د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
ناضلت الشعوب منذ القدم بالضد من الاستبداد بكل صوره حتى أخذت مفاهيم الحكم وإدارة الدولة معنى أكثر قرباً من الديمقراطية أي أكثر اتفاقاً مع حقوق الإنسان، وتوافقاً مع مبدأ سيادة القانون، وظهرت تجليات ما تقدم في نصوص دستورية وضعت لتؤسس لمرحلة حكم الشعب لنفسه بنفسه أو على الأقل منح الشعب إمكانية التأثير المباشر في الشأن العام، بيد أن المشكلة الحقيقية تظهر في الوثائق الدستورية التي صيغت في العديد من الدول ومنها الدول العربية والإسلامية والعراق تحديداً، إذ نجد التأثير العظيم للحاكم أو الطبقة الحاكمة والذي أو التي تختزل السلطة بأشخاص محددين يدعون الإيمان بالديمقراطية، وحقوق الشعب، وفي الحقيقة هم يكفرون بها جهاراً نهاراً، وهذا ما تحكيه أفعالهم وسلوكياتهم.
يتحرر الشعب في بعض الأحيان من الحاكم المستبد بأي صورة لكنه قد يقع في فخ الديمقراطية الشكلية أو الظاهرية التي تخفي أسوء تطبيقات الاستبداد والتعسف والاستهانة بالإرادة الشعبية، ومجرد وضع نص في الدستور يفيد أن (الشعب مصدر السلطات) أو إن (السيادة للشعب) أو إن (الشعب مصدر شرعية السلطة) وما شاكل ذلك يبقى حبر على ورق فالانتقال إلى حكم الشعب الكامل تعترضه المصالح الذاتية والفئوية الحزبية والتي تتفق من حيث المضمون على ضرورة إسكات الأصوات التي تعارض حكمها المطلق وتحكمها بالبلاد والعباد وان ظاهرياً تبرقعت في الظاهر ببرقع العمل والسعي الجماعي نحو تحقيق المصلحة العامة.
وان كان من ضرورات النظام الديمقراطي تأسيس الأحزاب فالأخيرة تعد بمثابة الروح التي تدب في جسد العمل السياسي كونها تعمل بشكل يومي وحثيث للوصول إلى السلطة أو التأثير بها، وتوكل إليها مهمة إطلاع الرأي العام على الحقائق أو التأثير وصنع الرأي العام المعارض لتوجهات السلطة الحاكمة لترشيد قراراتها وضمان اتفاقها مع مبدأ الشرعية الدستورية والشعبية، إلا ان واقع هذه الأحزاب إن لم يتم ترصين حياتها منذ لحظة ولادتها إلى حين ممارسة عملها ومحاسبتها إن أساءت فلا يصح الكلام عن نظام ديمقراطي سليم بل سيكون نظاماً سقيماً معتلاً.
وسنمثل لما تقدم بأمثلة أهمها:
أولاً: السيادة: فالسيادة صفة لاحقة للسلطات العامة في الدولة وهي كأصل عام ملك الشعب وتتجزأ على شكل أجزاء بعدد أفراد الشعب السياسي، وكل فرد يملك جزءً منها ينتفع به في الانتخابات والاستفتاءات العامة ومن خلاله يتمكن من التأثير في الشأن العام، والسيادة بعد ذلك ستنتقل بشكل صفة تلحق السلطات العامة ليكون بها مظهران داخلي وخارجي ففي الداخل تعلو السلطات العامة بموجبه على جميع السلطات ويتمخض ذلك بقدرتها على وضع قواعد سلوك ملزمة للجميع، وفي الشأن الخارجي تكون سلطة عليا لا يمكن أن تعلو عليها إرادة لدولة أجنبية، لذا يؤكد ميثاق الأمم المتحدة 1945 على أهمية المساواة بين الدول من حيث السيادة، وهي تتمظهر بمظهرين إيجابي يتمثل بالإفصاح عما يحفظ المصالح العليا وسلبي يتمثل بالعلوية.
وان كان الشعب مصدر السيادة أو مالك السيادة أو حسب تعبير الدستور العراقي للعام 2005 في المادة (5)، أن السيادة للقانون والشعب مصدر السلطات وشرعيتها هذا يعني ان المالك الوحيد للسيادة هو الشعب فهو مصدر السلطات وشرعيتها، ويمارس سلطته في انتخاب ممثلين عنه يكونون السلطات العامة والأخيرة ستضع القانون (القانون الذي يسود الجميع، فالسيادة للقانون) فالأمر موكول للشعب فهو مصدر السلطة وما تضعه السلطة هو القانون، ومن هنا حق لنا التساؤل عن سيادة الشعب العراقي؟ التي ذهبت أدراج الرياح بسبب السلوك الاستبدادي للكتل وبعض الأحزاب العراقية التي اختطفت الإرادة الشعبية وأضحت متحكمة بمصادر القوة والنفوذ ورافضة لأي إصلاح من شأنه أن يعيد الحق إلى أهله أي الشعب، ويقلص من منافعها أو يهدد مصالحها لذا سعت تلك الكتل والأحزاب وفي مسرحية ممجوجة إلى عرقلة استقالة الحكومة وحين تقررت استقالتها شعبياً عاقبت الإرادة الشعبية بعرقلة تشكيل حكومة جديدة طوال المدة المنصرمة، ما شكل ويشكل تهديد جدي للمصالح العامة لاسيما في خضم الظروف الراهنة.
ثانياً: المصلحة العامة (النظام العام): مصطلح قانوني وسياسي واسع مقتضاه مجموعة المنافع المادية أو المعنوية ذات الطابع الجماعي والتي يعبر عنها بالصالح العام أو بحسب بعض الفقه هي تماثل النظام العام، فالنظام العام حقيقة الأمر هو مصالح عليا مشتركة محمية بنصوص قانونية نافذة، وعلى السلطات العامة لاسيما التنفيذية والتشريعية أن تسهر على حماية النظام العام وهو ما أشار إليه الدستور العراقي للعام 2005 في أكثر من موضع تارة كقيد على الحريات الخاصة كالمادة (38) التي كفلت حرية التعبير عن الرأي بما لا يتعارض مع النظام العام، وتارة يظهر بصورة التزام قانوني وأخلاقي في صيغة يمين قانوني يقسم بموجبه جميع النواب والوزراء ورئيس الجمهورية بموجب المادة (50) من الدستور أنهم سيحفظون مصالح الشعب.
بيد ان الواقع يحكي شيئاً مختلفاً، فالصالح العام أخر شيء تفكر به الكتل والأحزاب العراقية فهي منشغلة في ترسيخ المحاصصة على جميع الأصعدة ومتنكرة للوعود الانتخابية التي تبرقعت بها في حملاتها الانتخابية بضرورة العمل على إنهاء نظام التوافق السياسي والتحاصص أو نظام الحصص السياسية التي أنهكت قوى الدولة وجعلتها متشظية في مواجهة مجتمع دولي ودول إقليمية طامعة في تفتيت العراق والاستحواذ على خيراته، أو تحويله إلى حديقة خلفية.
ثالثاً: الإرادة الشعبية: وهي إرادة الجماهير الطامحة إلى التغيير والى الحياة الحرة الكريمة والتي يفترض بالجميع احترام ما تفضي إليه من نتائج لاسيما في الانتخابات أو الاستفتاءات العامة، ومظهر الاحترام من قبل الجميع وعلى الأخص من السلطات العامة والكتل السياسية الأحزاب يترجم بصيغتين أساسيتين هما:
1- إصلاح النظام الانتخابي لمنع الالتفاف على الإرادة الجماهيرية.
2- احترام نتيجة الانتخابات كونها تمثل الإرادة العامة، وبالتالي يفترض عدم التأثير بشكل غير مشروع على تلك الإرادة أولاً ومحاولة إرضاء هذه الإرادة العامة بإصلاح الأخطاء إن وجدت.
بيد أنه وللأسف ما تقدم معكوس في العراق بشكل خاص فيما يتعلق بإرادة الجماهير فطالما طالب الشعب بنخبه وجماهيره بتغيير قانون الانتخابات إلا إن النخب الحزبية أصرت على تبني نظام سانت لغو المعدل، لكونه يضمن لها البقاء المستدام في السلطة وبعد الحركة الاحتجاجية الواسعة أواخر 2019 قام البرلمان بالتصويت على قانون انتخابات بشكل ظاهري ليوهم الجماهير انه قد مرر من تحت قبة البرلمان، إلا أن الحقيقة المرة أن البرلمانيين جميعاً رفضوا القانون ومنعوا رئاسة المجلس من إرساله إلى رئاسة الجمهورية للإصدار والنشر، وفيما يخص احترام نتائج العملية الانتخابية وجدنا البرلمان العراقي السابق في الدورة الثالثة رفض النتائج لأنها جاءت مخيبة لأمال بعض السياسيين في الإبقاء على هيمنتهم التامة على المجلس وتسييرهم لجميع مفاصل الدولة أو التأثير فيها من منصة الاستحقاق الانتخابي تارة والاستحقاق القومي تارة أخرى، والاستحقاق السياسي، وكأنهم أوصياء على البلد والإرادة العامة.
رابعاً: حقوق الإنسان: وهي حقيقة كونية أرستها السماء منذ أن خلق الله الخليقة قال تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) ثم تعاقبت الإعلانات والمواثيق الدولية لتؤكد حرمة شخص الإنسان واعلوية حقوقه على السلطة ذاتها بشخوصها وهيئاتها بيد إن المؤسف ما لاحظناه من استهانة بالدم العراقي والكرامة العراقية والأمثلة حاضرة في الأذهان ولا داعي للتمثيل لها.
مما تقدم كان لزاماً علينا التأكيد إن الدكتاتورية الحزبية والاستبداد الذي تمارسه الأحزاب والكتل السياسية في العراق لا يختلف عن الأنظمة الشمولية إلا في الشكل فهو يتفق معها من حيث المضمون والنتائج وللوقوف على سبل العلاج نؤكد الآتي:
1- إصلاح النصوص القانونية الواردة في قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية رقم (36) لسنة 2015 ومنها نص المادة (8) بان يلتزم الحزب بتقديم نظام داخلي يعكس الواقع الديمقراطي، والتبني الصريح للتداول السلمي للسلطة داخل الحزب، والسماح بالمعارضة داخل التنظيم الحزبي لمنع ظاهرة أحزاب الأسر والمنصب الأبدي لرئيس الحزب.
2- إلزام البرلمان بإنجاز تشريع قانون الانتخابات الذي جرى التصويت عليه نهاية 2019 وإرساله إلى رئاسة الجمهورية لغرض الإصدار والنشر.
3- التأكيد على علاقة النائب في البرلمان أو عضو المجلس المحلي المنتخب بدائرته الانتخابية وتقديم تقرير نصف سنوي يعرض على جمهور الناخبين بما قام به من عمل والدوافع وراء مواقفه السياسية وقراراته التي صوت من خلالها، أو ما توصل إليه من نتائج الرقابة الفردية أو الجمعية بواسطة اللجان البرلمانية مثلاً لتكون له نوع من الاستقلالية تجاه الأحزاب الفاسدة التي تتكفل بفوزه بالانتخابات لتختطف إرادته لأربع سنوات وكأنه ممثل عنها وليس ممثلاً عن الشعب.
4- قيام الجهات المختصة بفتح نوافذ تواصل مع المواطنين لتلقي الشكاوى والإخبارات عن كل مخالفة ترتكب من أحد الأحزاب أو الأفراد باسم الحزب أو لمصلحته قبل أو أثناء أو بعد الاستحقاقات الانتخابية.
5- السعي لإنجاز الاستحقاق الانتخابي لتشكيل مجلس نواب ومجالس محافظات وأقضية قبل نهاية العام الحالي.
6- تنظيم الانتخابات العراقية بمشاركة حقيقية للأمم المتحدة والاتحاد الأوربي لوضع لوائح حقيقية بالتشارك مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من شأنها ان تضمن نزاهة وموضوعية الانتخابات، والمساهمة الفاعلة في الرقابة لسير الانتخاب.
7- على جميع الأحزاب والكتل قطع علاقاتها المعلنة وغير المعلنة مع الدول الأجنبية كافة ومنع التأثير السلبي لتك الدول على القرار الوطني، وبخلافه لابد من حل هذه الأحزاب.
8- الامتناع عن التهديد وفرض الإرادات بشكل غير مشروع على السلطات العامة أو بقية الأحزاب أو المكونات، لما له من أثر سلبي على المصلحة الوطنية العراقية.
9- توقيع وثيقة شرف من قبل جميع القوى السياسية في العراق تتضمن المبادئ الدستورية الرئيسة ومنها المحافظة على النظام الديمقراطي وحقوق وحريات الشعب ورعاية المصلحة العامة وغير ذلك على أن يكون التوقيع عليها بمثابة إعلان الوثيقة، وتعديل قانون الأحزاب بفرض عقوبة الحل بحق كل حزب يسعى إلى مخالفة ما تقدم.
10- إلزام جميع الأفراد من الراغبين بالانتماء لأي حزب بالتوقيع على تعهد بالامتناع عن استعمال العنف وكل الأساليب غير المشروعة في العمل السياسي وفي التعامل مع المواطنين.