بدأت التأثيرات والارتدادات الناتجة عن الاشتباكات التي شهدتها عدة مناطق سودانية -على رأسها العاصمة الخرطوم- منذ أكثر من أسبوعين بين قوات الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع في الظهور بشكل تدريجي في النطاقات المحلية والإقليمية للسودان. وبطبيعة الحال، كان انعكاس هذه التأثيرات على الأوضاع الأمنية والقبلية والاجتماعية في الولايات السودانية المختلفة ظاهرًا بشكل أكثر تكثيفًا في إقليم “دارفور” غربي البلاد، الذي كان خلال عقود خلت مسرحًا لاشتباكات دموية اختلطت فيها الاعتبارات السياسية والقبلية.
النقطة الأساسية فيما يتعلق بهذا الإقليم تتعلق بطبيعة التركيبة القبلية فيه، خاصة في القسم الغربي منه “ولاية غرب دارفور” التي تحمل في طياتها بشكل دائم احتمالات قوية لاندلاع اشتباكات على خلفيات عرقية. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم حقيقة المخاطر التي يمثلها استمرار القتال في العاصمة السودانية على الوضع الاجتماعي الأمني الهش في هذا الإقليم، وهو ما بدأت بوادره في الظهور خلال الأيام القليلة الماضية عبر سلسلة من الأحداث الأمنية والاشتباكات الدموية، التي كان مسرحها الأساسي -بجانب المرافق الحكومية- الأسواق ومعسكرات اللاجئين.
الجوانب التاريخية في أزمة إقليم دارفور
يمكن حصر الأسباب الرئيسة لتجذر حالة “الأزمة” في إقليم دارفور في سببين رئيسين: الأول، هو المقومات الجغرافية والاقتصادية لهذا الإقليم، والثاني، هو التكوين العرقي لسكانه. وتبلغ المساحة الكلية لهذا الإقليم نحو ست مئة ألف كيلو متر مربع، ويتكون إداريًا من خمس ولايات وهي: ولاية شمال دارفور وعاصمتها مدينة الفاشر، وولاية شرق دارفور وعاصمتها مدينة الضعين، وولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، وولاية وسط دارفور وعاصمتها مدينة زالنجي، وولاية غرب دارفور وعاصمتها مدينة الجنينة.
والحقيقة أن تماس ولايات هذا الإقليم مع أربع دول هي: ليبيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان كان من العوامل الحاسمة في خلق حالة الأزمة داخلها؛ فقد أدت حالة السيولة السياسية والأمنية في هذه الدول إلى تحويل هذا الإقليم إلى مرتكز لمجموعة من الحركات المسلحة التابعة أو المناوئة لحكومات هذه الدول، خاصة خلال النزاعات المسلحة التي شهدها النطاق الجغرافي المجاور للسودان، مثل الحرب بين ليبيا وتشاد في ثمانينيات القرن الماضي التي كانت من نتائجها تموضع عدد من المقاتلين العرب الموالين للجيش الليبي داخل دارفور، وهو نفس ما حدث خلال التفاعلات الميدانية التي حدثت في أفريقيا الوسطى وتشاد خلال العقدين الأخيرين، ومنها ما صاحب سقوط نظام آنج فيليكس باتاسي في أفريقيا الوسطى عام 2003، أو ما نتج قبلها عن الحرب الأهلية في تشاد.
المقومات الاقتصادية لهذا الإقليم كانت أيضًا -للمفارقة- من الأسباب المهمة لوقوعه بشكل شبه دائم في دائرة الأزمات، حيث يمتلك مقومات زراعية كبيرة على مستوى المحاصيل الزيتية والفواكه – خاصة في جنوبي الإقليم- بجانب ثروة حيوانية ضخمة تمثل نحو 26 بالمائة من الثروة الحيوانية في السودان، و60 بالمائة من صادرات السودان من اللحوم الحية.
الجانب الأهم من هذه المقومات يتعلق بمخزونات ضخمة من الحديد والنحاس ومعادن أخرى، بجانب مناجم كبيرة للذهب في منطقة جبال انجاتا وجبل مون في غرب دارفور، وجبل عامر في ولاية شمال دارفور، واحتياطيات ضخمة من النفط، وأخرى من اليورانيوم، وتشير بعض التقديرات إلى أنها قد تكون ثالث أكبر احتياطيات في العالم.
على مستوى المكونات القبلية، تشير التقديرات الحالية إلى أن تعداد سكان الإقليم يتراوح بين 9 و10 ملايين نسمة، ينتمون في مجملهم إلى نفس الأصول الدينية، لكن مع اختلافات عرقية أساسية تتعلق باللغة والنشاط الاقتصادي. وتعد قبيلة “الفور” من أكبر قبائل هذا الإقليم، وتستوطن القسم الشمالي منه، تضاف إليها مجموعة أخرى من القبائل الموزعة في ولايات الإقليم، منها قبائل ذات أصول أفريقية مثل: “المساليت”، و”الزغاوة”، و”التاما”. وقبائل الرحل ذوي الأصول العربية، ومن أهمها: “المحاميد”، و”بني فضل”، و”الزيادية”، و”البقارة” و”الرزيقات”.
كان انقسام الأنشطة الاقتصادية لهذه القبائل بين قبائل عربية تعمل في الزراعة جنوبي الإقليم وقبائل تعمل بالرعي شماله وغربه، أغلبها من أصول أفريقية، عاملًا أساسيًا في إدخال الإقليم في أتون صراعات داخلية حادة منذ عام 1983، وهو العام الذي ضربت فيه موجة جفاف قوية المناطق الشمالية للإقليم، وأدت إلى نزوح أعداد كبيرة من أفراد قبائل الشمال نحو الجنوب؛ بهدف تأمين المراعي والمياه لقطعانهم، مما أدى بالتبعية إلى نشوب خلافات دموية بين رعاة الشمال ومزارعي الجنوب، تدرجت خلال السنوات اللاحقة لتصبح اشتباكات قبلية واسعة النطاق.
عام 2003 ودخول الإقليم في حالة “الحرب الأهلية”
استمر تصاعد الأوضاع وتدهورها في الإقليم بين القبائل ذات الأصول العربية وغير العربية خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث تحولت العلاقة بين الجانبين إلى صراع ثنائي الاتجاهات يستهدف فيه كل طرف أولًا السيطرة على الكم الأكبر من المقدرات الاقتصادية داخل الإقليم -بالنظر إلى اكتشاف الذهب في مناطق شمال وغرب الإقليم- وثانيًا تعديل الوضع الديموجرافي للإقليم بشكل يخدم توجهات كل طرف.
وهو وضع انخرطت فيه الحكومة المركزية في الخرطوم نتيجة لأن القبائل غير العربية رأت في نهجها تجاه الإقليم “محاولة لترجيح كفة القبائل العربية على المستويين الديموجرافي والاقتصادي”، خاصة حيال بعض القبائل ذات الأصول غير العربية، مثل قبيلة “المساليت”، وهو ما يمكن عدّه المدخل الأساسي لحالة “التمرد” التي سادت الإقليم خلال السنوات اللاحقة.
فقد شرعت القبائل ذات الأصول الأفريقية، وعلى رأسها قبائل “الفور” و”الزغاوة” و”المساليت”، مطلع عام 2001، في تأسيس عدة حركات مسلحة لقتال القبائل العربية والحكومة المركزية، بعد أن اشتبك أفراد قبيلة الزغاوة مع أفراد من قبائل عربية خلال هذا العام، في معركة أسفرت عن عشرات القتلى.
ونتج عن هذا تأسيس قبيلة الزغاوة لـ “حركة تحرير السودان”، التي تمترست في منطقة “جبل مرة” في غربي الإقليم، وبدأت منذ مطلع عام 2003، بمعية حركة مسلحة أخرى هي حركة “العدل والمساواة”، في تنفيذ هجمات منسقة على القوات الحكومية السودانية، والأراضي التي توجد فيها القبائل ذات الأصول العربية، وكان هجوم هاتين المجموعتين على قاعدة الفاشر الجوية شمالي دارفور في أبريل 2003، من أهم الهجمات التي شهدها هذا الإقليم، وشكلت نقطة تحول في علاقة الحكومة المركزية بالإقليم؛ نظرًا إلى أنها كانت دليلًا على تزايد قوة المجموعات المسلحة التابعة للقبائل غير العربية، خاصة في ظل وجود دعم خارجي واضح لهذه المجموعات.
لذا لجأت الحكومة المركزية في الخرطوم إلى تشكيل مجموعات مسلحة مضادة من أفراد ينتمون إلى قبائل عربية الأصل، من بينها قبيلة “البقارة” و”الرزيقات” و”المحاميد”، خاصة القبيلة الأولى التي كان لها دور سابق في إجهاض تحركات احتجاجية سابقة قامت بها قبيلة “المساليت” خلال تسعينيات القرن الماضي، وهذا أدى إلى نشوء ميليشيا “الجنجويد” التي كانت تعد بمثابة “الذراع شبه العسكرية” للحكومة المركزية في الإقليم، ومؤسسها هو موسى هلال الذي ينتمي لقبيلة المحاميد وتولى إدارة هذه الميليشيا التي كانت تعد بمثابة مظلة لتجمع المجموعات المسلحة المصغرة التابعة للقبائل ذات الأصول العربية، والتي بلغ عددها نحو 30 مجموعة.
دخلت ميليشيا الجنجويد مدعومة بالقوات الحكومية السودانية، في مواجهة حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان في معارك عنيفة تخللتها حملات للتطهير العرقي في عدة مناطق بدارفور، وتزامن هذا مع تنسيق بين الحركتين المتمردين في دارفور، وحركات متمردة في ولايات سودانية أخرى، مثل: الحركات المتمردة في جنوب السودان -قبل انفصاله- وكانت تناهز 40 فصيلًا مسلحًا، وحركات التمرد في شرق السودان والبالغ عددها ثلاث فصائل مسلحة، وحركات التمرد في وسط وشمال البلاد وعلى رأسها فصيل الشمال في الحركة الشعبية لتحرير السودان.
ولم تكن هذه المواجهات مقتصرة فقط على الجانب المتعلق بالسيطرة الميدانية المناطقية، بل أيضًا كانت تتمحور حول المقدرات الاقتصادية للإقليم، وشهدت سيطرة ميليشيا الجنجويد على منطقة التنقيب عن الذهب في “جبل عامر”، بعد أن استأصلت قبيلة بني حسين التي كانت تستوطن هذه المنطقة في الأصل.
استمرت الفصائل المسلحة الرئيسة في دارفور في قتال القوات الحكومية وميليشيا الجنجويد، خلال عامي 2003 و2004، على الرغم من تعرض فصيل حركة تحرير السودان إلى حالة انشقاق – على خلفية خلافات حول استمرار الاشتباك مع ميليشيا الجنجويد مما أسفر عن انقسام هذا الفصيل إلى قسمين، الأول، تحت اسم “حركة تحرير السودان” يترأسه عبد الواحد نور الذي ينتمي لقبيلة “الفور” والثاني تحت اسم “حركة جيش تحرير السودان” يترأسه منى أركو مناوي الذي ينتمي لقبيلة “الزغاوة”.
وقد شهد هذا الإقليم خلال الفترات اللاحقة موجات متعاقبة من الاشتباكات المتقطعة التي تخللتها جولات من المفاوضات واتفاقات وقف إطلاق النار، من بينها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أبريل 2005 الذي مهد لاتفاق السلام الذي وقعته الحكومة المركزية في مايو 2006، مع فصيل مني أركو مناوي، تضمن الاتفاق على تقاسم السلطة، وتجريد كافة الميليشيات من السلاح، ودمج عناصر حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة في الجيش السوداني والشرطة.
استمرت الاشتباكات داخل الإقليم خلال السنوات التالية بسبب حقيقة أن ما تم تنفيذه من بنود هذا الاتفاق كان محدودًا، رغم تعيين منى أركو مناوي في منصب كبير مساعدي الرئيس السوداني ورئيس سلطة دارفور الإقليمية الانتقالية، وكذا بسبب عدم شمول فصيل عبد الواحد نور وحركة العدل والمساواة ضمن هذا الاتفاق، وهو ما تسبب في توسع المواجهة بين هذه الفصائل والجيش السوداني لتصل إلى حدود العاصمة، حيث هاجمت حركة العدل والمساواة في مايو 2008 العاصمة السودانية – في مشهد مشابه جدًا للمشهد الحالي في العاصمة- وحينها سيطرت بشكل شبه كامل على القسم الشمالي الغربي من العاصمة “أم درمان”، وكذلك قاعدة “وادي سيدنا” الجوية، لكن استعادت القوات الحكومية السيطرة لاحقًا، ومن ثم وقع الجانبان في فبراير 2010 اتفاقًا لوقف إطلاق النار دخلا بموجبه في مباحثات تمهد لتوقيع اتفاق سلام، لكن تعثرت هذه المفاوضات مرة أخرى بسبب تجدد الاشتباكات في إقليم دارفور.
هذا الوضع دفع مجموعة من الفصائل المسلحة السودانية، على رأسها حركة تحرير السودان وحركة جيش تحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان “الشمال”، إلى تشكيل ما يعرف بـ “الجبهة الثورية السودانية” التي أُعلنت في نوفمبر 2011، وانضمت إليها عام 2013 فصائل مسلحة أخرى على رأسها حركة العدل والمساواة؛ بهدف أن تكون هذه الجبهة مظلة سياسية وعسكرية لأنشطة هذه الفصائل، خاصة أن هذه الجبهة كانت الطرف المفاوض للحكومة السودانية خلال المباحثات التي أفضت لتوقيع اتفاقية “جوبا” للسلام في أغسطس 2020، التي تم اعتبارها بمثابة نقطة النهاية لمرحلة الاقتتال الأهلي في دارفور ومناطق أخرى.
وإن كان هذا الاتفاق قد حمل نقطة ضعف أساسية -قد يكون لها ارتباط بأوضاع متوقعة مستقبلًا في السودان- ألا وهي أن حركة تحرير السودان -فصيل عبد الواحد نور- لم توقع عليه، على عكس حركة جيش تحرير السودان -فصيل أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة، والحركة الشعبية لتحرير السودان “الشمال”، حيث فشلت محاولات الحكومة المركزية في إقناع هذا الفصيل – الذي يعد الأكبر في دارفور- بالانضمام إلى هذه الاتفاقية.
إقليم دارفور في دائرة اشتباكات الخرطوم
بالعودة إلى الأوضاع الحالية في السودان، يجب التنويه إلى أن انخراط إقليم دارفور في جولات القتال الحالية تم على مرحلتين أساسيتين، في المرحلة الأولى -التي تمت خلال الأسبوع الأول للقتال- كان المحفز الأساسي للتوتر هو تحرك ميليشيا الدعم السريع نحو مطار الفاشر في ولاية شمال دارفور، ومطار “صبيرة” قرب مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور؛ بهدف السيطرة عليهما، ضمن الخطة التي كانت تقتضي شل حركة المطارات السودانية الأساسية.
هذا التحرك أدى إلى استنفار القوات الحكومية التي بادرت على مدار عدة أيام بمهاجمة معسكرات الدعم السريع في ولايات شمال دارفور وجنوب دارفور ووسط دارفور، في حين هاجمت ميليشيا الدعم السريع مراكز الشرطة في هذه الولايات، وعلى رأسها قيادة شرطة شمال دارفور. في هذه المرحلة لم تمتد المعارك إلى ولاية غرب دارفور بالنظر إلى أن هذه الولاية تعد معقلًا أساسيًا لميليشيا الدعم السريع، وهي وريث ميليشيات الجنجويد، بعد أن تمت إعادة تشكيلها عام 2013، تحت قيادة محمد حمدان دقلو، المنحدر من قبيلة “الرزيقات”.
المرحلة الثانية بدأت عمليًا في الرابع والعشرين من أبريل عبر هجمات متتالية استهدفت المرافق الحكومية في كل من “نيالا “عاصمة ولاية جنوب دارفور و”الجنينة” عاصمة ولاية غرب دارفور، وقد شملت هذه الهجمات الأسواق الرئيسة، لكن ساهم انتشار وحدات الشرطة في مدينة نيالا في تحجيم هذه الهجمات، التي كان لافتًا أنها حملت صبغة عرقية، بجانب صبغتها الأساسية المتعلقة بالمواجهة بين الدعم السريع والجيش السوداني. هذا اتضح بشكل أكبر من خلال استمرار الاشتباكات في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، التي أسفرت عن تدمير وحرق مواقع عديدة في أحياء الجمارك والثورة والجبل، بما في ذلك مراكز الشرطة، ومقرات الهلال الأحمر السوداني، والمستشفى والسوق المركزي، بجانب 90 بالمائة من معسكرات إيواء اللاجئين الموجودة في المدينة، وهو ما أدى إجمالًا إلى مقتل عشرات الأشخاص، من بينهم نائب مدير شرطة ولاية غرب دارفور.
بطبيعة الحال لم تتضح بشكل يقيني الجهة المنفذة لهذه الهجمات، لكن الأكيد أن العامل العرقي -أو القبلي بالأحرى- اختلط في هذه الهجمات مع العامل المتعلق بانعكاسات المعارك بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع في الخرطوم، خاصة أن الوجود الميداني الأساسي لميليشيا الدعم السريع في ولاية غرب دارفور ما زال متماسكًا، خاصة بعد أن اتضح عدم صحة الأنباء التي تم تداولها في بداية الاشتباكات في الخرطوم عن مقتل قائد قطاع الدعم السريع في ولاية غرب دارفور، اللواء عبد الرحمن جمعة.
الوضع الأمني والقبلي الهش في دارفور عمومًا، والمناطق الغربية المتاخمة للحدود، مضافًا إليه رغبة ميليشيا الدعم السريع في جر الجيش السوداني إلى “حرب استنزاف” داخل دارفور، تقابلها رغبة مضادة من الجيش السوداني؛ لقطع أي إمكانية لإمداد ميليشيا الدعم السريع بالقوات والعتاد من دارفور نحو العاصمة، كانت جميعها عوامل مساهمة في تحقيق هذا الاختلاط في العوامل العرقية والميدانية في غرب دارفور، وبالتالي إنتاج المشهد القائم حاليًا في مدينة الجنينة.
هنا يبدو من الضروري النظر إلى مواقف قيادات مجموعات المسلحة الرئيسة الموجودة في دارفور من الوضع القائم حاليًا في السودان، خاصة موقف حاكم إقليم دارفور وقائد حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، الذي كانت له سابقًا مواقف مناهضة للمكون العسكري ومؤيدة للتيارات المدنية. أعلن “مناوي” موقفه الأساسي من أحداث الخرطوم في السابع والعشرين من أبريل، عبر تغريدة تحدث فيها عن تواصله مع مجموعات مسلحة أخرى، وتوافقه معها على “تحريك قوة عسكرية مشتركة للفصل بين المتحاربين بالتعاون مع السلطات المحلية”.
هذا الموقف لم تتضح آليات تنفيذه، لكن من المعروف أن المجموعات المسلحة الرئيسة والصغيرة في إقليم دارفور، وهي ثماني مجموعات، والتي وقعت على اتفاقية “جوبا للسلام”، تشكل معًا “قوة متحالفة” تتبع والي ولاية غرب دارفور، ومن ثم قد يتم استخدام هذه القوة كوسيلة لإيقاف القتال، أسوة بمبادرات مماثلة تم اتخاذها في ولاية شمال دارفور وجنوب دارفور. لكن في نفس الوقت يشكل هذا التوجه إشارة مقلقة بشأن إمكانية إعادة إنتاج المشهد الذي كان سائدًا سابقًا في دارفور على مستوى الحركات المسلحة، بشكل يقوض اتفاقية جوبا من جهة، ومن جهة أخرى قد يؤدي إلى إعادة إذكاء النزعات الانفصالية في الإقليم.
اللافت أن موقف الحركة المسلحة الأكبر في دارفور، وهي حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد نور، والتي لم توقع على اتفاقية جوبا، كانت ضمن الموقعين على بيان -صدر أيضًا في السابع والعشرين من أبريل- أصدره ما يعرف بـ “الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية” ووقعته عشرات الأحزاب والنقابات المهنية، يدعو إلى إيقاف القتال وإخراج المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية، وهو موقف تفادت من خلاله حركة تحرير السودان إبداء توجه واضح من اشتباكات دارفور أو من الوضع في العاصمة.
خلاصة القول، بالنظر إلى الأحداث التي شهدها إقليم دارفور منذ منتصف شهر أبريل، وحقيقة أن هذه الأحداث -حتى الآن- لم تتحول إلى اشتباكات عرقية كاملة بين القبائل، إلا أن استمرار القتال في العاصمة السودانية والوجود العسكري المهم لميليشيا الدعم السريع في غرب دارفور واستمرار سيطرتها على المقدرات الاقتصادية الأساسية فيه تبقى جميعها مؤشرات ترشح إعادة إنتاج المشهد الميداني السابق في دارفور، في مرحلة ما قبل اتفاق جوبا، ما إذا لم تتم استعادة الاستقرار في العاصمة السودانية، جنبًا إلى جنب مع إنهاء حالة عدم الاستقرار الأمني الموجودة حاليًا في معظم ولايات دارفور، والتي تمثل عنصرًا ضاغطًا على الفصائل المسلحة هناك، كي تعيد انسلاخها عن المنظومة السودانية، وتبادر بتعديل الأوضاع على الأرض.
.
رابط المصدر: