني عشر شهرًا التي انتشر فيها الوباء فيما بين العامين 1918 و 1919، إحداها في أوروبا وأخرى في آسيا والثالثة في أمريكا الشمالية (تم وصف الموجة الأولى بشكل واضح في الولايات المتحدة الأمريكية في مارس/آذار سنة 1918). ولا تستطيع المعلومات التاريخية والوبائية المتاحة مساعدتنا في التأكد من الأصل الجغرافي للفيروس، كما لم يستطع تحليل التطور الوراثي العرقي للفيروس اعتمادًا على الخريطة الجينية له أن يضع الفيروس في أي سياق جغرافي.
لم يكن مرض الإنفلونزا على قائمة الإبلاغ في الولايات المتحدة في عام 1918م على الرغم من أن معدلات الوفاة من الإنفلونزا والالتهاب الرئوي قد ارتفعت بشكل حاد في عامي 1915 و 1916 بسبب وباء تنفسي كبير بداية من ديسمبر/كانون الأول سنة 1915. انخفض معدل الوفيات من الإنفلونزا والالتهاب الرئوي قليلًا عام 1917 ثم عاد للارتفاع بشكل حاد بظهور وباء الإنفلونزا الإسبانية في ربيع عام 1918، مما يثير التساؤل عما إذا كان الفيروس المسبب للوباء عام 1915 هو نسخة أقل عدوانية من الفيروس الذي تسبب في وباء الإنفلونزا الإسبانية، نسخة لم تكن قادرة على إحداث وباء عالمي بحجم الإنفلونزا الإسبانية. تشير بعض البيانات التي تم جمعها من بعض المعسكرات الأوروبية في ذلك التوقيت إلى أن ذلك ممكن. في المقابل، يعتقد العلماء أنه إن كان الفيروس الجديد حينها قد تسبب في التأثير على معدلات الوفاة بسبب الإنفلونزا والالتهاب الرئوي في الولايات المتحدة الأمريكية عامي 1915 و1916، لكان من المنطقي أن يتسبب في وباء عالمي في وقت يسبق العام 1918، ولكان عدد كافٍ من الناس عندها قد تعرضوا للمرض سابقًا مما يجعلهم أكثر قدرة على مقاومة المرض، وبين الافتراضيْن لا يمكننا القطع بأي منهما صائب وأيهما خاطئ، مما يُبقي على أصل الفيروس كلغز لم تتم الإجابة عنه.
هل تسبب فيروس واحد في الموجات الثلاث للإنفلونزا الإسبانية؟
لا يمكننا التأكد صراحة من إجابة هذا السؤال، حيث أن الحل الوحيد للتأكد من ذلك هو الحصول على عينات إيجابية من حاملي المرض في كل من الموجات الثلاث والمقارنة بينها، وهو ما يعتبر شبه مستحيل، حيث أن العينات المتاحة التي تم إعادة بناء حمضها النووي ورسم خريطتها الجينية تعود لمصابين من الموجة الثانية للمرض، حيث أنه من المستبعد أن يكون الفيروس قد أتيحت له الفرصة ليتحول جينيًّا بالقدر الكافي مسببًا موجة انتشار جديدة للمرض خلال الفترة التي انتشر فيها الوباء عالميًّا بين عامي 1918 و1919. وفي نفس الوقت، فإن مقارنة معدلات الوفاة بين الحالات المصابة في كل من الموجات الثلاث يشير إلى وجود اختلاف في طبيعة المرض، حيث كانت معدلات الوفاة في الموجة الأولى أقل من مثيلتها في الموجة الثانية والتي كانت بدورها أقل من مثيلتها في الموجة الثالثة، مع احتفاظ الموجات الثلاث بنفس النمط الإكلينيكي والأعراض المتشابهة.
ما هو المميز في الفيروس الذي سبب الإنفلونزا الإسبانية؟
ظل منحنى الوفاة مقارنة بالعمر بسبب الإنفلونزا ولمدة 150 عامًا على الأقل على شكل حرف U، حيث تزداد نسبة الوفيات بين المرضى في سن صغيرة جدًا أو كبيرة جدًا، ويقل معدل الوفيات في جميع الفئات العمرية بينهما. لكن نمط الوفيات في وباء الإنفلونزا الإسبانية لم يكن معتادًا، حيث يظهر الرسم البياني قمة أخرى لمعدلات الوفاة، حيث ازدادت حالات الوفاة بين المصابين من الشباب في الفئة العمرية ما بين 20 و 40 عامًا. وكنتيجة لذلك، كانت معدلات الوفاة بسبب الإنفلونزا والالتهاب الرئوي بين المرضى في المرحلة العمرية ما بين 15 إلى 34 عامًا في الفترة ما بين 1918 و 1919 أعلى من مثيلاتها في الأعوام السابقة بأكثر من 20 ضعفًا. بوجه عام، مثلت حالات الوفاة للمرضى في الفئة العمرية ما بين 20 و 40 عامًا حوالي نصف حالات الوفاة التي تسبب وباء الإنفلونزا الإسبانية في ظاهرة مميزة جدًّا لذلك الوباء. كما تميز ذلك الوباء أيضًا بأن احتمالية الوفاة بين المصابين الذين يبلغ عمرهم أقل من 65 عامًا أكثر من احتمالية الوفاة لأولئك الذين يزيد عمرهم عن 65 عامًا!، حيث مثلت الوفيات في المصابين ممن يقل عمرهم عن 65 عامًا نسبة تفوق 99% من إجمالي الحالات الناتجة عن الوباء، مقارنة بـ 36% لنفس الفئة العمرية في وباء الإنفلونزا عام 1957 و 48% في وباء الإنفلونزا عام 1968.
لماذا تسمى بالإنفلونزا الإسبانية؟
على الرغم من أن أول انتشار لحالات الإصابة بالفيروس المسبب لذلك الوباء قد تم اكتشافها في إحدى القواعد العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من أن الموجة الثانية من موجات الإصابة سجلت في البداية في فرنسا وبوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن حقيقة أن كلًّا من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كانتا مشاركتين في الحرب العالمية الأولى حالت دون انتشار الخبر عن المرض من خلالهما، حيث فُرضت الرقابة على الصحف في محاولة لمنع انتشار أخبار المرض التي قد تؤثر على معنويات الجنود، مما قد يؤدي إلى الهزيمة. بعد حوالي ثلاثة أشهر، انتقل المرض من فرنسا إلى إسبانيا، التي لم تكن مشاركة في الحرب، ومن ثم تناولت الصحف الإسبانية أخبار انتشار الوباء بحرية، وكانت هي المصدر الرئيسي الذي استقى منه سكان العالم الأخبار الأولية عن وباء جديد يهاجم البشرية؛ من هنا كانت التسمية.
المراجع:
- Frost WH. Statistics of influenza morbidity. Public Health Rep. 1920;35:584–97.
- Burnet F, Clark E. Influenza: a survey of the last 50 years in the light of modern work on the virus of epidemic influenza. Melbourne: MacMillan; 1942.
- Crosby A. America’s forgotten pandemic. Cambridge (UK): Cambridge University Press;1989.
- Patterson KD, Pyle GF. The geography and mortality of the 1918 influenza pandemic. Bull Hist Med. 1991;65:4–21.
- Johnson NPAS, Mueller J. Updating the accounts: global mortality of the 1918–1920 “Spanish” influenza pandemic. Bull Hist Med 2002;76:105–15.
- Shope RE. The incidence of neutralizing antibodies for swine influenza virus in the sera of human beings of different ages. J Exp Med. 1936;63:669–84.
- Kendal AP, Noble GR, Skehel JJ, Dowdle WR. Antigenic similarity of influenza A (H1N1) viruses from epidemics in 1977–1978 to “Scandinavian” strains isolated in epidemics of 1950–1951. Virology. 1978;89:632–6.
- Taubenberger JK, Reid AH, Krafft AE, Bijwaard KE, Fanning TG. Initial genetic characterization of the 1918 “Spanish” influenza virus. Science. 1997;275:1793–6.
- Reid AH, Taubenberger JK. The 1918 flu and other influenza pandemics: “over there” and back again. Lab Invest. 1999;79:95–101.
- Reid AH, Taubenberger JK, Fanning TG. Evidence of an absence: the genetic origins of the 1918 pandemic influenza virus. Nat Rev Microbiol. 2004;2:909–14.
- Taubenberger JK, Reid AH, Fanning TG. The 1918 influenza virus: a killer comes into view. Virology. 2000;274:241–5.
- Jordan E. Epidemic influenza: a survey. Chicago: American Medical Association, 1927.
- Capps J, Moody A. The recent epidemic of grip. JAMA. 1916;67:1349–50.
- Grove RD, Hetzel AM. Vital statistics rates in the United States: 1940–1960. Washington: US Government Printing Office, 1968.
- Simonsen L, Clarke MJ, Schonberger LB, Arden NH, Cox NJ, Fukuda K. Pandemic versus epidemic influenza mortality: a pattern of changing age distribution. J Infect Dis 1998;178:53–60
رابط المصدر: