- جيمس جيفري
- دينس روس
لم توقف طهران بتاتاً توفيرها التدريبات والأسلحة للمتشددين في المنطقة حتى في ظل العقوبات الأمريكية الشديدة، لذلك يتعين على إدارة بايدن أن تفعل أكثر بكثير من مجرد إعادة العمل بـ «خطة العمل الشاملة المشتركة».
لم يكن انتخاب إبراهيم رئيسي رئيساً لإيران مفاجئاً. فقد تم استبعاد جميع أولئك الذين ربما كانوا يمثلون تهديداً له، وكان خيار المرشد الأعلى علي خامنئي، ولا عجب في ذلك: فقلة من الناس يُجسدون إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية بشكل أفضل من سجلّه. فلن يجعل إيران منفتحة على العالم الخارجي، ولن يتطلع بالتأكيد إلى التكيف مع وجهة نظر الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال. وبالنسبة لسلوك إيران في الشرق الأوسط، فقد أوضح أنه “غير قابل للتفاوض“.
وكان الصراع بين إسرائيل وحركة «حماس» في أيار/مايو بمثابة تذكير بأن كل شيء تقريباً في الشرق الأوسط مترابط – وسواء كان الحديث عن صواريخ «حماس» أو الكارثة المستمرة في اليمن أو الاتفاق النووي الإيراني، فإن دور طهران المزعزع للاستقرار في المنطقة هو القاسم المشترك بينها.
نحن نتفهم سبب سعي الرئيس جو بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي، أي «خطة العمل الشاملة المشتركة». فعلى الولايات المتحدة أن تعكس برنامج إيران النووي ثم تستغل الوقت المتبقي قبل وقف نفاذ أحكام الانقضاء الخاصة بالاتفاقية إما للتوصل إلى اتفاق أطول مدة وأكثر قوة تسعى إليه إدارة بايدن، وإما لتعزيز الردع الأمريكي لكي تدرك طهران أن الولايات المتحدة ستمنع إيران من أن تصبح دولة على حافة العتبة نووية.
لكن رغم اقتناعنا بقيمة احتواء البرنامج النووي الإيراني، إلّا أن ذلك لا يكفي. فسيتعيّن على الإدارة الأمريكية أيضاً مكافحة ما سيكون من شبه المؤكد جهود إيران المتصاعدة في المنطقة: فمع تخفيف العقوبات الذي سينجم عن العودة إلى الامتثال لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ستزداد الموارد التي تسمح لطهران بإثارة المشاكل. وكانت حملة “الضغط الأقصى” التي أطلقها دونالد ترامب قد حدّت من الموارد التي يمكن أن توفرها إيران للجماعات المقاتلة مثل «حزب الله» اللبناني والميليشيات الشيعية في العراق وحركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين، لكنها لم توقف إيران أبداً عن توفيرها المستمر للتدريب والأسلحة والمساعدات المادية والتقنية الأخرى.
وبعد صراعهم الأخير مع إسرائيل، أشاد قادة «حماس» بشكل مفرط بطهران لما قدمته إليهم [من مساعدات]. ونعلم من تسجيل صوتي مسرّب أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أصيب بالإحباط بسبب استمرار «فيلق القدس» – الذي هو قوة النخبة التابع للنظام الإيراني – في تقويض ما كان يأمل في تحقيقه دبلوماسياً. بالإضافة إلى ذلك، سيرغب خامنئي في إظهار أن العودة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» لا تعني تخلّيه عن إيديولوجيا المقاومة الخاصة به، لذلك يمكننا توقُّع المزيد من التوسع الإيراني في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن التهديدات للدول المجاورة.
ويفسّر هذا التخوف من أجندة إيران في المنطقة قدراً كبيراً من سبب معارضة «خطة العمل الشاملة المشتركة»، سواء عندما تم الاتفاق عليها أو وصولاً إلى يومنا هذا. فقد كان َ الكثيرون في الكونغرس الأمريكي وكذلك قادة دول الشرق الأوسط قلقين في ذلك الوقت – كما يشعرون بالقلق حالياً – من أن الإدارة الأمريكية وشركاءها الأوروبيين سيخطئون في اعتبار ملف إيران “مغلقاً”، لأنهم ينظرون إلى التهديد الذي تطرحه إيران على نطاقٍ ضيق للغاية، ومن الناحية النووية فقط. إلا أن النقاد في المنطقة يرون الماضي كتمهيد: فكما أصبحت إيران أكثر نشاطاً وعدوانية في الشرق الأوسط بعد الاتفاق على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فإنهم يتوقعون الآن قيام أعمال تهديد إذا عادت الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال وعندما تعودا إليه. وسواء كان ذلك منصفاً أم لا، فلا يزال جزء كبير من المنطقة مقتنعاً بأن إدارة أوباما تجاهلت عدوانية إيران خوفاً من تعريض تنفيذ الاتفاق للخطر.
وتنبثق وجهة النظر في المنطقة بشأن إيران من تجربة هؤلاء القادة مع الجمهورية الإسلامية. فبالنسبة إليهم، إن السؤال الجوهري حول إيران، كما عبّر عنه هنري كيسنجر ذات مرة، هو ما إذا كانت هذه البلاد دولة أم قضية. والحجة التي تدفع إلى قول هذه الأخيرة قوية وعميقة الجذور: فإيران الثورية تستخدم الخطاب الإسلامي الشيعي المناهض للاستعمار لتبرير اتباعها أجندة قومية توسعية. وبعد فترة وجيزة من الثورة الإيرانية، اتضحت طبيعة إيران واتضح التهديد الذي تشكله إثر إعدام آلاف المعارضين الحقيقيين أو الوهميين للنظام، ودعم الجماعات الإرهابية في أنحاء المنطقة، والتهديدات المتواصلة لوجود إسرائيل، والهجوم المضاد الخطير على العراق في الثمانينيات، والاعتداء على الولايات المتحدة في لبنان عام 1983، وحرب الناقلات مع أمريكا.
وعندما أصبح تطوير إيران لبرنامج أسلحة نووية واضحاً بحلول عام 2005، اعتُبر في البداية أداة أخرى، وإن كانت خطيرة بشكل خاص، في صندوق سياسات القوة الإيرانية. لذلك، أعلنت إدارتا بوش وأوباما أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة لإيقاف إيران عن تطوير سلاح [نووي] – وهو تهديد لم يُفرض ضد جنوب إفريقيا أو ليبيا أو الهند أو باكستان، والتي طوّرت كل منها بعض القدرات النووية في أوقات مختلفة. وتم التعامل مع إيران، التي اعتبرها الغرب مبعث خطر، كمعتدية متأصلة.
ويمكن تَفَهُم قلق إدارة أوباما من أن عدم إمكان إيقاف البرنامج النووي الإيراني دبلوماسياً سيؤدي إلى نشوب صراع أوسع نطاقاً، إما بسبب تحرّك إسرائيل التي تشعر بتهديد وجودي، أو لأن الولايات المتحدة التي تدرك خطر حدوث سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط قد تتخذ بعض الإجراءات. ولم يكن السعي وراء الدبلوماسية وسيلة لتغيير سلوك إيران لأسباب عديدة، المسار المنطقي فحسب، بل المسار الضروري سياسياً الذي يجب اتباعه أيضاً. وقد كان يعني حتماً بشكل ضمني أن إيران لم تعد قضية بل أصبحت بلداً يمكن كبح طموحاته النووية، وبالتالي، ربما تهديده الإقليمي من خلال دبلوماسية الجزرة والعصا [الترغيب والترهيب] التقليدية.
وتوصل البعض في إدارة أوباما إلى الإعتقاد بأن «خطة العمل الشاملة المشتركة» يمكن أن تشير إلى “تغيير نظام” دبلوماسي: أي أنه من خلال اختبار الاحترام والثقة من قبل الغرب، ستعتنق إيران عالم العولمة الأمريكي المصدر.
وإذا كان هذا هو الرهان، فإنه لم يأتِ بأي نتيجة. فمنذ عام 2013، حين بدأت المفاوضات الجادة مع الحكومة الإيرانية، وإلى عام 2018، عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي، لم تُعدّل إيران سلوكها. وبدلاً من ذلك، سرّعت عدوانها الإقليمي، مستغلةً عدم الاستقرار الناتج عن “الربيع العربي” فضلاً عن صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» بهدف توسيع سلطتها. وبالنسبة للكثيرين في المنطقة، كان الدرس واضحاً: ليست هناك طريقة لبناء الثقة مع إيران، لأن الجمهورية الإسلامية لديها أجندة للهيمنة على الشرق الأوسط.
وبغض النظر عن الطريقة التي نظر فيها الإسرائيليون والسعوديون والإماراتيون وغيرهم إلى إدارة أوباما، يختلف نهج بايدن إزاء إيران بوضوح عن نهج أوباما كما تصوّروه. على سبيل المثال، يمكن ملاحظة الدلائل الآتية على أن فريق بايدن لن يتوانى عن مواجهة التهديدات المباشرة أو غير المباشرة التي تطرحها إيران: غارات جوية على جانبي الحدود العراقية السورية رداً على الهجمات الصاروخية وهجمات الطائرات بدون طيار التي شنتها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران على القواعد العراقية حيث تنتشر القوات الأمريكية؛ والاعتراض البحري للمراكب الشراعية التي كانت تنقل أسلحة إيرانية إلى اليمن؛ والدعم الراسخ رغم الضغوط لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد صواريخ «حماس». وفي الوقت نفسه، يلتزم المسؤولون الأمريكيون في محادثات خاصة مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعدم السماح للملف النووي بتغيير ما تقبل به واشنطن عندما يتعلق الأمر بإيران في الشرق الأوسط.
وسيتمثل التحدي في متابعة هذه التحركات المبكرة وإظهار أنه فور إعادة تفعيل «خطة العمل الشاملة المشتركة» – والتي نعتقد كلانا أنها ستحدث في وقت ما من هذا العام – ستعمل الإدارة الأمريكية مع شركاء الولايات المتحدة وستواجه الإيرانيين في ظل توسعهم وتهديدهم الآخرين بشكل مباشر وعبر وكلائهم [في المنطقة]. والمفارقة هي أن نجاح الدبلوماسية، سواء في القضية النووية أو في القضايا الإقليمية الأخرى، يتطلب إدراك طهران أن هناك قوة وراءها. وفي غياب الضغط، لما كانت هناك «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وإذا أرادت الولايات المتحدة ردع الأفعال الفظيعة لإيران، يجب أن تكون واشنطن قادرة على الإظهار لقادة الجمهورية الإسلامية أنهم سيدفعون ثمناً.
ونظراً لأن إسرائيل متواجدة الآن ضمن نطاق مسؤولية “القيادة المركزية الأمريكية”، إلى جانب باقي منطقة الشرق الأوسط، على إدارة بايدن أن تجمعها مع الشركاء العرب الآخرين للولايات المتحدة لتطوير خيارات والتخطيط لحالات الطوارئ من أجل التعامل مع تهديدات الميليشيات الشيعية. كما يجب على هذه الإدارة أن تشجع أيضاً دول الخليج على تقديم دعم أفضل للحكومة العراقية؛ واستخدام الأصول الأمريكية الجماعية لفعل المزيد لقمع قدرة إيران على تصدير الأسلحة إلى عملائها؛ ودعم الضربات الإسرائيلية المستمرة ضد المساعي الإيرانية الرامية لبناء بنيتها التحتية العسكرية وتطوير قدرات التوجيه الدقيق لصواريخ سوريا و«حزب الله».
وأثناء إدارة ترامب، استخدمت واشنطن وسائل متباينة في مختلف دول الشرق الأوسط، لكنها طبقت بشكل إجمالي ضغوطاً عسكرية واقتصادية ودبلوماسية لعرقلة تقدم إيران. وكانت إجراءاتها مدعومة من قبل تحالف إقليمي تجمّع في نهاية المطاف ضمن “اتفاقيات إبراهيم“. ولا يُعتبر البناء على هذه الاتفاقيات منطقياً فحسب من حيث استخدام التواصل العربي مع إسرائيل من أجل إثارة الخطوات الإسرائيلية نحو السلام مع الفلسطينيين، بل من ناحية تعزيز التحالف المصطف ضد إيران أيضاً.
ولتحقيق النجاح، ستحتاج إدارة بايدن إلى العمل مع شركاء عرب وإسرائيليين وأتراك بشأن القضايا الإقليمية الإيرانية، ومواصلة الضغط على كل من طهران وتلك الحكومات التي تميل إلى الانصياع لإيران. ولا تمنع مثل هذه المقاربة اتباع الدبلوماسية؛ بل على العكس تماماً، يمكنها الترويج لها. وبالفعل، إذا أديرت الأمور بالطريقة الصحيحة، فقد تزيد الولايات المتحدة من مصلحة إيران في الحوار.
وفي نهاية المطاف، إذا كان للمناقشات الإقليمية مع طهران أي فرصة لتخفيف التوترات وتقليل احتمالية الصراع والتصعيد، فيجب أن تولد نوعاً من الردع من المنطقة يمنح إيران سبباً لتهدئة سلوكها.
جيمس جيفري هو رئيس برنامج الشرق الأوسط في “مركز ويلسون” وسفير الولايات المتحدة السابق في تركيا والعراق. دينيس روس هو مستشار وزميل “ويليام ديفيدسون” المتميز في معهد واشنطن ومساعد خاص سابق للرئيس أوباما.
رابط المصدر: