د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
تناوبت الدول الغربية النافذة على تطويع النخب الفكرية والسياسيّة العربية للقبول بالكيان الصهيوني، منذ ما قبل اغتصاب فلسطين سياسيّاَ وجغرافيّاً، وظهور “اليشوف” كتجمع استيطاني صهيوني. سنسلّط الضوء هنا على أساليب “التطبيع” في الولايات المتحدة، بالمؤسسات والأفراد والأدوات، دون إغفال الجهود الأساسية داخل اقطار الوطن العربي المختلفة.
فيما يخص السياسات الأميركية، بصورة رئيسية، سيتم معالجة “التطبيع،” انطلاقاً من تعريفه للقبول “بالكيان الإسرائيلي” كأمر واقع في سياق جدلية استراتيجية واشنطن بكافة مؤسّساتها الحاكمة لإعادة رسم مستقبل “المشرق العربي” تحت غطاء “تحقيق السلام في الشرق الأوسط.”
في البعد “الفلسطيني،” ترمي مساعي التطبيع إلى القفز عن حقوق الشعب الوطنية ممثلة بحقّ العودة إلى أراضيه ووطنه، وتمويه حقيقة الاحتلال بمسمّيات متعددة، طمعاً في شرعنة اغتصابه المتتالي، 1948 و1967 والمصادرات الجارية للأراضي.
التطبيع كمطلب قسري يعكس اختلال موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني، يمثل نهجاً يستخدم أدوات وموارد متعددة للتأثير في الوعي العربي، طمعاً في إسقاط حالة عدائه للكيان الصهيوني وإلغائها.
لعل الأهم والأخطر أن تلك المساعي تصاعدت حدّتها مع تراجع القيادات الفلسطينية “الرسمية،” مدعومة بمنظومة الحكم العربية السائدة، عن توصيف طبيعة المرحلة، من “مرحلة تحرر وطني” إلى السعي للتعايش مع احتلال استيطاني لا يقبل بالهوية العربية الأصلية.
زاوجت الدول الغربية الاستعمارية، بريطانيا فرنسا وأميركا، بين سبل الضغط العسكري، وفق موازين القوى المختلة لصالحها، وتسخير سُبلها “الناعمة” المتعددة لفرض القبول الجمعي “بالكيان الإسرائيلي،” في مختلف الساحات، ومنها الداخل الأميركي.
أبرز الأدوات التطبيعية “الناعمة” قامت بها البعثات الاستشراقية والتبشيرية الغربية منذ فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، تحت مسمى “التقارب الديني،” وارتبط بما عرفه الفلسطينيون بمشروع “مِسْ كيري–أو مِسكري،” كناية عن صاحبته المستشرقة والمبشرة البريطانية “السيدة أليس ماي كاري Miss Alice May Carey، في العام 1933، عقب ثورة البراق في العام 1929 التي اندلعت في القدس، واستطاعت بناء “معبد ديني” بدعم من المؤسسة الأنكليكانية البريطانية في قرية عين كارم، على مقربة من القدس، والتي تحتوي على كنيسة القديس يوحنا المعمدان منذ القرن الرابع للميلاد.
فشل مشروع “مِس كيري.. للتقريب بين الديانات السماوية،” وغيّرت الحركة الصهيونية معالم الوطن الأصلية محوّلة “المعبد” إلى منشأة عسكرية تضم أحد أبرز أقسام الاستخبارات “الإسرائيلية” وأكثرها تطوراً في الوقت الراهن.
نسوق ذلك للدلالة على ما سيتبع من محاولات متواصلة متعددة لم تنقطع عن تثبيت “الكيان الاسرائيلي” في الوعي العربي بسبل مباشرة وغير مباشرة بشكل عام، واستبيان أغراض الجمعيات الأميركية المتعددة العاملة تحت عناوين مختلفة، بغطاء انساني، وبعنوان تقديم الدعم للّاجئين، ودور تبشيري تعليمي عبر مؤسسات تستقطب المتفوقين للدراسات العليا في المعاهد الأميركية، واستنسختها أيضاً في منظمات ومؤسّسات للرعاية الصحية بهدف “إرساء السلام في الشرق الأوسط.”
سردية الهولوكوست كمقدمة للاستقطاب
تمايزت الادارات الأميركية المتعاقبة في سبل استقطابها “للأقليّات العرقية،” ومن ضمنها المهاجرون العرب في الولايات المتحدة، بدءاً بما دشنته إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وشعارها باحترام الحقوق الإنسانية، وما آلت إليه احتياجات الاستراتيجية الأميركية من متطلبات ضرورية لتكريس هيمنتها في المنطقة منذ معاهدات “كامب ديفيد،” مروراً بحربي الخليج وغزو “اسرائيل” للبنان عام 1982، ومؤتمرات “السلام” في مدريد، وما تبعها من مفاوضات مباشرة بين وفود الدول العربية و”اسرائيل،” وتوقيع قيادة م ت ف على اتفاقيات اوسلو مع العدو التاريخي، وتتويجها في مراسيم البيت الأبيض، تلاها معاهدة وادي عربة بين الكيان والأردن، والمسار “التفاوضي المباشر” منذئذ دون تحقيق أي من الأهداف “المرحلية الفلسطينية.”
في السياق عينه، انجرّت معظم النخب الفكرية والسياسية والمجتمعية العربية في أميركا وراء وهْم التماثل مع “المنظمات اليهودية الأميركية” ونفوذها الطاغي في بلورة القرار السياسي الأميركي ورسمه، وشرعت في بناء منظمات هي أقرب إلى مفهوم “اللوبيات،” أو جماعات الضغط، كمنصة “تفاوض” مع بعض الدوائر الرسميّة، متناسين أن الدور المنوط بالأكاديميين والمثقفين هو نقد السياسات الأميركية وكل من يستجدي تعاطفها معه.
اتخذت حركة تلك النخب مسارات خطيرة منذ عام 1982 ومروراً بمرحلة غزو العراق واحتلاله، لكنها سرعان ما انصاعت إلى قوّة التمويل الخليجي المنظّم وأضحت بالوتيرة المتسارعة نفسها صورة تعبر عن مصالح عواصم دول النفط. هذا لا ينفي بالطبع وجود عناصر مدفوعة بالحس الوطني في هياكلها القيادية والشعبية، بيد أن تأثيرها السياسي تلاشى لصالح مصادر التمويل.
فلسطينياً، منذ تبني م ت ف البرنامج المرحلي في العام 1974 دعمت قيادتها، سياسيّاً وتمويلياً، أجندات وبرامج وشخصيات محددة “لفتح حوارات” مع المنظمات اليهودية الأميركية، بدءاً بمجموعة “حملة حقوق الإنسان الفلسطيني – Palestine Human Rights Campaign،” التي تزعمها لسنوات طويلة الناشط جيمس زغبي، تارة مع التيارات الكنسية وأخرى مع أعضاء في الكونغرس.
بعد استنفاذ أغراض الحملة، انتقل الزغبي “للمنظمة العربية الأميركية لمكافحة التمييز Arab-American Anti-Discrimination Committee”، بزعامة السيناتور الأسبق جيمس أبو رزق، إلى أن انتهى به المطاف إلى مؤسسة خاصة به تدعى “المعهد العربي الأميركي Arab American Institute.”
وشارك في تلك الجهود التي رصد لها موارد مالية عالية، أكاديميون ومثقفون عرب – أميركيون، منهم إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لُغُد وهشام شرابي ووليد الخالدي في أواخر سبعينيّات القرن الماضي، اعتقاداً منهم بجدوى الاتصال بالبيت الأبيض لفتح قناة دبلوماسية مع منظمة التحرير، وفشلوا تماما في ذلك، ولم يقدّروا حماقة تلك السياسة إلّا في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن نجحت الولايات المتحدة في احتواء منظمة التحرير الفلسطينية وتوقيع اتفاق أوسلو.
عند توقيع معاهدة “كامب ديفيد” في العام 1979 مع مصر، لم تَغِب قيادة م ت ف عن مساعي حضور القمة والتوسل لدى شخصيات قيادية أميركية في إدارة الرئيس كارتر، ولا سيما مستشاره للأمن القومي زبغنيو بريجينسكي وعضو المجلس لشؤون الشرق الأوسط ويليام كوانت.
تردد آنذاك أن شخصيتين فلسطينيين ذات طابع أكاديمي أدتا دوراً مباشراً في التواصل مع الرئيس السادات، الأولى كان الدكتور هشام شرابي، والثانية الدكتور ادوارد سعيد، الذي سنعود لدوره لاحقاً.
بموازاة المهام المتوقعة من “جيمس زغبي” وامتداداته المحدودة لدى دوائر صنع القرار الأميركي، استثمرت القيادة الفلسطينية مساعي اتصالاتها في مؤسستين في توقيت متزامن، تحت ضغط التيار الوطني لدى الجالية في أميركا، للتقرب من القطاعات “التقدمية والليبرالية” الأميركية، دون أن تتخلى عن مساعيها “لفتح خطوط تواصل مع المنظمات اليهودية.”
أولى المؤسستين كانت “منظمة الخريجين العرب Arab-American University Graduates – AAUG”، التي شكلت ثقلاً معتبراً داخل الصرح الأكاديمي الأميركي بأساليب علمية عصرية، والثانية “المجلس الفلسطيني في أميركا الشمالية – Palestine Congress of North America”، الذي شكل حاضنة لكل المنظمات الشعبية والطلابية الفلسطينية على الساحة الأميركية.
تداعيات خروج القوات المسلحة الفلسطينية من لبنان في أيلول/سبتمبر 1982 تُرجم سياسياً لناحية تعاظم طابع التفاوض ونسج علاقات علنية مع المنظمات اليهودية في أميركا، بمواكبة تراجع زخم النشاط الفلسطيني عما سبق في الولايات المتحدة، وبدأنا نلمس محاولات “جريئة” من أنصار القيادة الفلسطينية للتماثل مع السردية الصهيونية، لا سيما في مسألة “المحرقة،” وتبني مصطلح “دولة اسرائيل” كجسر عبور لطلب ودّ المنظمات النافذة في صنع القرار الأميركي.
احتكار “عقدة الضحية” وإهانة عرفات
السردية الصهيونية المتمثلة بالتسليم وتبني الآخر رواية “المحرقة” كانت على رأس أولويات المنظمات الصهيونية، تارة تحت اتهام الناشطين العرب بمعاداة السامية، وأخرى لرفضهم الإقرار بما تعرّض له اليهود على أيدي ألمانيا النازية.
في الشطر الأخير من شهر كانون الثاني/يناير 1998 كان رئيس م ت ف، ياسر عرفات، على موعد لزيارة واشنطن لجولة تفاوضية مع الرئيس كلينتون وبنيامين نتنياهو. وأقدم على اتخاذ “خطوة تصالحية” مجانية بطلب مسبق لزيارة “متحف الهولوكوست” في واشنطن العاصمة، عبر عضوي مجلس إدارته وأعضاء إدارة كلينتون في الآن عينه، دينيس روس ومساعده آرون ميللر. وجاءه رد مجلس الإدارة برفض سريع لطلبه “كضيف شرف.”
شعور عرفات بالإهانة لم يكبح أو يعيق مساعيه للتقرب من اليهود وسردية الهولوكوست، فقام بزيارة متحف الشابة اليهودية “آن فرانك” في امستردام في 30 آذار/مارس 1998، مؤكداً للطواقم الصحافية أنه قام بالزيارة “ليرى بأمّ العين واقع وحقائق المعاناة التي تعرضوا لها.”
سعى عدد من الكفاءات العلمية والنشطاء، عرباً وأجانب في أميركا، عقد مؤتمر في بيروت عام 2001 لمناقشة أهداف استغلال سردية “المحرقة” وتفنيدها، فتدخّل اللوبي الصهيوني بقوة للضغط على رئيس الوزراء اللبناني آنذاك رفيق الحريري الذي ألغى استضافة المؤتمر.
برز في تلك الأثناء دور الاستاذ الجامعي الفلسطيني ادوارد سعيد في مناهضته تنامي تيار لتفنيد سردية المحرقة كحدث استثنائي استهدف اليهود دون غيرهم. وصَفَ سعيد في مقابلة مع صحيفة “الغارديان” البريطانية مسعى التيار بأنه “يرتقي لمرتبة معاداة السامية.. ومحاولة غير مجدية تؤدي لنتائج عكسية في سياق مكافحة الصهيونية.”
وفي معرض تأبين الصحيفة اللندنية لإدوارد سعيد في 26 أيلول/سبتمبر 2003، أوضحت أن سعيداً “واجه معارضة من الفلسطينيين الذين اتهموه بالتضحية بالحقوق الفلسطينية عبر تقديم تنازلات غير مبررة للصهيونية.”
وأردفت على لسان إدوارد سعيد قوله في العام 1977 “لا انكر مزاعم” اليهود في فلسطين، بموازاة “إقرار حفنة قليلة من الفلسطينيين وتسليمها بالروابط التاريخية لليهود في فلسطين.”
نال ادوارد سعيد عضوية “المجلس الوطني الفلسطيني” كمستقل في العام 1997، مدشّناً دوره الجديد بتبني سياسة “حل الدولتين ونبذ الكفاح المسلح،” التي أضحت سياسة رسمية للمجلس في العام 1988. ورحبت به وسائل الإعلام الأميركية منذئذ كسياسي يبرر “التنازل التاريخي للفلسطينيين نحو الدولة اليهودية.”
تماثَل إدوارد سعيد مع الرواية الصهيونية بوعي وإصرار، ونحن لسنا بصدد تقييم انجازاته ومساهماته الفكرية والعلمية التي أبرزها مخطوطته الشهيرة “المسألة الفلسطينية” 1992، للتدليل على خطورة ما أرساه من توجهات، وما استتبعها من اختراق في الوعي الجمعي بإسهامات متتالية. ولا يزال اسم إدوارد سعيد مقروناً بالفرقة الموسيقية التي أنشأها شراكة مع “الموسيقي الاسرائيلي” دانيل بارينبوم عام 1999، كإنجاز تطبيعي ناعم.
التطبيع الفكري والسياسي عربياً
لم تتوانَ الإدارات الأميركية المتعاقبة عن اشتراطاتها من كال الأطر النشطة والنخب الفكرية والأكاديمية، سواء في الساحة الأميركية أو في الوطن العربي بأكمله، العمل من أجل “إنهاء كل أشكال المقاطعة لإسرائيل، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية كاملة معها،” كمقدمة لتسهيل تمويل نشاطاتها، عبر وكالتها الدولية للتنمية “يو أس إيد،” أو منظمات رديفة أو جمعيات خيرية.
الغزل الديبلوماسي، فلسطينياً وعربياً، للمنظمات اليهودية الأميركية ومفاصل القرار السياسي، بدأ بقوة مع اتفاقيات “كامب ديفيد،” واشتد عوده، واتسعت نشاطاته، وتنوعت أدواته، بعد تبني “م ت ف” الاعتراف “بالكيان الإسرائيلي” في العام 1988.
التنازل الرسمي لـ “م ت ف” شكل عاملاً مشجعاً لبروز عناصر حديثة العهد بالحضور السياسي أو الإنتاج الأكاديمي المتواضع في الساحة الأميركية، لكنها ارتأت الدخول من بوابة تبنيها السرديّة الصهيونية بالكامل، وكوفِئت بعضوية بعض مراكز الأبحاث “المؤثرة،” وكذلك بنشر اسهاماتها الضارة بالقضية العربية في كبريات الصحف الأميركية وغيرها.
بادرت إدارة الرئيس بيل كلينتون، عقب توقيع عرفات على اتفاق اوسلو، المسمى “إعلان المباديء،” في البيت الأبيض، والذي تضمّن تنازله عن فلسطين، بحثّها الخطى لتجسيد الاعتراف “بالكيان الاسرائيلي” ببرامج “اقتصادية-سياسية” متعددة، رفدتها بشخصيات عربية وفلسطينية، أبرزها كان برنامج “بنّاؤو السلام،” ورديفه مخيمات “بذور السلام” للشباب “الفلسطيني والاسرائيلي،” والأول أشرف عليه وترأسه نائب الرئيس آل غور، بشراكة من جيمس زغبي، في العام 1995، لدعم “نمو الاقتصاد الفلسطيني عبر أطر اتفاقيات أوسلو للسلام.”
نظراً إلى ضيق المساحة، سنفرد بعض الأمثلة للتدليل على مدى الاختراق الصهيوني لتلك النخب المستجدة في الساحة الأميركية، فلسطينياً وعربياً.
فلسطينياً، تصدر مهام التطبيع عقب غزو العراق واحتلاله الطبيب المقدسي زياد العسلي، بتأسيسه منظمة “فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين
American Task Force for Palestine،” بتمويل سخي من مصادر “بعضها كان أثرياء فلسطينيين يدعمون حل الدولتين،” وكذلك من قيادات “م ت ف.”
وقد استُقبل العسلي بحرارة من كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية و”الإسرائيلية،” ولا سيما صحيفة “هآرتس” وإذاعة “صوت أميركا” وشبكات “فوكس نيوز” و “سي ان ان”، واستِضافَتِه للإدلاء بشهادة أمام لجان الكونغرس للترويج لحل الدولتين.
وفي العام 2007، انضم العسلي إلى الوفد الأميركي برئاسة نائب وزير الخارجية، كارين هيوز، لزيارة “الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية،” والاحتفال بإطلاق “برنامج مبادة الاستثمار للشرق الأوسط،” الذي تبنته وزيرة الخارجية كونداليسا رايس برفقة “رئيس الوزراء الفلسطيني” سلام فياض.
من أبرز انجازات الدكتور زياد العسلي وأخطرها، حضوره حفلاً في “سفارة إسرائيل” في واشنطن لإحياء “ذكرى الاستقلال،” في أيار/مايو 2012، والتقاطه صوراً تذكارية مع السفير “الإسرائيلي” مايكل أورن، مما اضطر عدداً من أعضاء مجلس إدارة منظمته إلى التحرك والمطالبة بإقالته ومستشاره الإعلامي حسين إيبش. وانتهت بعد ذلك منظمة العسلي.
استقطب “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى Washington Institute،” المؤسسة الفكرية للوبي “الإسرائيلي،” وربما الأشد تأثيرا، الناشط السابق في الحركة الطلابية بالجامعة الأميركية في بيروت، محمد الدجاني الداودي، وأفرَدَ له ولآخرين من “مستشارين للسلطة الفلسطينية،” عضوية المعهد مُسنداً إليه مهمة التصدي للرفض العربي والفلسطيني لمسألة توظيف الهولوكوست.
وجاء في مقال مشترك نشرته صحيفة “نيويورك تايمز،” في 29 آذار/مارس 2001، للدجاني ورئيس المعهد روبرت ساتلوف “لماذا يتعين على الفلسطينيين معرفة الهولوكوست،” رداً على وصف الثنائي رفض الشعب الفلسطيني مساعي وكالة الإغاثة الدولية للفلسطينيين (الأونروا) ادراج الهولوكوست في المنهاج الدراسي لطلبة الوكالة في قطاع غزة.
وعرّف الثنائي هويتهما بالقول: “نحن – مسلم-فلسطيني وعالم اجتماع، والآخر مؤرخ يهودي-أميركي – نعتقد أن الجواب هو نعم، نظراً إلى حرمان الطلبة العرب من دراسة تاريخهم الخاص وكذلك التاريخ العالمي.” ساتلوف يشغل منصب “المدير التنفيذي” للمعهد المذكور.
فلسطينياً أيضاً، برز الدكتور شبلي تلحمي، الذي يشغل استاذاً لكرسي بيغن-السادات للسلام والتنمية في جامعة ماريلاند، في العام 1997، بتمويل من جيهان السادات. اتخذت اسهاماته منحى استطلاعات الرأي “في المجتمعات العربية،” لقياس مدى ترويضها وقبولها للسردية اليهودية والأميركية معاً.
بحسب رأي “معهد واشنطن،” فإن “تلحمي يُعتبر من بين الخبراء الأكثر احتراماً وفكراً ومعرفة وتوازناً في هذا المجال الفكري المليء بالاستقطابات.”
ولقي كتابه بعنوان “العالم بعيون عربية،” 2011، إطراءً عالياً من “معهد واشنطن” في مراجعته الوافية للكتاب في “شتاء 2014،” قائلا بالاستناد إلى مضامينه: “من المثير للاهتمام.. أن السكان العرب الذي يقطنون إسرائيل يشعرون بالتعاطف مع ضحايا الهولوكوست اليهود بنسبة تزيد في المتوسط 4 مرات عن العرب الذين يقطنون ست دول عربية شملها الاستطلاع، وهي مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والمغرب ولبنان والإمارات العربية المتحدة.. في المتوسط المرجح، أن ثلثي هؤلاء الذين تم استطلاع رأيهم في الدول العربية الست سوف يقبلوا حل الدولتين من أجل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بينما يرى ربع السكان فقط في هذه الدول أنه ينبغي على العرب مواصلة القتال مع إسرائيل إلى الأبد.”
عربياً، برزت عناصر تتبنى الموقف الأميركي-الصهيوني وسرديته من أمثال اللبناني فؤاد عجمي، الذي صعد نجمه صهيونياً وأميركياً في الساحة في الثمانينيات، وطرح نفسه على أنه من أتباع المؤرخ الصهيوني برنارد لويس (لحق به فيما بعد العراقي كنعان مكيّة في أوائل التسعينيات، وإن افتقد الأخير لأي موهبة، ما عدا الدعاية السياسية الفجّة لقصف العراق دون هوادة منذ عام 1991 وحتى احتلال بغداد).
كما برز الكاتب والمحاضر الجامعي اللبناني غيلبير الأشقر، مدّعي الانتماء للماركسية، في الساحة الأكاديمية بقوّة وسرعة ملحوظتين، بعد نشره كتابه بعنوان “العرب والهولوكوست،” في العام 2010، معللاً اطروحته للصحافة الأجنبية بأن “الهولوكوست كانت تطهيراً عرقياً، وكانت أيضاً مأساة أكبر بكثير من عذابات الفلسطينيين منذ عام 1948.” (التشديد من عندنا).
واضاف الأشقر “أعتقد أيضاً أن نكران الهولوكوست في العالم العربي خطأ ومخادع وضارّ لقضية العرب والفلسطينيين.” (صحيفة “جروساليم بوست،” 15 أيار 2010.)
شكلت مرحلة غزو العراق واحتلاله انتكاسة جديدة للعمل الوطني في الساحة الأميركية، رافقها تصعيد في مساعي التقرب والتماهي مع المنظمات الصهيونية على أرضية تخلّي “الجانب العربي” عن الحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حقه في العودة لوطنه.
في مطلع الألفية الثانية، شهدت الساحة الأميركية إرهاصات متعددة لتحديد أفق النشاطات الوطنية على قاعدة التمسك بالقضية المركزية للأمة العربية، واجهتها تحركات معاكسة بتمويل سخي ومتعدد الهويات عبر استمرار التودد مع المنظمات اليهودية الأميركية.
لضيق المساحة المتاحة سنتناول مسعىً بدأ بأعضاء برلمانيين في بريطانيا، في العام 2000، وانتقل إلى الولايات المتحدة، 2004، عنوانه “التيقن من تمثيل الفلسطينيين المغيبين من اتفاقيات اوسلو،” وايجاد حل لمسألة اللاجئين في أماكن تواجدهم.
انطلق الجهد الاوروبي تحت مظلتي “سيفيتاس” و “بانوراما،” وحاولت “مديرة سيفيتاس” السيدة كرمة النابلسي من مقرها في جامعة اوكسفورد، انشاء منظمات رديفة في مدن الكثافة السكانية الرئيسة في أميركا، خلال جولة شملت معظم المدن الكبرى، بتمويل سخي من الاتحاد الاوروبي، كما أوضحت أدبيات سيفيتاس. انصبّت جهود النابلسي ومموّليها على استغلال حالة الاحباط العامة وغياب الأفق السياسي لـ “م ت ف” وقياداتها، ولاقت تجاوباً من بعضهم في البداية.
كما لا بد من الإشارة أن تلك الفترة الزمنية التي اعقبت غزو العراق واحتلاله شهدت تحركات حثيثة موازية في اتجاه مماثل لاستقطاب النخب الفكرية والسياسية والعلمية، فلسطينياً وعربياً، في الساحة الأميركية، أرضيتها الاعتراف “بالكيان الاسرائيلي” وحجز موقع قدم في مسار التسوية.
تلك التحركات عمّرت فترة أطول عن مثيلاتها الأخريات، لكونها أتت بدعم وتمويل قَطَري مباشر عبر عضو الكنيست السابق عزمي بشارة، في الشق الفلسطيني الصرف.
يلاحظ تنامي المساعي الخليجية، وخاصة القَطَرية والإماراتية والسعودية، وتنافسها لتشكيل مؤسسات ومراكز دراسات خاصة بها في واشنطن، تعمل على شكل لوبي، وبحرص شديد على تجنّب تناول طرح القضية الفلسطينية ارضاءً لطلبات المنظمات الصهيونية النافذة في الداخل الأميركي، لا بل تتصرف على أساس أن التقارب معها يشكل الضمانة لتحقيق نفوذ داخل الإدارات الأميركية.
التيار الإسلامي والإحتواء الأميركي
مساعي تنظيم الجاليات الإسلامية يعود الى عام 1963 بتأسيس “الرابطة الإسلامية لأميركا الشمالية،” فرع تنظيم جماعة الإخوان، وحلقة الوصل بين التنظيم الأم والبيت الأبيض، كما تدل أدبياتها، تحولت إلى “الرابطة الإسلامية لأميركا الشمالية ISNA، في العام 1981، بتمويل سخيّ من السعودية. قدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة تسهيلات ملحوظة لتلك التنظيمات، مدركة التقاطع في المصالح لمواجهة الخطر الشيوعي الذي كان الإتحاد السوفياتي يمثله.
شهدت العلاقة الرسمية الأميركية مع الإخوان تقلبات بحسب التطورات وكيفية توظيف العلاقة لصالح الأجندة الأميركية، من التعاون الوثيق خلال التدخل السوفياتي في افغانستان او الغزو الاميركي للعراق، الى حالة من التوجس والملاحقة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر، في ظل حالة الهلع والإسلامافوبيا التي شهدتها أميركا.
اشتدت حملة الملاحقة النشطة للمنظمات العربية المؤيدة للقضية الفلسطينية، وخصوصاً حركة حماس، في أعقاب هجمات أيلول/سبتمبر 2001، وشكلت نقطة تحوّل في توجهات وأجندات المنظمات الإسلامية، الطلابية والمجتمعية على السواء، وحرصت على تأكيد انتمائها والمبالغة بولائها للمجتمع الأميركي.
ولكن الأجهزة الأميركية تغاضت عن نشاط بعضها، وشجعت على بروز دور “رجال الدين” في صدارة النشاطات، أبرزها كان “المجلس الإسلامي الأميركي” الذي قامت السلطات الأمنية في عام 2003 باعتقال مديره التنفيذي عبد الرحمن العمودي بتهمة انتهاكه لقرار مقاطعة نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا وتلقي أموال منه.
المنظمة الأخرى التي برزت فهي “مجلس العلاقات الأميركية – الإسلامية – كير،” وريثة حركة الإخوان المسلمين، التي تأسست في العام 1994، تحت ستار منظمة للحقوق المدنية، ما دام سلّم أولوياتها لا يتضمن دعم القضية الفلسطينية.
يشار إلى حرص الحكومات الأميركية على عدم إدراج التنظيمات الإسلامية ضمن “المنظمات الإرهابية،” لا سيما إبان عهد الرئيس الأسبق باراك اوباما، وانفتاحه على التنظيم الأم (مصر) لفترة وجيزة، واختياره عناصر إخوانية كهمزة وصل بين إدارته والمنظمات الإسلامية، منهم المحامي السوري مازن الأصبحي، ولاحقاً السوداني محمد ماجد، رئيس مؤسسة ADAMS في ضواحي واشنطن العاصمة، الذي شارك الحاخام روبرت نوسانشوك (Robert Nosanchuk) بمبادرة لبناء الجسور بين التجمعات الدينية، وعُيّن كمستشار في كل من وزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفيدرالي.
طُلب من “كير” بدهاء، واستجابت لشروط التعاون الأمني مع الأجهزة الأميركية المعنية، “لمراقبة أي نشاط داخل الجالية ومساجدها يمكن تصنيفه دعما للإرهاب،” حسب التعريف السياسي الأميركي المقتصر على مناهضة السياسات الأميركية.
وهكذا حصرت تلك الأطر أنشطتها بالعمل المدني وحقوق أتباعها في التأقلُم والاندماج في العملية الانتخابية وإشاعة التقارب الديني، وخاصة مع المعابد والمنظمات اليهودية، في مسار تكاملي مع توجهات الأسرة السعودية الحاكمة، وايضا مع أسرة آل ثاني الحاكمة في قطر، والتي تساهم في تقديم الدعم المالي لـ “كير” تحت شعار “حوار الأديان.”
حركة مقاطعة “اسرائيل”
نمت حركة المقاطعة الإقتصادية والثقافية والأكاديمية والفنية “لإسرائيل” في الولايات المتحدة “بي دي أس،” بالدعوة إلى سحب الاستثمارات من “إسرائيل،” وحققت نجاحات مهمة على صعيد الشركات التي امتنعت عن التعامل مع دولة “الإحتلال.”
وكذلك، تصاعدت النشاطات الطلابية في العديد من الجامعات الأميركية، مما دفع المنظمات الصهيونية إلى محاربة حركة المقاطعة بشراسة، إلى درجة تدخل الكونغرس لإصدار قرارات تجرّم المقاطعة. وقد حذت بعض الولايات التي يحكمها جمهوريون حذوه إلى تشريعات مماثلة.
أجواء “التسوية السياسية” ومسارها اقتضى إقلاع مناضلي الأمس من فلسطينيين وعرب عن التحالفات التقليدية في المجتمع الأميركي، بين الأقليات والمضطهدين والسكان الأصليين، التي بنيت عبر العقود الماضية، وأثمرت دعماً وتأييداً لا ينبغي تجاهله.
التشكيلات الناجمة عن تغيير البوصلة السياسية لم تصمد طويلاً أو تترجم مسار “الاعتراف بالكيان الاسرائيلي” بانجازات موازية أقلها الاعتراف بالحقوق “المشروعة” للشعب الفلسطيني.
تجدر الإشارة إلى أن أخطر أنواع التطبيع هو ما نشهده من سعي لإختزال الحقوق الفلسطينية بما يتم الترويج له من مشاريع اقتصادية وتعويضات أو تجنيس للاجئين في دول الشتات. وما يُدعى بـ”صفقة القرن” هو التجسيد المتجدد لمحاولات وأد القضية الفلسطينية، بذريعة تقديم العون للشعب الفلسطيني.
رابط المصدر: