الحكمة من هذا الطرح إنما هو لتأكيد أن بناء الحداثة لا يتحقّق إلَّا من خلال تأسيس داخلي، وليس عن طريق جلب خارجي، وبإمكاننا أن نكتشف حداثتنا المستقلّة عن طريق مفهوم الاجتهاد، مع شرط التواصل المعرفي والنقدي مع الحداثة في أفقها الإنساني العام، وليس على أساس الانقطاع عنها…
– 1 –
الحداثة والاجتهاد.. مقاربة جادَّة
المقاربة بين الحداثة والاجتهاد من المقاربات الفكرية والمعرفية الجادَّة والمهمَّة، وأظن أنها تتّسم بقدر من الإثارة والدهشة ولا تخلو من طرافة، وهي بالتأكيد ليست من نمط المقاربات العادية والعابرة، كما أنها ليست من نمط المقاربات السهلة والبسيطة، ولا من نمط المقاربات الضحلة والهشّة.
وعلى ما أعلم فإن هذه المقاربة هي من المقاربات الجديدة التي لم تُطرق عربيًّا في حقل الدراسات الفكرية والنقدية، ويصدق عليها من هذه الجهة أنها من المقاربات اللامفكر فيها؛ لذا فهي بحاجة إلى مزيد من البحث والنظر المنهجي والمعرفي، وإلى مزيد من التذاكر والتفاكر بين المشتغلين في البحث الفكري والمعرفي.
ونحن بحاجة إلى هذا النمط من المقاربات الفكرية، التي نكتشفها بأنفسنا، ونبتكرها من داخلنا، وتعبّر عن قدرتنا على الاجتهاد الفكري، وتدفع بنا نحو اليقظة الفكرية، بدل الانشغال والافتتان بالمقاربات الوافدة علينا من خارج مجالنا الفكري والتاريخي، والتي تشعرنا بالضعف والتبعية والكسل الفكري والمعرفي.
ولعل ما يعترضنا في هذه المقاربة، أننا أمام مفهوم يكاد يكون منطفئًا هو مفهوم الاجتهاد، أو هكذا يبدو، فهو المفهوم الذي أُعلن إغلاق بابه منذ وقت مبكر في سيرة المدرسة الإسلامية السنية، في مقابل مفهوم متَّقد وحيوي وفعّال هو مفهوم الحداثة، كما أننا أمام مفهوم ينتمي إلى حضارة مغلوبة هي الحضارة الإسلامية، في مقابل مفهوم ينتمي إلى حضارة غالبة هي الحضارة الغربية.
لهذا من الصعب علينا، وفي مثل حالتنا الفكرية والحضارية الراهنة تخيُّل هذه المقاربة، وإعمال الخيال فيها، وجعلها في دائرة البحث والنظر، ولعل من الصعب علينا أيضًا لفت انتباه الآخرين من خارج مجالنا الفكري والحضاري إلى مثل هذه المقاربة، وتقريبها إلى دائرة البحث والنظر عندهم، وفي ساحتهم الفكرية والمعرفية.
هذه هي عادة سيرة العلاقة بين الغالب والمغلوب، التابع والمتبوع، المتقدّم والمتأخّر، فالغالب وبتأثير الإحساس بالتفوُّق فإنه لا يتواضع للمغلوب، ويصعب عليه الاعتراف له بالتقدّم أو التفوّق عليه، وأما المغلوب وحسب القاعدة الخلدونية التي ما زالت سارية المفعول، فإنه لا يتبع الغالب فحسب، وإنما قد يصل به الحال إلى أن يكون مولعًا باتِّباعه، والولع يحصل عن تقبُّل ورغبة، ظنًّا بأن هذا السلوك يماهي بين المغلوب والغالب، ويضع المغلوب في طريق الغالب، بوصفه طريق التقدّم والتمدّن.
وتستند هذه المقاربة في إطارها الكلي، إلى أن الحداثة تتكوَّن من ثلاثة عناصر أساسية وجوهرية ومترابطة لا تقبل التجزئة والتفكّك، وهي: العقل والعلم والزمن، وهذه العناصر الثلاثة بتمامها هي العناصر المكوِّنة لمفهوم الاجتهاد، بالشكل الذي جاز لنا القول بأن مفهوم الاجتهاد في المجال الإسلامي، هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانه أن يعادل مفهوم الحداثة في المجال الغربي.
وما يعترضنا في هذه الشأن، أن هذه العناصر الثلاثة هي عناصر واضحة ومتجلِّية ومنكشفة في مفهوم الحداثة، لكنها في مفهوم الاجتهاد ليست بذلك الوضوح والتجلِّي والانكشاف، وهي بحاجة إلى برهنة وإثبات، وهذا ما سنقوم به، وقبل ذلك نحن بحاجة إلى استجلاء هذه العناصر في مفهوم الحداثة.
– 2 –
الحداثة.. والعناصر الثلاثة
يمثّل مفهوم الحداثة مفهومًا مرجعيًّا ومركزيًّا في نظام الفكر الغربي الحديث والمعاصر، وهذا ما يفسر الجانب الكمي والنوعي من الكتابات والدراسات الممتدة والمتراكمة حول هذا المفهوم، وعلى تعدّد وتنوّع حقول وميادين هذه الكتابات والدراسات، التي جعلت هذا المفهوم يصبح مفهومًا ثريًّا في حقله الدلالي، ومنكشفًا في حكمته وفلسفته، عناصره ومكوناته، ملامحه وسماته، علائقه وتداخلاته.
لهذا من السهل الكشف عن علاقة الحداثة بتلك العناصر الثلاثة، فمن جهة العلاقة بالعقل فهي علاقة بجوهر ثابت فيها، علمًا أن أكبر فاعل في الحداثة وأعظم مكوّن لها هو العقل، فقد بدأت الحداثة من مبدأ الانتصار للعقل، وسيادة العقل، وتنصب العقل كمحكمة عليا حسب قول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804م)، وجاءت لتعلن الانتصار النهائي والحاسم والحتمي للعقل في ساحة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.
هذه العلاقة بين الحداثة والعقل، أوضحها بدرجة كبيرة ودافع عنها عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين في كتابه (نقد الحداثة)، فقد ظل يعرف الحداثة ويناقشها ويقلب صورها، كل ذلك من جهة علاقتها بالعقل والعقلنة.
فحين تساءل في السطر الأول من مقدمة كتابه: ما الحداثة؟
أمام هذا السؤال المركزي وجد تورين أن تعريف فكرة الحداثة لن يكون بعيدًا عن فكرة الانتصار للعقل، مبرهنًا على ذلك ومعتبرًا أن «العقل هو الذي يبعث الحياة في العلم وتطبيقاته، وهو الذي يحكم أيضًا تكيّف الحياة الاجتماعية الحاجات الفردية أو الجماعية، وهو الذي يحل دول القانون والسوق محل التعسُّف والعنف، وحين تتصرف الإنسانية بحسب قوانينه تتقدّم في آن واحد نحو الوفرة والحرية والسعادة»[1].
ويرى تورين أن أقوى تصوّر غربي للحداثة، هو التصوّر الذي تقترن فيه الحداثة بالعقلنة، وحسب قوله: «إن أقوى تصوّر غربي للحداثة، التصوّر الذي كان له أعمق الآثار، قد أكد أن العقلنة تفرض هدم العلاقات الاجتماعية والعواطف والأعراف والمعتقدات التي تُدعى تقليدية، وأن عامل التحديث ليس فئة أو طبقة اجتماعية خاصة، وإنما هو العقل نفسه والضرورة التاريخية التي تمهِّد لانتصاره، وهكذا فإن العقلنة وهي مكوّن لابد منه للحداثة، تصبح فضلًا عن ذلك آلية تلقائية وضرورية للتحديث»[2].
واستنادًا إلى هذا الرأي، يرى تورين أن فكرة الحداثة مقترنة اقترانًا وثيقًا بفكرة العقلنة، والعدول عن إحدى الفكرتين نبذ للأخرى.
وتاريخ فكرة الحداثة عند الغربيين هو تاريخ تقدّم العقل، الذي نهض به الفلاسفة والمفكرون الأوروبيون منذ القرن السابع عشر الميلادي، ومثّل فيه الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1096-1680م) محطته الرئيسية، وعرف بالعقلانية الذاتية، إلى القرن الثامن عشر ومحطته الرئيسية مثلها الفيلسوف الألماني كانت (1724-1804م) الذي عرف بالعقلانية النقدية، مرورًا بالقرن التاسع عشر الذي مثّل فيه الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831م) محطة رئيسية وعرف بالعقلانية التاريخية، وصولًا إلى القرن العشرين وكانت فيه محطات عدة، مثّل فيها الفيلسوف الألماني ماكس فيبر (1864-1920م) محطة رئيسية وعرف بالعقلانية الاجتماعية، ومثّل فيها أيضًا الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر (1902-1994م) محطة رئيسية وعرف بالعقلانية العلمية، وليس انتهاء بالفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي عرف بالعقلانية التواصلية.
وعن علاقة الحداثة بالعلم، يكفي معرفة أن تاريخ تطوّر الفكر الأوروبي الحديث، ارتبط بحركة تطوّر العلم، فإلى جانب المفكرين والفلاسفة كان هناك علماء الفلك والفيزياء والرياضيات الذين أحدثوا هزَّات عنيفة غيّرت مجرى تاريخ العلم، ووضعوا الفكر الأوروبي على طريق التطوُّر والتحوُّل، فمع كل تطوُّر في العلم أعقبه تطوّر في الفكر.
ولعل من السهولة تتبُّع أثر وتأثير بعض العلماء الذين غيّروا وجهة العلم، وأثروا في تطوّر الفكر الأوروبي الحديث، ففي القرن السادس عشر ارتبط اسم عالم الفلك البولوني كوبر نيكوس (1473-1543م) بعصر النهضة، وفي القرن السابع عشر عصر الإصلاح الديني برز اسم العالم الإيطالي غاليلو (1564-1642م)، الذي دافع عن رأي كوبر نيكوس، وجاهر برأيه العلمي في دوران الأرض حول الشمس وأحدث به هزّة عنيفة في ساحتي العلم والفكر معًا، وأثار به غضب سلطة الكنيسة التي عرفت آنذاك بقوة البطش.
وفي القرن الثامن عشر عصر الأنوار برز اسم عالم الفيزياء الإنجليزي إسحاق نيوتن (1643-1727م) الذي أحدث أعظم ثورة في تاريخ العلم في عصره، وعدّه البعض أنه مثّل أعظم شخصية علمية عرفها القرن الثامن عشر، بل وأكبر شخصية عرفها تاريخ العلم الكلاسيكي كله، وما له من دلالة لأثر نيوتن على تطوّر حركة الفكر الأوروبي، المقولة التي اشتهرت عند الأوروبيين (لولا نيوتن لما وجد كانْت)، المقولة التي جعلت من الممكن الاقتران بين ما أحدثه نيوتن من ثورة في ساحة العلم، وما أحدثه كانْت من ثورة في ساحة الفكر.
وأما علاقة الحداثة بالزمن، فلا يمكن الإحاطة بمفهوم الحداثة بعيدًا عن فكرة الزمن، هذه الحقيقة وهذه العلاقة لا بد من إدراكها عند النظر والتأمُّل في مفهوم الحداثة، فهناك اتصال واقتران لا ينفصل ولا ينقطع أبدًا بين الحداثة والزمن، ومتى ما حصل هذا الفصل وهذا القطع اختل تكوين المعرفة بمفهوم الحداثة.
وكل فهم للحداثة لا يكون ناظرًا لفكرة الزمن، لا يعطي إلَّا فهمًا ناقصًا ومنقوصًا لمفهوم الحداثة، المفهوم الذي لا يتحدّد ولا يكتمل بدون فكرة الزمن، فالحداثة بدون فكرة الزمن هي حداثة ناقصة، أو حداثة غير مكتملة، أو أنها حداثة متوهَّمة، وهي ليست حداثة إلَّا على سبيل المجاز، وليس سبيل الحقيقة.
هذا التأكيد الذي يصل إلى حدِّ اليقين في العلاقة بين الحداثة والزمن، نابع من كون أن مفهوم الحداثة في فلسفته وحكمته، ماهيته وهويته، بيانه ولسانيته، هو مفهوم زمني، مشتق من الزمن، وجاء متلبّسًا بالزمن، وقابضًا عليه، ومتّخذًا منه وجهة ومسارًا، عابرًا به ومن خلاله درب الحياة في تحوّلاتها وتغيّراتها المتقادمة والمتلاحقة.
الحداثة هي مفهوم زمني هذه حقيقة لا ريب فيها، وذلك باعتبار أن الحداثة ناظرة إلى ما هو حديث الذي هو خلاف القديم، فالحداثة تتّصل بالحديث من جهة وتقطع مع القديم من جهة أخرى، وتعطي الأهمية والقيمة والاعتبار لكل ما هو حديث، وتسلب الأهمية والقيمة والاعتبار عن كل ما هو قديم، فهي تفاضل بين ما هو حديث وما هو قديم ولا تساوي بينهما.
والاتصال بالحديث في الحداثة يحصل على طول الخط، بلا توقُّف أو انقطاع، ملاحقةً وتعقُّبًا لكل حديث، ومتى ما حصل توقّف أو انقطاع عن هذه الملاحقة، وهذا التعقّب، تكون الحداثة قد فقدت صفتها ومصداقيتها، وانقلبت على ذاتها.
هذا عن علاقة الحداثة بالعناصر الثلاثة المكونة له هوية وماهية، بنيةً ونظامًا، ولا خلاف ولا نزاع على هذه العلاقة الموصوفة بالتجلِّي والوضوح والانكشاف.
– 3 –
الاجتهاد.. والعناصر الثلاثة
قبل الكشف عن علاقة الاجتهاد بالعناصر الثلاثة (العقل والعلم والزمن)، والبرهنة عليها، لا بد من الإشارة إلى بعض المقدّمات الفكرية الممهّدة لهذا الغرض، وهذه المقدمات هي:
أولًا: مفهوم الحداثة هل هو مفهوم خاص أم هو مفهوم عام؟
بمعنى هل أن مفهوم الحداثة هو مفهوم خاص بالغرب يتأطّر بثقافته وتراثه وتاريخه، ويتحدّد به، وينحصر عليه، ولا يتعداه إلى غيره، فهو المخوّل بالحديث عن هذا المفهوم دون سواه، وهو المعنيّ بتحديد ماهية هذا المفهوم وهويته، مادته وصورته، وجهته ومساره!
أم هو مفهوم عام ظهر في كل الحضارات، وعرفته جميع المدنيات، وعبّرت عنه مختلف التجارب الحضارية التي مرّت على التاريخ الإنساني في أزمنته القديمة والحديثة، ومن ثم فهو مفهوم عام لا يحق للغرب أن يحتكره لنفسه، ويعلن تملُّكه، ويكون وصيًّا عليه، وإنما يحقّ للحضارات والمدنيات الأخرى أن تكون شريكة في التعبير عن هذا المفهوم، وبلا وصاية أو احتكار من أحد!
أمام هذا السؤال الجدلي والإشكالي، يمكن القول: إن مفهوم الحداثة هو مفهوم خاص من جهة، ومفهوم عام من جهة أخرى، بلا تناقض أو تعارض، مفهوم خاص من ناحية المبنى، ومفهوم عام من ناحية المعنى.
من ناحية المبنى، فإن الحداثة بهذا الرسم للكلمة، وبهذا النطق اللساني هي من ابتكار الغرب، وتحسب من هذه الجهة على الأدب الأوروبي الحديث، وفي هذا النطاق تحدّد المعنى الخاص لفكرة الحداثة، الذي أراد منه الغرب أن يعبّر من جهة عن طبيعة تجربته الفكرية والتاريخية، التي هي بلا شك تعدّ واحدة من أضخم التجارب الفكرية في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر، ويعبّر من جهة أخرى عن طبيعة رؤيته لفلسفة التقدّم والتمدّن.
ومن ناحية المعنى والمفهوم العام، فإن مفهوم الحداثة قد تمثّلته وعبّرت عن روحه وجوهره جميع التجارب الحضارية التي مرّت على التاريخ الإنساني، فهذه التجارب هي حالات وأنماط من التقدّم، ومعبّرة عن روح التقدّم وفلسفته، وهذا هو جوهر الحداثة وروحه.
وما من حضارة ظهرت إلَّا وكانت حضارة حديثة وحداثية، ومعبّرة عن الحداثة في أبها صورها، وأرفع درجاتها، وأعلى مراتبها، وليست هناك حضارة لا تعدّ حديثة وحداثية، ومعبّرة عن الحداثة في معناها العام، وكل حضارة في عصرها هي حضارة رائدة في الحداثة، ومعبّرة عن مركز الحداثة في عصرها، الحداثة بمعنى فلسفة التقدّم.
وما هو ثابت أن التاريخ الإنساني قد مرّت عليه وبلا توقّف حضارات عدّة، قبل الغرب كانت هناك حضارات، وبعد الغرب ستكون هناك حضارات أيضًا، الأمر الذي يعني أن الحداثة قد مرّت على كل هذه الحضارات التي كانت قبل حضارة الغرب، وستمر على الحضارات القادمة بعد حضارة الغرب.
وبهذا اللحاظ فإن الحداثة قد مرّت على الحضارة الإسلامية كما مرّت على الحضارات الأخرى، وأن الحضارة الإسلامية مثّلت محطة من محطات الحداثة، ورافدًا من روافدها، ومسارًا من مساراتها.
لكن الذي يختلف بين هذه الحضارات هو نوعية الحداثة التي تتّصل بها ودرجتها، فالحضارة الصينية مثلًا لها حداثتها نوعًا ودرجة، والحضارة الهندية كذلك لها حداثتها نوعًا ودرجة، وهكذا الحال مع الحضارات اليابانية والأمريكية والإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى، بما في ذلك الحضارة الغربية.
والاختلاف في الحداثة نوعًا ودرجة ناشئ من تأثيرات عوامل المكان والزمان وظروف البيئة من جهة، وعالم الأفكار ونظام القيم والأخلاق من جهة ثانية، وطبيعة التجربة والخبرة من جهة ثالثة، وهي التأثيرات التي تؤثر في جميع الحضارات وتكوّن طبيعتها ومزاجها وبنيتها وروحها العامة.
هذه هي صورة الحداثة بين المعنى العام والمعنى الخاص، ويتّصل بهذا المنحى النقاش الفكري والنقدي العابر بين الأمم والمتمحور حول هل توجد حداثة أم حداثات؟ فهناك ميل لتقبُّل فكرة الحداثات المتعدّدة والمختلفة، الأمر الذي يفك علاقة الارتباط بين الغرب والحداثة، ويجعل طرق الحداثة متعدّدة لا تنحصر في طريق واحدة هي طريق الغرب، ويفتح المجال أمام تبلور نماذج من الحداثات المختلفة عن حداثة الغرب.
ثانيًا: عند النظر في مفهوم الاجتهاد يمكن اعتباره أنه يمثّل أحد أهم المفاهيم الذي ابتكرته الثقافة الإسلامية، وانفردت به الحضارة الإسلامية، فقد نشأ وتطوّر في الإطار الزمني والتاريخي لهذه الحضارة، وترك تأثيرًا مهمًّا في منظومة الثقافة الإسلامية، في مكوّناتها وتشكُّلاتها، وفي حركتها ومساراتها.
هذا المفهوم بحاجة إلى حفريات معرفية جديدة، لاستظهار مدلولاته، والكشف عن مكوّناته العميقة والمتجدّدة والفاعلة، وبوصفه المفهوم الذي يقارب مفهوم الحداثة.
وتتأكّد قيمة مفهوم الاجتهاد وحيويته عند معرفة أن جميع المنجزات الفكرية والعلمية والحضارية التي حصلت وتحقّقت في ساحة الحضارة الإسلامية، كانت بتأثير هذا المفهوم، فهذه المنجزات هي ثمرة من ثمرات الاجتهاد، فهو الذي بعث الروح، وألهم الثقة، وأكسب الشجاعة، وحفّز على المعرفة، وحرّض على الفعل والمبادرة.
كما أن الاجتهاد هو الذي أنجب لنا أئمة في التفسير أمثال: الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن (385-460هـ)، والطبرسي الفضل بن الحسن (468-548هـ)، والرازي فخر الدين محمد بن عمر (543-606هـ) وغيرهم، وأئمة في الكلام أمثال: المفيد محمد بن محمد بن النعمان (336-413هـ)، والمرتضى علي بن الحسين (355-436هـ)، والغزالي أبو حامد (450-505هـ) وغيرهم، وأئمة في الفلسفة أمثال: الفارابي أبو نصر محمد (260-339هـ) وابن سينا أبو علي الحسين بن عبدالله (370-427هـ)، وابن رشد أبو الوليد محمد بن أحمد (520-595هـ) وغيرهم، وأئمة في اللغة أمثال: الجرجاني عبدالقاهر (400-471هـ)، والزمخشري أبو القاسم محمود بن عمر (467-538هـ)، وابن منظور أبو الفضل محمد بن مكرم (630-711هـ) وغيرهم، وأئمة في التاريخ أمثال: الطبري محمد بن جرير (224-310هـ)، واليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب (ت284 أو 298هـ)، والمسعودي أبو الحسن علي بن الحسين (283-346هـ) وغيرهم، وأئمة في العلم أمثال: الخوارزمي محمد بن موسى (164-235هـ)، وابن الهيثم الحسن بن الحسن (354-430هـ)، وابن النفيس أبو الحسن علي بن أبي الحزم (607-687هـ) وغيرهم، وهكذا في باقي العلوم الأخرى.
فالاجتهاد هو الذي ارتقى بهؤلاء إلى هذه المراتب العلمية العالية، وجعل منهم أئمة في مجالاتهم العلمية، فهو الذي حفّزهم لأن يبذلوا أقصى طاقاتهم في تحصيل العلم وتكوين المعرفة من جهة، وفي تقديم العلم وإنتاج المعرفة من جهة أخرى، ولولا الاجتهاد وحكمته ودافعيته، لما وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه من درجات علمية جعلت منهم أئمة في مجالاتهم.
ثالثًا: إذا كان الاجتهاد في تاريخ الثقافة الإسلامية قد ارتبط بالفقه، فلأنه الحقل الذي ارتبطت به الحضارة الإسلامية، وأولته أكبر الاهتمام، حتى عرفت ووصفت بحضارة الفقه، وتميّزت من هذه الجهة عن الحضارات الأخرى، وبات من الدارج في الدراسات العربية الإشارة إلى أن الحضارة اليونانية في الأزمنة القديمة عرفت بحضارة الفلسفة، والحضارة الإسلامية في الأزمنة الوسيطة عرفت بحضارة الفقه، وعرفت الحضارة الأوروبية في الأزمنة الحديثة بحضارة العلم.
إن وصف الحضارة الإسلامية بحضارة الفقه، يعني من وجه آخر وصفها بحضارة الاجتهاد، وذلك بلحاظ العلاقة الوثيقة بين الفقه والاجتهاد في تاريخ الثقافة الإسلامية، ويعدّ هذا الأمر من صور ومداخل العلاقة بين الحضارة الإسلامية وفكرة الاجتهاد.
رابعًا: في كتابه الشهر (تجديد التفكير الديني في الإسلام) الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1930م، أطلق الدكتور محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م) مقولة مهمة اعتبر فيها أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام[3]، واكتسبت هذا المقولة شهرة بين الكتّاب والباحثين العرب والمسلمين وحتى عند بعض المستشرقين الأوروبيين، الذين وردت وترددت في كتاباتهم ودراساتهم.
وعند النظر في هذه المقولة، يمكن القول: إنها تقرّب العلاقة بين الحداثة والاجتهاد، فالحداثة هي مبدأ الحركة في الثقافة الأوروبية الغربية، في حين أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الثقافة الإسلامية، والبحث عن الحداثة في الثقافة الإسلامية هو بحث عن مبدأ الحركة في الإسلام، والذي حدّده إقبال في الاجتهاد.
وحين توقّف الشيخ مرتضى المطهري (1920-1979)، أمام هذه المقولة التي أثارت انتباهه بشدة، وتردّدت في كتاباته ومحاضراته، واتّخذ منها أساسًا للحديث عن الاجتهاد في محاضرة له بعنوان (الاجتهاد والتفقُّه في الدين)، فبعد أن افتتح الحديث عن هذه المقولة، وتطرّق إلى أهمية موضوع الاجتهاد، خلص في نهاية الحديث إلى اعتبار أن الاجتهاد من معجزات الإسلام؛ لأنه جعل الإسلام قادرًا على مواصلة دربه، وديمومة حركته من دون أن يكون هناك تعارض أو تضارب مع قوانينه وقواعده الثابتة[4].
ما بين مقولة إقبال في اعتبار أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام، ومقولة المطهري في اعتبار أن الاجتهاد من معجزات الإسلام، ومقولتي في اعتبار أن الاجتهاد هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانها أن يعادل مفهوم الحداثة، هذه المقولات وغيرها تكشف عن تأمُّلات جديدة تفتح آفاق النظر في مفهوم الاجتهاد وحقله الدلالي، وتعبّر عن منظور فكري حديث لمفهوم الاجتهاد في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.
خامسًا: من جهة العلاقة بالنص، فمنطق الاجتهاد يتعامل مع النص بوصفه نصًّا مفتوحًا على المعنى، وغير قابل للانسداد والانغلاق في كل زمان ومكان وحال، ويتحقَّق ذلك لكون أن الاجتهاد يتطلَّب شدّة الفحص، وعمق البحث، وإعمال النظر بصورة دائمة ومستمرة، والتخلِّي عن ذهنية التبعية والتقليد.
الطريقة التي تجعل النص يتكشَّف منه المعنى، ويصبح نصًّا يتَّسم بالحيوية والدينامية والتجدُّد، كما يتَّسم بالنسبية وعدم الإطلاقية، بمعنى أنه قابل للمراجعة في أي وقت من جهة، وليست له صفة الثبات بالمطلق من جهة أخرى.
والمعنى الذي يكتشَّف منه هو المعنى الدقيق والعميق والصلب، وليس المعنى الباهت أو الهزيل أو المربك.
كما أن الاجتهاد بهذه الطريقة الفعَّالة، لا يقبل ولا يسمح بوجود إكراهات أو ضغوطات أو تقييدات تعرقل أو تحجب أو تقلِّص النظر إلى النص بوصفه نصًّا مفتوحًا على المعنى، والطريقة التي تتأثَّر بالإكراهات أو الضغوطات أو التقييدات هي طريقة غير اجتهادية، وعلى الضد من منطق الاجتهاد وطريقته.
ولا شك أن هذه الطريقة من التعامل مع النص، هي طريقة حداثية بامتياز، وليست هناك حداثة أكثر من هذه الحداثة.
سادسًا: من مقتضيات منطق الاجتهاد، التحرُّر من سلطة وضغط وتأثير الآخرين سابقين وحاضرين عند التعامل مع النص فهمًا وتنزيلًا، مهما كان هؤلاء الرجال فضلهم ومنزلتهم العلمية والمعنوية، لهم الاحترام والتقدير، ولآرائهم القيمة والاعتبار، لكن لا سلطة لهم ولا إكراه.
وهذا لا يعني على الإطلاق تهميش هذه الآراء أو الانقطاع عنها وعدم الاكتراث بها، ولا التقليل من أهميتها وقيمتها، ولا إهمالها وتعمُّد نسيانها، ولا أي صورة من هذه الصور وغيرها التي لا يرتضيها المنطق العلمي، وإنما لا بد من الانفتاح على هذه الآراء وتكوين المعرفة بها، والتواصل معها، والانطلاق منها، والبناء عليها، وإعطائها حقها الكامل فحصًا ونظرًا ونقدًا.
والاجتهاد بهذا المنطق لا يركن إلى الماضي، ولا يتّخذ منه أساسًا، يرجع إليه ويتواصل معه، يأخذ من معارفه، ويتّعظ من عبره، لكنه لا ينحبس به وينغلق عليه.
والاجتهاد بهذا المنطق كذلك لا يركن إلى التراث، ولا يتّخذ منه أساسًا، يرجع إليه ويتواصل معه، من دون أن ينحبس به وينغلق عليه، وبالتأكيد فإن هذا المنطق هو منطق حداثي، يتمثّل ويعبّر عن جوهر روح الحداثة.
هذه المقدمات التمهيدية لا شك أنها تفتح مجال المقاربة الفكرية والمعرفية بين الحداثة والاجتهاد، وتجعل من الممكن أن يكون الاجتهاد المفهوم الذي يعادل مفهوم الحداثة.
أما عن علاقة الاجتهاد بالعناصر الثلاثة المكوّنة لمفهوم الحداثة، فيتكشّف على النحو الآتي:
أولًا: عنصر العقل، يتكشَّف هذا العنصر بوضوح كبير في كون أن الاجتهاد يعني إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية، من جهة الفحص والنظر، وإعمال الفكر وجميع العمليات الذهنية والاستنباطية الأخرى، ولا يتحقَّق فعل الاجتهاد ولا يصدق إذا عمل العقل بطاقة منخفضة، أو بجهد ضئيل أو بعمل بسيط.
وهذا ما يدل عليه ويُشير إليه حتى المعنى اللغوي الذي يُعطى لكلمة الاجتهاد في معاجم اللغة العربية، فهي افتعال من الجهد بفتح الجيم وتعني المشقة، وبضم الجيم وتعني الطاقة، فالأمر الذي لا يستلزم ولا يتحقَّق فيه فعل المشقة والطاقة، لا يقال له ولا يصدق عليه صفة الاجتهاد.
وليست هناك كلمة أخرى غير كلمة الاجتهاد أو أبلغ دلالة من كلمة الاجتهاد في الدلالة على إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية، وإذا كانت الحداثة في التصوّر الغربي تعني إعمال العقل والعمل بمقولات العقل وتحقُّق فعل العقلانية، فإن الاجتهاد في التصوّر الإسلامي لا يعني فقط إعمال العقل، وإنما إعمال العقل بأقصى درجات الفاعلية، وبالشكل الذي يتحقّق فعل العقلانية بلا ريب.
فلا جدال ولا نزاع في علاقة مفهوم الاجتهاد بعنصر العقل، فالاجتهاد يقترن بالعقل ويتلازم معه، ولا ينفصل أو ينقطع عنه في أي حال من الأحوال، ومتى ما حصل الانفصال أو الانقطاع فقد الاجتهاد هويته وماهيته.
ولهذا نجد أن الأشخاص الذين وصلوا إلى درجة الاجتهاد من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وعرفوا بهذا الدرجة في ميادين المعرفة المختلفة كانوا من أصحاب العقول التي يمكن وصفها بالعظيمة والجبارة.
ثانيًا: عنصر العلم، يتكشَّف هذا العنصر بوضوح كبير أيضًا في كون أن الاجتهاد مجاله يتّصل بالعلم، وعلاقته بالعلم هي أوثق من أية علاقة أخرى، والعلم هو أقرب ما يدل عليه، فالاجتهاد يتحقّق بالعلم ولا يتحقّق بغيره، والمجتهد يعرف بالعلم والعلم الواسع والعالي، ولا يعرف من دونه، وكل مجتهد عالم، لكن ليس كل عالم مجتهد.
والعلاقة بين الاجتهاد والعلم هي علاقة تفاعلية، كسبًا وعطاءً، فهمًا وتنزيلًا، فالعلم من جهة هو الذي يحقّق صفة الاجتهاد، ويرفع الإنسان إلى درجة الاجتهاد كسبًا وفهمًا، والاجتهاد من جهة أخرى هو الذي يفعّل العلم عطاءً وتنزيلًا، ويعطي العلم أعلى درجات الفاعلية في ساحة العطاء والتنزيل.
من جانب آخر، فإن العلم الذي يأتي عن طريق الاجتهاد، يفترض أن تكون له طبيعة مختلفة من جهة النوع والجودة، بخلاف العلم الذي يأتي عن غير طريق الاجتهاد، وذلك باعتبار أن الاجتهاد يوجب استفراغ الوسع، وبذل أقصى الجهد، وثمرة هذا الطريق يفترض أن تكون ثمرة ناضجة، أو من نوع تتحقّق فيه الجودة، وتظهر عليه أثار الجهد الجهيد والمشقة والطاقة.
وجميع علماء المسلمين الكبار في مختلف الأزمنة القديمة والحديثة والمعاصر، هم ثمرة من ثمرات الاجتهاد، وحصيلة مسار طويل من الاجتهاد في تحصيل المعرفة وطلب العلم، وهذا ما يعرفه هؤلاء العلماء عن أنفسهم، وما يعرفه الآخرون عنهم، وما وثّقته كتب التراجم والتاريخ عن سيرهم.
ثالثًا: عنصر الزمن، لا يقلّ هذا العنصر تكشُّفًا ووضوحًا عن العنصرين السابقين، لكون أن فلسفة الاجتهاد تتّصل بشكل وثيق بفكرة الزمن، إلى درجة يمكن القول: إن الاجتهاد لا يكون إلَّا ناظرًا إلى الزمن في كل آن وبلا توقُّف، وبوصفه زمنًا متغيِّرًا ومتجدِّدًا وسيَّالًا، فلا يمكن فصل الاجتهاد عن فكرة الزمن، ومتى ما حصل مثل هذا الفصل على افتراضه، يتعطَّل دور الاجتهاد ويفقد فاعليته وديناميته، ولا يصدق عليه عندئذٍ صفة الاجتهاد حقيقة.
ويتَّصل بهذا المعنى مقولة إقبال التي اعتبر فيها أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام، فهذه المقولة ناظرة بشكل أساسي إلى علاقة الاجتهاد بالزمن، لكون أن الزمن هو حركة وحركة مستمرة، والاجتهاد هو مبدأ هذه الحركة.
وبحسب هذه المقولة، فإن هناك علاقة بين الاجتهاد والحركة، فالاجتهاد هو مبدأ هذه الحركة، بمعنى أن يتقدّم الاجتهاد على الحركة ولا يتأخّر عنها أو ينقطع وينفصل، وأَلَّا تتقدّم الحركة على الاجتهاد ولا تسبقه أو تنقطع عنه وتنفصل، فلا اجتهاد بلا حركة، ولا حركة بلا اجتهاد.
ولا قيمة لاجتهاد بلا حركة، ولا قيمة لحركة بلا اجتهاد، فالاجتهاد بلا حركة هو اجتهاد بلا أثر أو تأثير في الواقع الخارجي، فهو أشبه بعلم بلا عمل، ويمكن اعتباره اجتهادًا معطّلًا أو اجتهادًا مجمّدًا أو جامدًا أو معاقًا إلى غير ذلك من أوصاف تتّصل بهذا المعنى.
وحركة بلا اجتهاد هي حركة من دون مبدأ يعطي صفة المعنى للحركة وصفة المضمون والغاية والحكمة، فهي أشبه بعمل بلا علم، ويمكن اعتبارها حركة بلا معنى، ومآلها ومصيرها أقرب إلى الفوضى والفشل.
ومن هذا المعنى، يتولّد مفهوم الاجتهاد المتحرّك في مقابل الاجتهاد الجامد أو الساكن، والأصل في الاجتهاد أن يكون متحرّكًا، ولا معنى لاجتهاد جامد أو ساكن أو غير متحرّك.
ويرتبط بهذا المعنى في المجال الفقهي، ما يراه البعض من أن الاجتهاد الحقيقي مجالاته هي القضايا والموضوعات الجديدة والحديثة، وهذا هو المجال الحيوي للاجتهاد، ولا معنى للاجتهاد في الانشغال بالقضايا والموضوعات القديمة والماضية، أو القضايا والموضوعات المستهلكة بحثًا ونظرًا، ولا حتى القضايا والموضوعات الباردة والجامدة التي استقرّ عليها الرأي وثبت.
ويرتبط بهذا المعنى كذلك، ما تحدّد في المجال الفقهي عند المسلمين الشيعة من عدم جواز تقليد الميت ابتداءً على رأي المشهور، وشرطية جواز البقاء على تقليد الميت برخصة من مجتهد حي، ومن عَدَلَ عن المجتهد الميت إلى المجتهد الحي لا يجوز له الرجوع بعد ذلك إلى المجتهد الميت، فهذا الموقف يرتبط بعلاقة الاجتهاد بالزمن، ويُثبت هذه العلاقة ويؤكّدها ويُشير إليها.
والحكمة من هذا الطرح إنما هو لتأكيد أن بناء الحداثة لا يتحقّق إلَّا من خلال تأسيس داخلي، وليس عن طريق جلب خارجي، وبإمكاننا أن نكتشف حداثتنا المستقلّة عن طريق مفهوم الاجتهاد، مع شرط التواصل المعرفي والنقدي مع الحداثة في أفقها الإنساني العام، وليس على أساس الانقطاع عنها.
وأخيرًا لست هنا بصدد خلق ثنائية جديدة، إلى جانب الثنائيات القلقة والسجالية في الخطابات العربية والإسلامية المعاصرة، وهي ثنائية الحداثة والاجتهاد، وإنما قصدت إعادة الاعتبار لمفهوم لا يقلّ قيمة وفاعلية عن مفهوم الحداثة، وهو مفهوم الاجتهاد.